الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا منهم فلا تخشوهم واخشوني ولأتم نعمتي عليكم ولعلكم تهتدون .

                                                                                                                                                                                                                                      ومن حيث خرجت ؛ إليه في أسفارك؛ ومغازيك؛ من المنازل القريبة؛ والبعيدة؛ فول وجهك شطر المسجد الحرام ؛ الكلام فيه كما مر آنفا؛ وحيث ما كنتم ؛ من أقطار الأرض؛ مقيمين؛ أو مسافرين؛ حسبما يعرب عنه إيثار [ ص: 178 ]

                                                                                                                                                                                                                                      "كنتم"؛ على "خرجتم"؛ فإن الخطاب عام لكافة المؤمنين؛ المنتشرين في الآفاق؛ من الحاضرين؛ والمسافرين؛ فلو قيل: "وحيثما خرجتم"؛ لما تناول الخطاب المقيمين في الأماكن المختلفة؛ من حيث إقامتهم فيها؛ فولوا وجوهكم ؛ من محالكم؛ شطره ؛ والتكرير لما أن القبلة لها شأن خطير؛ والنسخ من مظان الشبهة؛ والفتنة؛ فبالحري أن يؤكد أمرها مرة غب أخرى؛ مع أنه قد ذكر في كل مرة حكمة مستقلة؛

                                                                                                                                                                                                                                      لئلا يكون للناس عليكم حجة : متعلق بقوله (تعالى): فولوا ؛ وقيل: بمحذوف يدل عليه الكلام؛ كأنه قيل: فعلنا ذلك لئلا.. إلخ.. والمعنى أن التولية عن الصخرة تدفع احتجاج اليهود بأن المنعوت في التوراة من أوصافه أنه يحول إلى الكعبة؛ واحتجاج المشركين بأنه يدعي ملة إبراهيم ويخالف قبلته؛ إلا الذين ظلموا منهم ؛ وهم أهل مكة؛ أي: لئلا يكون لأحد من الناس حجة إلا المعاندين منهم؛ الذين يقولون: ما تحول إلى الكعبة إلا ميلا إلى دين قومه؛ وحبا لبلده؛ أو بدا له فرجع إلى قبلة آبائه؛ ويوشك أن يرجع إلى دينهم؛ وتسمية هذه الكلمة الشنعاء "حجة"؛ مع أنها أفحش الأباطيل؛ من قبيل ما في قوله (تعالى): حجتهم داحضة ؛ حيث كانوا يسوقونها مساق الحجة؛ وقيل: الحجة بمعنى مطلق الاحتجاج؛ وقيل: الاستثناء للمبالغة في نفي الحجة رأسا؛ كالذي في قوله:


                                                                                                                                                                                                                                      ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... بهن فلول من قراع الكتائب



                                                                                                                                                                                                                                      ضرورة أن لا حجة للظالم؛ وقرئ: "ألا الذين"؛ بحرف التنبيه؛ على أنه استئناف؛ فلا تخشوهم ؛ فإن مطاعنهم لا تضركم شيئا؛ واخشوني ؛ فلا تخالفوا أمري؛ ولأتم نعمتي عليكم ولعلكم تهتدون ؛ علة لمحذوف؛ يدل عليه النظم الكريم؛ أي: وأمرتكم بما مر لإتمام النعمة عليكم؛ لما أنه نعمة جليلة؛ ولإرادتي اهتداءكم لما أنه صراط مستقيم؛ مؤد إلى سعادة الدارين؛ كما أشير إليه في قوله - عز وجل -: يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ؛ وفي التعبير عن الإرادة بكلمة "لعل" - الموضوعة للترجي؛ على طريقة الاستعارة التبعية؛ من الدلالة على كمال العناية بالهداية - ما لا يخفى؛ أو عطف على علة مقدرة؛ أي: واخشوني لأحفظكم عنهم؛ وأتم.. إلخ.. أو على قوله (تعالى): لئلا يكون ؛ وتوسط قوله (تعالى): فلا تخشوهم ؛ إلخ.. بينهما؛ للمسارعة إلى التسلية؛ والتثبيت؛ وفي الخبر: "تمام النعمة دخول الجنة"؛ وعن علي - رضي الله عنه -: "تمام النعمة الموت على الإسلام.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية