الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 48 ] ولما كانت العادة جارية بأن القن يمتهن ، أخبر تعالى أنه أكرمه عن هذه العادة فقال منبها على أن شراءه كان بمصر: وقال الذي اشتراه أي أخذه برغبة عظيمة، ولو توقفوا عليه غالى في ثمنه من مصر أي البلدة المعروفة، والتعبير بهذا دون ما هو أخصر منه للتنبيه على أن بيعه ظلم، وأنه لم يدخل في ملك أحد أصلا لامرأته آمرا لها بإكرامه على أبلغ وجه أكرمي مثواه أي موضع مقامه، وذلك أعظم من الأمر بإكرامه نفسه، فالمعنى: أكرميه إكراما عظيما بحيث يكون ممن يكرم كل ما لابسه لأجله، ليرغب في المقام عندنا. ولما كانت كأنها قالت: ما سبب إيصائك [لي -] بهذا دون غيره؟ استأنف قوله: عسى أن أي إن حاله خليق وجدير بأن ينفعنا أي وهو على اسم المشتري أو نتخذه أي برغبة عظيمة إن رأيناه أهلا ولدا فأنا طامع في ذلك.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما أخبر تعالى بمبدأ أمره، وكان [من -] المعلوم أن هذا إنما هو لما مكن له في القلوب مما أوجب توقيره [وإجلاله وتعظيمه، أخبر تعالى بمنتهى أمره، مشبها له بهذا المضمون المعلم به -] فقال: وكذلك أي ومثل ما مكنا ليوسف بتزهيد السيارة: أهل البدو تارة، وإكرام مشتريه ومنافسته فيه أخرى مكنا ليوسف في الأرض [ ص: 49 ] أي أرض مصر التي هي كالأرض كلها لكثرة منافعها بالملك فيها لتمكنه من الحكم بالعدل "و" بالنبوة " لنعلمه " بما لنا من العظمة من تأويل الأحاديث أي بترجيعها من ظواهرها إلى بواطنها، فأشار تعالى إلى المشبه به مع عدم التصريح به لما دل عليه من السياق، وأثبت التمكين في الأرض ليدل على لازمه من الملك والتمكين من العدل، وذكر التعليم ليدل على ملزومه وهو النبوة، فدل أولا بالملزوم على اللازم، وثانيا باللازم على الملزوم، وهو كقوله تعالى: فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة فهو احتباك أو قريب منه.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما كان من أعجب العجب أن من وقع [له -] التمكين من أن يفعل به مثل هذه الأفعال يتمكن من أرض هو فيها مع كونه غريبا مستبعدا فردا لا عشيرة له فيها ولا أعوان، قال تعالى نافيا لهذا العجب: "والله" أي الملك الأعظم غالب على أمره أي الأمر الذي يريده، [غلبه -] ظاهر أمرها لكل من له بصيرة: أمر يعقوب يوسف عليهما الصلاة [ ص: 50 ] والسلام أن [لا -] يقص رؤياه حذرا عليه من إخوته، فغلب أمره سبحانه حتى وقع ما حذره، فأراد إخوته قتله فغلب أمره عليهم، وأرادوا أن يلتقطه بعض السيارة ليندرس اسمه فغلب أمره سبحانه وظهر اسمه واشتهر، ثم باعوه ليكون مملوكا فغلب أمره تعالى حتى صار ملكا وسجدوا بين يديه، ثم أرادوا أن يغروا أباهم ويطيبوا قلبه حتى يخلو لهم وجهه فغلب أمره تعالى فأظهره على مكرهم، واحتالت عليه امرأة العزيز لتخدعه عن نفسه فغلب أمره سبحانه فعصمه حتى لم يهم بسوء، بل هرب منه غاية الهرب، ثم بذلت جهدها في إذلاله وإلقاء التهمة عليه فأبى الله إلا إعزازه وبراءته، ثم أراد يوسف عليه الصلاة والسلام ذكر الساقي له فغلب أمره سبحانه فأنساه ذكره حتى مضى الأجل الذي ضربه سبحانه، وكم من أمر كان في هذه القصة وفي غيرها يرشد إلى أن لا أمر لغيره سبحانه! ولكن أكثر الناس أي الذين هم أهل الاضطراب لا يعلمون لعدم التأمل أنه تعالى عال على كل أمر، وأن الحكم له وحده، لاشتغالهم بالنظر في الظواهر للأسباب التي يقيمها، فهو سبحانه محتجب عنهم بحجاب الأسباب.

                                                                                                                                                                                                                                      ذكر ما مضى من قصة يوسف عليه الصلاة والسلام من التوراة: [ ص: 51 ] قال في أواخر السفر الثاني منها: كان يوسف بن يعقوب ابن سبع عشرة سنة، وكان يرعى الغنم مع إخوته، وكان إسرائيل يحب يوسف أكثر من حبه إخوته، لأنه ولد على كبر سنه، فاتخذ له قميصا ذا كمين، فرأى إخوته أن والدهم أشد حبا له منهم، فأبغضوه ولم يستطيعوا أن يكلموه بالسلام، فرأى رؤيا قصها على إخوته فقال لهم: اسمعوا هذه الرؤيا التي رأيت، رأيت كأنا نحزم حزما من الزرع في الزراعة، فإذا حزمتي قد انتصبت وقامت، وإذا حزمكم قد أحاطت بها تسجد لها، قال له إخوته: أترى تتملكنا وتتسلط علينا؟ وازدادوا له بغضا لرؤياه وكلامه، فرأى رؤيا أخرى فقال: إني رأيت رؤيا أخرى، رأيت كأن الشمس والقمر وأحد عشر كوكبا يسجدون لي، فقصها على أبيه وإخوته، فزجره أبوه وقال [له -]: ما هذه الرؤيا؟ هل آتيك أنا وأمك وإخوتك فنسجد لك على الأرض؟ [ ص: 52 ] فحسده إخوته، وكان أبوه يحفظ هذه الأقاويل.

                                                                                                                                                                                                                                      وانطلق إخوة يوسف يرعون غنمهم في نابلس فقال إسرائيل ليوسف : هو ذا إخوتك يرعون في نابلس ، هلم أرسلك إليهم! فقال: هأنذا! فقال أبوه: انطلق فانظر كيف إخوتك وكيف الغنم؟ وائتني بالخبر، فأرسله يعقوب عليه الصلاة والسلام من قاع حبرون، فأتى إلى نابلس، فوجده رجل وهو يطوف في الحقل فسأله الرجل وقال: ما الذي تطلب في الحقل؟ فقال أطلب إخوتي، دلني عليهم أين يرعون؟ قال له الرجل: قد ارتحلوا من هاهنا، وسمعتهم يقولون: ننطلق إلى دوثان، فتبع يوسف إخوته فوجدهم بدوثان، فرأوه من بعيد، ومن قبل أن يقترب إليهم [هموا -] بقتله، فقال بعضهم لبعض: هو ذا حالم الأحلام قد جاء، تعالوا نقتله ونطرحه في بعض الجباب، ونقول: قد افترسه سبع خبيث، فننظر ما يكون من أحلامه! فسمع روبيل فأنقذه من أيديهم وقال [لهم -]: لا تقتلوا نفسا، ولا تسفكوا دما، بل ألقوه في هذا الجب الذي في البرية، ولا تمدوا أيديكم إليه، وأراد أن ينجيه من أيديهم ويرده إلى أبيه.

                                                                                                                                                                                                                                      فلما أتى يوسف إخوته خلعوا عنه القميص ذا الكمين الذي [ ص: 53 ] لبسه، وأخذوه فطرحوه في الجب فارغا لا ماء فيه، فجلسوا يأكلون خبزا فمدوا أبصارهم فرأوا فإذا رفقة من العرب مقبلة من جلعاد - وفي نسخة: من الجرش - وكانت إبلهم موقرة سمنا ولبنا وبطما، وكانوا معتمدين إلى مصر فقال يهوذا لإخوته: ما متعتنا بقتل أخينا وسفك دمه؟ تعالوا نبيعه من العرب، ولا نبسط أيدينا إليه لأنه أخونا: لحمنا ودمنا، فأطاعه إخوته، فمر بهم قوم تجار مدينيون، فأصعدوا يوسف من الجب وباعوه من الأعراب بعشرين درهما، فأتوا به إلى مصر .

                                                                                                                                                                                                                                      فرجع روبيل إلى الجب فإذا ليس فيه يوسف ، فشق ثيابه ورجع إلى إخوته وقال لهم: أين الغلام؟ إلى أين أذهب أنا الآن؟ فأخذوا قميص يوسف عليه الصلاة والسلام فذبحوا عتودا من المعز ولوثوا القميص بدمه وأرسلوا به مع من أتى به أباهم وقالوا: وجدنا هذا، أثبته هل هو قميص ابنك أم لا؟ فعرفه وقال: القميص قميص ابني، سبع خبيث افترس ابني يوسف افتراسا، فحزن على ابنه أياما كثيرة، فقام جميع بنيه وبناته ليعزوه فأبى أن يقبل العزاء وقال: أنزل إلى القبر وأنا حزين [ ص: 54 ] على يوسف ، فبكى عليه أبوه. وباع المدينيون يوسف من قوطيفر الأمير صاحب شرطة فرعون - انتهى، وفيه ما يخالف ظاهرة القرآن ويمكن تأويله - والله أعلم.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية