الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 56 ] ولما أخبر تعالى أن سبب [النعمة -] عليه إحسانه، أتبعه دليله فقال: وراودته أي راجعته الخطاب ودارت عليه بالحيل، فهو كناية عن المخادعة التي هي لازم معنى راد يرود - إذا جاء وذهب التي هي متمكنة منه غاية المكنة بكونه هو في بيتها وهو في عنفوان الشباب عن نفسه أي مراودة لم تكن لها سبب إلا نفسه، لأن المراودة لا يمكن أن تتجاوز نفسه إلا بعد مخالطتها - كما تقول: كان هذا عن أمره، وذلك بأن دارت عليه بكل حيلة ونصبت له أشراك الخداع وأقامت حينا تفتل [له -] في الذروة والغارب، وذلك لأن مادة "راد" واوية ويائية بجميع تقاليبها السبعة: رود، ودور، وورد، "ودير" وردى، وريد، ودرى - تدور على الدوران، وهو الرجوع إلى موضع الابتداء، ويلزم منه القصد والإتيان والإقبال والإدبار والرفق والمهلة وإعمال الحيلة وحسن النظر، وربما يكون عن غير قصد فتأتي منه الحيرة فيلزم الفساد والهلاك، يقال: دار فلان يدور - إذا مشى على هيئة الخلقة، والدهر دواري - لدورانه بأهله بالرفع والحط، والدوار: شبه دوران في الرأس، ودارة القمر معروفة، والدائرة: الحلقة والدار [ ص: 57 ] تجمع العرصة والبناء - لدوران بنائها وللدوران فيها وللذهاب [منها -] والرجوع إليها، والداري: الملاح الذي يلي الشراع، وهو القلع - لأنه يديره على عمود المركب، أو لأنه يلزم دار السفينة; والرائد: الذي يرتاد الكلأ، أي يذهب ويجيء في طلبه - لما لم يكن [له -] مقصد من الأرض معين كأنه يدور فيها، والذي لا يكذب أهله، وكل طالب حاجة - قاله ابن دريد .

                                                                                                                                                                                                                                      وراودت الرجل: أردته على فعل; ورائد الرحى: يدها، أي العود الذي تدار به ويقبض عليه الطاحن، والرياد: اختلاف الإبل في المرعى مقبلة ومدبرة، ورادت المرأة - إذا اختلفت إلى بيوت جاراتها، وراد وساده - إذا لم يستقر، والرود: الطلب والذهاب والمجيء، وامش على رود - بالضم، أي مهل، وتصغيره رويد، والمرود: الذي يكتحل به، لأنه يدار في العين، وحديدة تدور في اللجام، ومحور البكرة من حديد، والدير: معروف، ويقال لرجل إذا كان رأس أصحابه: هو رأس الدير - كأنه من إرادة أصحابه [به -]، وترديت بالرداء وارتديت - كأنه من الإدارة، والرداء: السيف - لأنه [ ص: 58 ] يتقلد به في موضع الردى، والرديان - محركا: مشى الحمار بين آريه ومتمعكه، وراديت فلانا، مثل: راودته، وردت الجارية - إذا رفعت إحدى رجليها وقفزت بواحدة، لأت مشيها حينئذ يشبه الدوران، والريد - بالكسر: الترب، لأنه يراودك، أي يمشي معك من أول زمانك; ومن الإتيان: الورود، وهو إتيان المورد من ماء وطريق، والوارد: الصائر إلى الماء للاستقاء منه، وهو الذي ينزل إلى الماء ليتناول منه، والورد معروف، ونور كل شجرة ورد، لأنه يقصد للشم وغيره، ويخرج هو منها فهو وارد أي آت، وهو أيضا مع ذلك مستدير، والورد - بالكسر: يوم الحمى إذا أخذت صاحبها لوقت لأنها تأتيه، وهو من الدوران أيضا لأنها تدور في ذلك الوقت بعينه، وهذا كله يصلح للإقبال، ومنه: أرنبة واردة، أي مقبلة على السبلة، والريد: أنف الجبل - قاله ابن فارس ، وقال ابن دريد: والريد: الحيد الناتئ من الجبل، والجمع ريود; وفي القاموس: الحيد من الجبل شاخص [ ص: 59 ] كأنه جناح، ويسمى الشجاع الوارد، لإقباله على كل ما يريده واستعلائه عليه، والوريدان: عرقان مكتنفا صفحتي العنق مما يلي مقدمة غليظان، والورد: النصيب من القرآن، لأنه يقصد بالقراءة ويقبل عليه ويدار عليه، ودريت الشيء: علمته، فأنت مقبل عليه وارد إليه، والدرئة - مهموزة: حلقة يتعلم عليها الطعن والرمي، والدرية - مهموزة وغير مهموزة: دابة يستتر بها رامي الصيد فيختله، فهي من الإقبال والخداع، وإن بنى فلان أدورا مكانا، أي اعتمدوا بالغزو والغارة، والدري: شبيه بمدرى الثور وهو قرنه، لأنه يقصد به الشيء ويقبل به على مراده فيصلحه به، وما أدري أين ردى؟ [أي -] أين ذهب؟ والإرواد: المهلة في الشيء; وامش رويدا: على مهل، والرادة والريدة: السهلة من الرياح، فكأنها تأتي على مهل; [و -] من الحيرة والفساد والهلاك: ردي الرجل - إذا هلك، وأرداه الله، [ ص: 60 ] وتردى في هوة: [تهور -] فيها، ورديته بالحجارة: رميته، والرداة: الصخرة، يكسر بها الشيء، والمرادي: المرامي; ومن حسن النظر: أرديت على الخمسين: زدت، لأنه يلزم حسن النظر الزيادة، وأراد الشيء على غيره، أي ربا عليه، وسيأتي بيان المهموز من هذه المادة في "سنراود" من هذه السورة إن شاء الله تعالى وغلقت أي تغليقا كثيرا الأبواب زيادة في المكنة، قالوا: وكانت سبعة; والإغلاق: إطباق الباب بما يعسر معه فتحه وقالت هيت أي تهيأت وتصنعت لك خاصة فأقبل إلي وامتثل أمري; والمادة - على تقدير أصالة التاء وزيادتها بجميع تقاليبها: يائية وواوية مهموزة وغير مهموزة - تدور على [إرادة -] امتثال الأمر: هيت لك - مثلثة الآخر وقد يكسر أوله، [أي -] هلم، وهيت تهييتا: صاح ودعاه، وهات - بكسر التاء أعطني - قال في القاموس، والمهاياة مفاعلة منه، والهيت: الغامض من الأرض، كأنه يدعو [ذا -] الهمة إلى الوقوف على حقيقته، والتيه - بالكسر: الكبرياء والصلف، فالتائه داع بالقوة إلى امتثال أمره، والمفازة، فإنها تقهر سالكها، والضلال من المفازة - تسمية للشي باسم موضعه، ومنه: تها - بمعنى غفل، ومنه: مضى تهواء [ ص: 61 ] من الليل - بالكسر، أي طائفة، لأنها محل الغفلة، أو لأنها تدعو ساهرها إلى النوم ونائمها إلى الانتباه، هذا على تقدير أصالة التاء، وأما على تقدير أنها زائدة فهاء بنفسه إلى المعالي: رفعها، فهو يراه أهلا لأن يمتثل أمرها، والهوء: الهمة والأمر الماضي، والهوء أيضا: الظن، ويضم، وهؤت به: فرحت، ولا يكون ذلك [إلا -] لفعل ما يشتهي، فكأنه امتثل أمرك، وهوئ إليه - كفرح: هم، وهاء كجاء: لبى، أي امتثل الأمر، وهاء - بالكسر: هات، وهاء - كجاء، أي هاك، بمعنى خذ، والهيئة: حال الشيء وكيفيته الداعية إلى تركه أو لزومه، وتهايؤوا: توافقوا، وهاء إليه: اشتاق، فكأنه دعاه إلى رؤيته، وتهيأ للشيء: أخذ له هيئته، فكأنه صار قابلا للأمر، أو لأن يمتثل أمره، وهيأه: أصلحه، والهيء - بالفتح والكسر: الدعاء إلى الطعام والشراب ودعاء الإبل للشرب، وإيه - بكسر الهمزة: [كلمة -] استزاده واستنطاق، وبإسكان الهاء: زجر بمعنى حسبك، وهأهأ: قهقه في ضحكه، ولا يكون ذلك إلا بمن امتثل مراده.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما قالت ما قالت وفعلت ما فعلت، مع ما هي عليه [ ص: 62 ] من القدرة في نفسها ولها عليه من التسلط وهو عليه من الحسن والشباب، كان كأنه قيل: إن هذا لموطن لا يكاد ينجو منه أحد، فماذا كان منه؟ فقيل: "قال" أي يوسف مستعملا للحكم بالعلم معاذ أي أعوذ من هذا الأمر معاذا الله أي ألزم حصن الذي له صفات الكمال وهو محيط بكل شيء علما وقدرة، وملجأه الذي ينبغي الاعتصام به واللجاء إليه; ثم علل ذلك بقوله: إنه أي الله ربي أي موجدي ومدبري والمحسن إلي في كل أمر، فأنا أرجو إحسانه في هذا أحسن مثواي بأن جعل لي في قلب سيدك مكانة عظيمة حتى خولني في جميع ما يملك وائتمنني على كل ما لديه، فإن خالفت أمر ربي فخنت من جعلني موضعا للأمانة كنت ظالما واضعا للشيء في غير موضعه، وهذا التقدير - مع كونه أليق بالصالحين المراقبين - أحسن، لأنه يستلزم نصح العزيز، ولو أعدنا الضمير على العزيز لم يستلزم التقوى.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما كان من المعلوم أن لسان حالها يقول: وإذا كان ظلما كان ماذا؟ قال ما تقديره: [إني -] إذن لا أفلح، وعلله بقوله: إنه لا يفلح أي لا يظفر بمراده أصلا الظالمون أي العريقون [ ص: 63 ] في الظلم - وهو وضع الشيء في غير موضعه - الذين صرت في عدادهم على تقدير الفعل، فيا له من دليل على إحسانه وحكمه وعلمه، فإنه لما رأى المقام الدحض بادر إلى الاعتصام بمن بيده ملكوت كل شيء، ثم استحضر إحسانه إليه الموجب للشكر عليه المباعد عن الهفوات ثم مقام الظلم وما يوجب لصاحبه من الحزن بعدم الفلاح.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية