الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ثم اجتمعوا بعد هذا مجمعا عظيما ببيت المقدس ، وكان معهم رجل دسه بترك القسطنطينية وجماعة معه ، ليسألوا بترك الإسكندرية ، وكان هذا الرجل لما رجع إلى الملك أظهر أنه مخالف لآريوس ، وكان يرى رأيه ويقول بمقالته ، فقام الرجل وقال : إن آريوس لم يقل إن المسيح خلق الأشياء ولكن به خلقت الأشياء ، لأنه كلمة الله التي بها خلقت السماوات والأرض ، وإنما خلق الله الأشياء بكلمته ، ولم يخلق الأشياء [ ص: 558 ] كلمته ، كما قال المسيح في الإنجيل ، كل بيده كان ، كل من دونه لم يكن شيئا ، وقال : به كانت الحياة ، والحياة نور البشر ، وقال : العالم به يكون ، فأخبر أن الأشياء به تكونت .

قال ابن البطريق : فهذه كانت مقالة آريوس ولكن الثلاثمائة والثمانية عشر أسقفا ، تعدوا عليه وحرموه ظلما وعدوانا .

فرد عليه بترك الإسكندرية وقال : أما آريوس فلم يكذب عليه الثلاثمائة والثمانية عشر أسقفا ولا ظلموه لأنه إنما قال : الابن خالق الأشياء دون الأب ، وإذا كانت الأشياء إنما خلقت بالابن دون أن يكون الأب لها خالقا ، فقد أعطى أنه ما خلق منها شيئا ، وفي ذلك تكذيب قوله : الأب يخلق ، وأنا أخلق .

وقال : إني أنا إن لم أعمل عمل أبي فلا تصدقوني .

وقال : كما أن الأب يحيي من يشاء ويميته ، كذلك الابن يحيي من يشاء [ ص: 559 ] ويميته . قالوا : فدل على أنه يحيي ويخلق ، وفي هذا تكذيب لمن زعم أنه ليس بخالق ، وإنما خلقت الأشياء به دون أن يكون خالقا .

وأما قولك : إن الأشياء كونت به ، فإنه لما كنا لا نشك أن المسيح حي فعال ، وكان قد دل بقوله : إني أفعل الخلق والحياة ، كان قولك : به تكونت الأشياء ، إنما هو راجع في المعنى إلى أنه كونها وكانت به مكونة ، ولو لم يكن فتناقض القولان .

قال : وأما قول من قال من أصحاب آريوس : إن الأب يريد الشيء فيكونه الابن ، والإرادة للأب والتكوين للابن . فإن ذلك يفسد أيضا إذا كان الابن عنده مخلوقا ، فقد صار حظ المخلوق في الخلق أوفى من حظ الخالق فيه ، وذلك أن هذا أراد وفعل . وذلك أراد ولم يفعل ، فهذا أوفر حظا في فعله من ذلك ، ولا بد لهذا أن يكون في فعله لما يريد ذلك بمنزلة كل فاعل من الخلق لما يريد الخالق منه ، ويكون حكمه كحكمه في الجبر والاختيار ، وإن كان مجبورا فلا شيء له في الفعل ، وإن كان مختارا فجائز أن يطاع وجائز أن يعصى ، وجائز أن يثاب وجائز أن يعاقب ، وهذا أشنع في القول .

ورد عليه أيضا وقال : إن كان الخالق إنما خلق خلقه بمخلوق ، فالمخلوق غير الخالق بلا شك ، فقد زعمتم أن الخالق يفعل بغيره ، والفاعل بغيره محتاج إلى متمم ليفعل به ، إذ كان لا يتم له الفعل إلا به ، والمحتاج إلى غيره منقوص ، والخالق متعال عن هذه الكلمة .

[ ص: 560 ] قال : فلما دحض بترك الإسكندرية حجج أولئك المخالفين ، وظهر لمن حضر بطلان قولهم ، وتحيروا وخجلوا ، فوثبوا على بترك الإسكندرية فضربوه حتى كاد يموت ، فخلصه من أيديهم ابن أخت قسطنطين ، وهرب بترك الإسكندرية ، وصار إلى بيت المقدس من غير حضور أحد من الأساقفة ، ثم أصلح دهن الميرون ، وقدس الكنائس ومسحها بدهن الميرون ، وسار إلى الملك وأعلمه بالخبر فصرفه إلى الإسكندرية .

وقال ابن البطريق : وأمر الملك بأن لا يسكن يهودي ببيت المقدس ، ولا يجوز بها ، ومن لم يتنصر قتل ، فظهر دين النصرانية وتنصر من اليهود خلق كثير . فقيل للملك : إن اليهود يتنصرون من خوف القتل وهم على دينهم ، فقال : كيف لنا أن نعلم ذلك منهم ؟ فقال بولس البترك : إن الخنزير في التوراة حرام واليهود لا يأكلون لحم الخنزير ، فأمر أن تذبح الخنازير وتطبخ لحومها ، ويطعم منها اليهود ، فمن لم يأكل علم أنه مقيم على دين اليهودية .

فقال الملك : إذا كان الخنزير حراما ، في التوراة فكيف يحل لنا أن نأكله ونطعمه الناس ؟ فقال له بولس : فإن سيدنا المسيح قد أبطل كل ما في التوراة ، وجاء بناموس وبتوراة جديدة وهو الإنجيل .

وفي إنجيله : إن كل ما يدخل البطن فليس بحرام ولا نجس ، وإنما ينجس الإنسان ما يخرج من فيه .

وقال بولس : إن بطرس رئيس الحواريين بينا هو يصلي في ست ساعات من النهار ، وقع عليه سبات فنظر إلى السماء قد تفتحت ، وإذا بإزار قد نزل من السماء حتى بلغ [ ص: 561 ] الأرض ، وفيه : كل ذي أربع قوائم على الأرض من السباع والدواب وغير ذلك ، وسمع صوتا من السماء يقول له : يا بطرس ، قم فاذبح وكل ، فقال بطرس : يا رب ، ما أكلت شيئا نجسا قط ولا وسخا قط ، فجاء صوت ثان : كل ما طهره الله فليس بنجس ، وفي نسخة أخرى : ما طهره الله فلا تنجسه أنت ، ثم جاء الصوت بهذا ثلاث مرات .

ثم إن الإزار ارتفع إلى السماء فتعجب بطرس وتحير فيما بينه وبين نفسه . فأمر الملك أن تذبح الخنازير ، وتطبخ لحومها ، وتقطع صغارا ، وتصير على أبواب الكنائس في كل مملكته يوم الأحد الفصح ، وكل من خرج من الكنيسة يلقم لقمة من لحم الخنزير ، فمن لم يأكل منه يقتل ، فقتل لأجل ذلك خلق كثير .

المجمع الآريوسي :

ثم هلك قسطنطين ، وولي بعده أكبر أولاده واسمه قسطنطين ، وفي أيامه اجتمع أصحاب آريوس ومن قال بمقالته إليه فحسنوا له دينهم ومقالتهم ، وقالوا : إن الثلاثمائة والثمانية عشر أسقفا الذين اجتمعوا بنيقية قد أخطئوا وحادوا عن الحق في قولهم : إن الابن متفق مع الأب في الجوهر ، فأمر أن لا يقال هذا فإنه خطأ ، فعزم الملك على فعله ، فكتب إليه أسقف بيت المقدس ، أن لا تقبل قول أصحاب آريوس فإنهم حائدون عن الحق وكفار ، وقد لعنهم الثلاثمائة والثمانية عشر أسقفا ، ولعنوا كل من يقول بقولهم فقبل قوله .

[ ص: 562 ] قال ابن بطريق : وفي ذلك الوقت غلبت مقالة آريوس على قسطنطينية وأنطاكية والإسكندرية .

وفي ثاني سنة من ملك قسطنطين هذا صار على أنطاكية بترك آريوسي ثم بعده آخر مثله .

قال : وأما أهل مصر والإسكندرية وكان أكثرهم آريوسيين ومنائيين فغلبوا على كنائس مصر فأخذوها ، ووثبوا على بترك الإسكندرية ، فهرب منهم واستخفى . ثم ذكر جماعة من البتاركة والأساقفة من طوائف النصارى ، وما جرى عليهم مع بعضهم بعضا ، وما تعصبت به كل طائفة لبتركها حتى قتل بعضهم بعضا ، واختلفت النصارى أشد الاختلاف ، وكثرت مقالاتهم واجتمعوا عدة مجامع ، كل مجمع يلعن فيه بعضهم بعضا . ونحن نذكر بعض مجامعهم بعد هذين المجمعين .

التالي السابق


الخدمات العلمية