الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      وإذ قال موسى لفتاه لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين أو أمضي حقبا فلما بلغا مجمع بينهما نسيا حوتهما فاتخذ سبيله في البحر سربا فلما جاوزا قال لفتاه آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا قال أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره واتخذ سبيله في البحر عجبا قال ذلك ما كنا نبغ فارتدا على آثارهما قصصا فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: " وإذ قال موسى لفتاه . . . " الآية، سبب خروج موسى عليه السلام في هذا السفر، ما روى ابن عباس، عن أبي بن كعب، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: " إن موسى قام خطيبا في بني إسرائيل، فسئل: أي الناس أعلم ؟ فقال: أنا، فعتب الله عز وجل عليه إذ لم يرد العلم إليه، فأوحى الله إليه أن لي عبدا بمجمع البحرين هو أعلم منك ; قال موسى: يا رب فكيف لي به ؟ قال: تأخذ معك حوتا فتجعله في مكتل، فحيثما فقدت الحوت فهو ثم . فانطلق [ ص: 162 ] معه فتاه يوشع بن نون، حتى إذا أتيا الصخرة وضعا رؤوسهما فناما، واضطرب الحوت في المكتل فخرج منه، فسقط في البحر فاتخذ سبيله في البحر سربا، وأمسك الله عن الحوت جرية الماء فصار عليه مثل الطاق . فلما استيقظ نسي صاحبه أن يخبره بالحوت، فانطلقا بقية يومهما وليلتهما حتى إذا كان من الغد، قال موسى لفتاه: آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا، قال: ولم يجد موسى النصب حتى جاوز المكان الذي أمره الله به، فقال فتاه: "أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة . . . " إلى قوله: "عجبا،" قال: فكان للحوت سربا، ولموسى ولفتاه عجبا، فقال موسى: ذلك ما كنا نبغي، "فارتدا على آثارهما قصصا" . قال: رجعا يقصان آثارهما حتى انتهيا إلى الصخرة، فإذا هو مسجى بثوب، فسلم عليه موسى، فقال الخضر: وأنى بأرضك السلام ! من أنت ؟ قال: أنا موسى . قال: موسى بني إسرائيل ؟ قال: نعم، أتيتك لتعلمني مما علمت رشدا . قال: إنك لن تستطيع معي صبرا يا موسى، إني على علم من علم الله لا تعلمه علمنيه، وأنت على علم من علم الله علمكه لا أعلمه، فقال موسى: ستجدني إن شاء الله صابرا ولا أعصي لك أمرا، فقال له الخضر: فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرا ; فانطلقا يمشيان على الساحل، فمرت سفينة فكلموهم أن يحملوهم، فعرفوا الخضر فحملوه بغير نول، فلما ركبا في السفينة لم يفجأ إلا والخضر قد قلع لوحا من ألواح السفينة بالقدوم، فقال له موسى: قوم قد حملونا بغير نول عمدت [ ص: 163 ] إلى سفينتهم فخرقتها لتغرق أهلها . . . إلى قوله: عسرا ؟ ! قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كانت الأولى من موسى نسيانا، وجاء عصفور فوقع على حرف السفينة، فنقر في البحر نقرة، فقال له الخضر: ما علمي وعلمك من علم الله تعالى إلا مثل ما نقص هذا العصفور من هذا البحر، ثم خرجا من السفينة، فبينما هما يمشيان على الساحل ; إذ أبصر الخضر غلاما يلعب مع الغلمان، فأخذ الخضر رأسه فاقتلعه فقتله، فقال له موسى: أقتلت نفسا زاكية إلى قوله: يريد أن ينقض، فقال الخضر بيده [ هكذا ]، فأقامه . فقال موسى: قوم أتيناهم فلم يطعمونا ولم يضيفونا، لو شئت لاتخذت عليه أجرا . قال: هذا فراق بيني وبينك . . . الآية " . هذا حديث صحيح أخرجه البخاري ومسلم في " الصحيحين " ، وقد ذكرنا إسناده في كتاب " الحدائق " ، فآثرنا الاختصار هاهنا .

                                                                                                                                                                                                                                      فأما التفسير فقوله تعالى: " وإذ قال موسى " المعنى: واذكر ذلك . وفي موسى قولان:

                                                                                                                                                                                                                                      أحدهما: أنه موسى بن عمران، قاله الأكثرون . ويدل عليه ما روي في " الصحيحين " من حديث سعيد بن جبير، قال: قلت لابن عباس: إن نوفا البكالي يزعم أن موسى بني إسرائيل ليس هو موسى صاحب الخضر، قال: [ ص: 164 ] كذب عدو الله، أخبرني أبي بن كعب . . . . فذكر الحديث الذي قدمناه آنفا .

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني: أنه موسى بن ميشا، قاله ابن إسحاق، وليس بشيء ; للحديث الصحيح الذي ذكرناه . فأما فتاه فهو يوشع بن نون من غير خلاف، وإنما سمي فتاه ; لأنه كان يلازمه ويأخذ عنه العلم ويخدمه .

                                                                                                                                                                                                                                      ومعنى " لا أبرح " : لا أزال . وليس المراد به: لا أزول ; لأنه إذا لم يزل لم يقطع أرضا، فهو مثل قولك: ما برحت أناظر عبد الله ; أي: ما زلت، قال الشاعر:


                                                                                                                                                                                                                                      إذا أنت لم تبرح تؤدي أمانة وتحمل أخرى أفرحتك الودائع



                                                                                                                                                                                                                                      أي: أثقلتك، والمعنى: لا أزال أسير حتى أبلغ مجمع البحرين ; أي: ملتقاهما، وهو الموضع الذي وعده الله بلقاء الخضر فيه . قال قتادة: بحر فارس، وبحر الروم، فبحر الروم نحو المغرب، وبحر فارس نحو المشرق .

                                                                                                                                                                                                                                      وفي اسم البلد الذي بمجمع البحرين قولان:

                                                                                                                                                                                                                                      أحدهما: إفريقية، قاله أبي بن كعب . والثاني: طنجة، قاله محمد بن كعب القرظي .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: " أو أمضي حقبا " وقرأ أبو رزين، والحسن، وأبو مجلز، وقتادة، والجحدري، وابن يعمر: ( حقبا ) بإسكان القاف . قال ابن قتيبة: الحقب: الدهر، والحقب: السنون، واحدتها حقبة، ويقال: حقب وحقب، كما يقال: قفل وقفل، وهزؤ وهزؤ، وكفؤ وكفؤ، وأكل [ ص: 165 ] وأكل، وسحت وسحت، ورعب ورعب، ونكر ونكر، وأذن وأذن، وسحق وسحق، وبعد وبعد، وشغل وشغل، وثلث وثلث، وعذر وعذر، ونذر ونذر، وعمر وعمر .

                                                                                                                                                                                                                                      وللمفسرين في المراد بالحقب هاهنا ثمانية أقوال:

                                                                                                                                                                                                                                      أحدها: أنه الدهر، قاله ابن عباس . والثاني: ثمانون سنة، قاله عبد الله بن عمرو وأبو هريرة . والثالث: سبعون ألف سنة، قاله الحسن . والرابع: سبعون سنة، قاله مجاهد . والخامس: سبعة عشر ألف سنة، قاله مقاتل بن حيان . والسادس: أنه ثمانون ألف سنة، كل يوم ألف سنة من عدد الدنيا . والسابع: أنه سنة بلغة قيس، ذكرهما الفراء . والثامن: الحقب عند العرب وقت غير محدود، قاله أبو عبيدة . ومعنى الكلام: لا أزال أسير، ولو احتجت أن أسير حقبا .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: " فلما بلغا " يعني: موسى وفتاه، " مجمع بينهما " يعني: البحرين، " نسيا حوتهما " وكانا قد تزودا حوتا مالحا في زبيل، فكانا يصيبان منه عند الغداء والعشاء، فلما انتهيا إلى الصخرة على ساحل البحر وضع فتاه المكتل، فأصاب الحوت بلل البحر . وقيل: توضأ يوشع من عين الحياة فانتضخ على الحوت الماء فعاش، فتحرك في المكتل، فانسرب في البحر، وقد كان قيل لموسى: تزود حوتا مالحا، فإذا فقدته وجدت الرجل . وكان موسى حين ذهب الحوت في البحر قد مضى لحاجة، فعزم فتاه أن يخبره بما جرى فنسي . وإنما قيل: " نسيا حوتهما " توسعا في الكلام ; لأنهما جميعا تزوداه، كما يقال: نسي القوم زادهم، وإنما نسيه أحدهم . قال الفراء: ومثله قوله: يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان [ الرحمن: 22 ]، وإنما يخرج ذلك من الملح لا من العذب . وقيل: نسي يوشع [ ص: 166 ] أن يحمل الحوت، ونسي موسى أن يأمره فيه بشيء ; فلذلك أضيف النسيان إليهما .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: " فاتخذ سبيله في البحر سربا " ; أي: مسلكا ومذهبا . قال ابن عباس: جعل الحوت لا يمس شيئا من البحر إلا يبس حتى يكون صخرة . وقال قتادة: جعل لا يسلك طريقا إلا صار الماء جامدا . وقد ذكرنا في حديث أبي بن كعب أن الماء صار مثل الطاق على الحوت .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: " فلما جاوزا " ذلك المكان الذي ذهب فيه الحوت، أصابهما ما يصيب المسافر من النصب، فدعا موسى بالطعام، فقال: " آتنا غداءنا " ، وهو الطعام الذي يؤكل بالغداة . والنصب: الإعياء . وهذا يدل على إباحة إظهار مثل هذا القول عندما يلحق الإنسان من الأذى والتعب، ولا يكون ذلك شكوى . " قال " يوشع لموسى: " أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة " ; أي: حين نزلنا هناك، " فإني نسيت الحوت " فيه قولان:

                                                                                                                                                                                                                                      أحدهما: نسيت أن أخبرك خبر الحوت . والثاني: نسيت حمل الحوت .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: " وما أنسانيه " قرأ الكسائي: ( أنسانيه ) بإمالة السين [ مع كسر الهاء ] . وقرأ ابن كثير: ( أنسانيهي ) بإثبات ياء في الوصل بعد الهاء . وروى حفص عن عاصم: ( أنسانيه إلا ) بضم الهاء [ في الوصل ] .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: " واتخذ سبيله في البحر عجبا " الهاء في السبيل ترجع إلى الحوت . وفي المتخذ قولان:

                                                                                                                                                                                                                                      أحدهما: أنه الحوت، ثم في المخبر عنه قولان:

                                                                                                                                                                                                                                      أحدهما: أنه الله عز وجل، ثم في معنى الكلام ثلاثة أقوال: أحدها: فاتخذ سبيله في البحر يرى عجبا ويحدث عجبا . والثاني: أنه لما قال الله تعالى: [ ص: 167 ] " واتخذ سبيله في البحر " ، قال: اعجبوا لذلك عجبا، وتنبهوا لهذه الآية . والثالث: أن إخبار الله تعالى انقطع عند قوله: " في البحر " ، فقال موسى: عجبا، لما شوهد من الحوت . ذكر هذه الأقوال ابن الأنباري .

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني: [ أن ] المخبر عن الحوت يوشع، وصف لموسى ما فعل الحوت .

                                                                                                                                                                                                                                      والقول الثاني: أن المتخذ موسى، اتخذ سبيل الحوت في البحر عجبا، فدخل في المكان الذي مر فيه الحوت فرأى الخضر . وروى عطية عن ابن عباس، قال: رجع موسى إلى الصخرة فوجد الحوت، فجعل الحوت يضرب في البحر ويتبعه موسى، حتى انتهى به إلى جزيرة من جزائر البحر، فلقي الخضر .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: " قال " يعني: موسى، " ذلك ما كنا نبغ " ; أي: ذلك الذي نطلب من العلامة الدالة على مطلوبنا . قرأ ابن كثير: ( نبغي ) بياء في الوصل والوقف . وقرأ نافع، وأبو عمرو ، والكسائي بياء في الوصل . وقرأ ابن عامر، وعاصم، وحمزة بحذف الياء في الحالين .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: " فارتدا على آثارهما " قال الزجاج: أي: رجعا في الطريق الذي سلكاه يقصان الأثر . والقصص: اتباع الأثر .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: " فوجدا عبدا من عبادنا " يعني: الخضر .

                                                                                                                                                                                                                                      وفي اسمه أربعة أقوال:

                                                                                                                                                                                                                                      أحدها: اليسع، قاله وهب ومقاتل . والثاني: الخضر بن عاميا . والثالث: أرميا بن حلفيا، ذكرهما ابن المنادي . والرابع: بليا بن ملكان، ذكره علي بن أحمد النيسابوري .

                                                                                                                                                                                                                                      فأما تسميته بالخضر ففيه قولان: [ ص: 168 ]

                                                                                                                                                                                                                                      أحدهما: أنه جلس في فروة بيضاء فاخضرت، رواه أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . والفروة: الأرض اليابسة .

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني: أنه كان إذا جلس اخضر ما حوله، قاله عكرمة . وقال مجاهد: كان إذا صلى اخضر ما حوله . وهل كان الخضر نبيا أم لا ؟ فيه قولان ذكرهما أبو بكر بن الأنباري، وقال: كثير من الناس يذهب إلى أنه كان نبيا، وبعضهم يقول: كان عبدا صالحا . واختلف العلماء هل هو باق إلى يومنا هذا على قولين، حكاهما الماوردي، وكان الحسن يذهب إلى أنه مات، وكذلك كان ابن المنادي من أصحابنا يقول، ويقبح قول من يرى بقاءه ويقول: لا يثبت حديث في بقائه . وروى أبو بكر النقاش أن محمد بن إسماعيل البخاري سئل عن الخضر وإلياس: هل هما في الأحياء ؟ فقال: كيف يكون ذلك وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: " لا يبقى على رأس مائة سنة ممن هو اليوم على ظهر الأرض أحد " .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: " آتيناه رحمة من عندنا " في هذه الرحمة ثلاثة أقوال: [ ص: 169 ]

                                                                                                                                                                                                                                      أحدها: أنها النبوة، قاله مقاتل . والثاني: الرقة والحنو على من يستحقه، ذكره ابن الأنباري . والثالث: النعمة، قاله أبو سليمان الدمشقي .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: " وعلمناه من لدنا " ; أي: من عندنا، " علما " قال ابن عباس: أعطاه علما من علم الغيب .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية