الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وأما الأذكار ، فكلها لا تقتضي سجود السهو إلا ثلاثة القنوت والتشهد الأول والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فيه بخلاف تكبيرات الانتقالات ، وأذكار الركوع والسجود والاعتدال ، عنهما لأن الركوع والسجود في صورتهما مخالفان للعادة ويحصل بهما معنى العبادة مع السكوت عن الأذكار وعن تكبيرات الانتقالات ، فعدم تلك الأذكار لا تغير صورة العبادة .

وأما الجلسة للتشهد الأول ، ففعل معتاد وما زيدت إلا للتشهد فتركها ظاهر التأثير .

وأما دعاء الاستفتاح والسورة فتركهما لا يؤثر مع أن القيام صار معمورا بالفاتحة ومميزا عن العادة بها وكذلك الدعاء في التشهد الأخير والقنوت أبعد ما يجبر بالسجود ولكن ، شرع مد الاعتدال في الصبح لأجله فكان كمد جلسة الاستراحة إذ صارت بالمد مع التشهد جلسة للتشهد الأول .

فبقي هذا قياما ممدودا معتادا ليس فيه ذكر واجب وفي الممدود احتراز عن غير الصبح وفي خلوه عن ذكر واجب احتراز عن أصل القيام في الصلاة .

التالي السابق


(وأما الأذكار، فكلها لا تقتضي سجود السهو إلا ثلاثة) ، أحدها (القنوت) الراتب، وهو قنوت الصبح، وقنوت الوتر في النصف الثاني من رمضان، وقد أشار إليه الرافعي بقوله: وكون القنوت بعضا لا يختص بصلاة الصبح، بل هو بعض أيضا في الوتر في النصف الأخير من رمضان اهـ، دون قنوت النازلة؛ لأنه سنة في الصلاة لا بعضها، كما صححه في التحقيق، قال الخطيب: والكلام فيما هو بعض القنوت كترك كله؛ قاله الغزالي، والمراد ما لا بد منه في حصوله بخلاف ما لو ترك أحد القنوتين كان ترك قنوت سيدنا عمر رضي الله عنه؛ لأنه أتى بقنوت تام، وكذا لو وقف وقفة لا تسع القنوت إذا كان لا يحسنه؛ لأنه أتى بأصل القيام، أفادنيه شيخي، يعني به الشهاب الرملي.

(و) الثاني (التشهد الأول) ، والمراد: اللفظ الواجب في الأخير دون ما هو سنة فيه، فلا يسجد له كما قاله المحب الطبري، ونبه عليه الإسنوي، وقال الخطيب: واستثني منه ما لو نوى أربعا، وأطلق، وإذا قصد أن يتشهد تشهدين فلا يسجد لترك أولهما، ذكره مجلي في الذخائر، وابن الرفعة عن الإمام، لكن فصل البغوي في فتاويه فقال: يسجد لتركه إن كان على عزم الإتيان به فنسيه، وإلا فلا، وهذا أظهر .

(و) الثالث (الصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم- فيه) ، أي: في التشهد الأول على الأصح من الوجهين، قال شارح المحرر: فإن فيها وجهين أحدهما أنها سنة، فتكون من الأبعاض، وتجبر بالسجود. والثاني أنها فرض، فلا يجبر بل يتدارك، فهذه أربعة من السنن تسمى أبعاضا فيسجد لترك كل منها سهوا كان أو عمدا؛ إلا إن تركه إمامه لاعتقاد عدم سنيته كحنفي ترك قنوت الصبح، فلا يسجد المؤتم به، صرح به [ ص: 107 ] القفال في فتاويه، وهو مبني على طريقته في أن العبرة بعقيدة الإمام، والأصح اعتبار عقيدة المأموم، وقد زاد الرافعي اثنتين على الأربعة، فقال: والحق بهذه الأبعاض شيئان، أحدهما: الصلاة على الآل في التشهد الأول إذا استحسناها؛ تفريعا على استحباب الصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم-، وهذا قد ذكره المصنف في الوجيز في باب السجدات، والثاني: القيام للقنوت إن عد بعضا برأسه، وقراءة القنوت بعضا آخر، حتى لو وقف ولم يقرأ سجد للسهو، وهذا هو الوجه إذا عددنا التشهد بعضا، والقعود له بعضا آخر، وقد أشار إلى هذا الفصل في القنوت إمام الحرمين، وصرح به صاحب التهذيب اهـ .

فهي ستة إذا، وهكذا عدها النووي في الروضة والمنهاج والتحقيق تبعا للرافعي، وقول الرافعي : الصلاة على الآل في التشهد الأول، أي: بعد الأول، وهو وجه في المذهب، وقيل: بعد التشهد الأخير على الأصح، وكذا بعد القنوت؛ لأنها سنة فيه على الصحيح، قاله الخطيب قال: وزيد سابع وهو الصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم- في القنوت، كما جزم به ابن الفركاح، قال شارح البهجة: وصورة السجود لترك الصلاة على الآل في التشهد الأخير أن يتيقن ترك إمامه له، وصورة السجود لترك القيام للقنوت أو القعود للتشهد دونهما أن يسقط استحبابهما عنه؛ لكونه لا يحسنهما، فيستحب القعود والقيام، فإن تركه سجد، فإن قلت: ذكر الأصحاب أن القنوت إنما عد بعضا لكونه ذكرا له محل مخصوص فشابه الأركان، وهذا موجود في أذكار الركوع والسجود والانتقالات، فلم لم تعدوها أبعاضا وتجبر بالسجود كالقنوت؟ فأجاب المصنف بقوله: (بخلاف تكبيرات الانتقالات، وأذكار الركوع والسجود، و) أذكار (الاعتدال عنهما) ، أي: عن الركوع والسجود؛ (لأن الركوع والسجود في صورتهما مخالف) ، كذا في النسخ، أي: كل منهما مخالف .

وفي أخرى مخالفان (للعادة) في الظاهر، (ويحصل بهما معنى العبادة) الذي هو الخضوع والانقياد مع سكون الجوارح، (مع السكوت عن الأذكار) ، فلا معنى لإلحاقها بالأبعاض، (وعن تكبيرات الانتقالات، فعدم تلك الأذكار لا تغير صورة العبادة) ، فلا تلحق بالأبعاض. وقال شارح المحرر: ولا ينقض بتسبيحات الركوع والسجود، فإنها تسقط بسقوط محلها بخلاف القنوت، (وأما الجلسة للتشهد الأول، ففعل معتاد وما زيدت) ، وفي نسخة: وما أريدت (إلا للتشهد) ، أي: لقراءته، (فتركها) أي: الزيادة إذا (ظاهر التأثير) في تغيير صورة العبادة، (وأما دعاء الاستفتاح و) قراءة (السورة) ، وإن كانا من السنن، (فتركهما لا يؤثر) في التغيير (مع أن القيام صار معمورا بالفاتحة) ، أي: بقراءتها (ومميزا عن العادة بها) ، ولولا قراءتها فيه لم يتميز عن قيام العادة، (وكذلك) الحكم (فى الدعاء) الذي يقرأ (فى التشهد الأخير) بعد الصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم-، فإن ترك كل من ذلك لا يجبر بالسجود، (وأما القنوت) في صلاة الصبح، فإنه (أبعد ما يجبر بالسجود، ولكنه) وفي نسخة: ولكن (شرع عند الاعتدال في الصبح) بعد الرفع من الركوع (لأجله) ، أي: لأجل قراءة القنوت، (فكان كمد جلسة الاستراحة) بعد الرفع من السجود (إذ صارت) ، أي: تلك الجلسة (بالمد مع التشهد جلسة للتشهد الأول، فبقي) ، وفي نسخة: فيبقى (هذا قياما ممدودا معتادا) ، أي: موافقا للعادة، (ليس فيه ذكر واجب) ، وقد وصف القيام بالمد والخلو عن الذكر، ولذا قال: (وفي الممدود) أي: وصف القيام به (احتراز عن غير الصبح) فإنه لا مد فيه، (وفي خلوه عن ذكر واجب احتراز عن أصل القيام في الصلاة) ، وهذا التفصيل الذي ذكره المصنف غريب لم يسبق إليه .

وحاصل كلام الأصحاب في هذا البحث أن ما عدت أبعاضا تجبر بالسجود، وهي السبعة المذكورة، وقد ورد في خصوص ترك التشهد الأول ما رواه عبد الله بن بحينة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- صلى بهم الظهر، فقام في الركعتين الأوليين، فقام الناس معه حتى إذا قضى الصلاة، وانتظر الناس تسليمه كبر وهو جالس، فسجد سجدتين قبل أن يسلم، ثم سلم، هكذا لفظ البخاري . وقد أخرجه مسلم أيضا وقيس على هذا الوارد ما بقي من الأبعاض وما عداها من السنن لا تجبر بالسجود لعدم وروده فيها؛ ولأن سجود السهو زيادة في الصلاة، فلا يجوز إلا بتوقيف، فلو فعله لشيء من ذلك [ ص: 108 ] ظانا جوازه بطلت صلاته، إلا أن يكون قريب العهد بالإسلام، أو بعيدا عن العلماء قاله البغوي في فتاويه .

وقال شارح المحرر: ولو ترك سنة من سنن الصلاة غير الأبعاض كتسبيحات الركوع والسجود وتكبيرات الانتقال والتسميع لا فرق في ذلك بين القول والفعل، فإنه لا يجبر بالسجود حتى تكبيرات العيد، وإن كان ذكرا كثيرا؛ لأن غير الأبعاض من قبيل الهيئات كالرمل والاضطباع في الطواف، وترك ذا لا يجبر بالفدية، كذلك هذه السنن لا تجبر بالسجود، ولما روى أبو قتادة أن أنسا جهر في العصر ولم يسجد، ولم ينكر عليه. وما نقل أبو إسحاق عن الشافعي في القديم أنه يسجد لكل مسنون تركه في الصلاة ذكرا كان أو عملا، وكذا إذا جهر فيما يسر أو أسر فيما يجهر، فمرجوع عنه .



(فصل)

ولا يلزم عندنا هذا السجود إلا لترك ما وسم بالواجب سهوا، وإن تكرر، وقد تقدم ذكر واجبات الصلاة آنفا لا لترك سنة؛ لأنه لجبر النقصان، والصلاة لا توصف على الإطلاق بالنقصان بترك سنة، فلا يحتاج إلى الجابر، واحتاج أصحاب الشافعي في تقسيم السنن إلى الأبعاض والهيئات؛ لأنهم لم يفرقوا بين الفرض والواجب على أن بعض ما سموه بعضا هو مقول فيه بالواجب عندنا كالتشهد الأول، فإنه واجب عند أبي حنيفة على الصحيح، وجعله الشافعي سنة، فالسجود لتركه على الاتفاق سواء قلنا لأنه ترك الواجب، أو قلنا ترك بعضا من الأبعاض، والله أعلم .




الخدمات العلمية