الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
1262 [ ص: 130 ] حديث خامس لربيعة بن أبي عبد الرحمن مسند صحيح

مالك ، عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن ، عن محمد بن يحيى بن حبان ، عن ابن محيريز أنه قال : دخلت المسجد فرأيت أبا سعيد الخدري فجلست إليه ، فسألته عن العزل فقال أبو سعيد الخدري : خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة بني المصطلق فأصبنا سبيا من سبي العرب ، فاشتهينا النساء ، واشتدت علينا العزبة ، وأحببنا الفداء ، فأردنا أن نعزل فقلنا نعزل ، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين أظهرنا قبل أن نسأله ، فسألناه عن ذلك فقال : ما عليكم ألا تفعلوا ، ما من [ ص: 131 ] نسمة كائنة إلى يوم القيامة إلا وهي كائنة

التالي السابق


( هكذا جاء هذا الحديث في الموطأ ) . قال أبو عمر :

ورواية ربيعة لهذا الحديث ، عن محمد بن يحيى بن حبان تدخل في باب رواية النظير عن النظير ، والكبير عن الصغير ، وفي هذا ما يدلك على ما كان القوم عليه من البحث عن العلم ، واستدامة طلبه العمر كله ، ثم كل من طمع به عنده .

وقد روى هذا الحديث جويرية ، عن مالك ، عن الزهري ، عن ابن محيريز ، عن أبي سعيد الخدري ، وما أظن أحدا رواه عن مالك بهذا الإسناد غير جويرية ، ذكره السدي ، عن العباس ( 1415 ، عن عبد الله بن محمد بن أسماء ، عن جويرية ، عن مالك ، وكذلك رواه - عقيل - ، وشعيب بن أبي حمزة ، عن الزهري ، عن ابن محيريز ( عن أبي سعيد الخدري ) ، وخالفهما إبراهيم بن سعد - ( ورواه يحيى بن أيوب ، عن ربيعة ، عن محمد [ ص: 132 ] بن يحيى بن حبان ، عن ابن محيريز ، قال : دخلت أنا وأبو صرمة ، وكان أكبر مني وأفضل ، على أبي سعيد الخدري فسألناه عن العزل ، فقال : أسرنا بني المصطلق فأردنا أن نعزل ، ورغبنا في الفداء فقلنا : نعزل ، وفينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكره سواء بمعناه .

ورواه ابن أبي فديك ، عن الضحاك بن عثمان ، عن محمد بن يحيى بن حبان ، عن ابن محيريز الشامي : أنه سمع أبا سعيد الخدري ، وأبا صرمة المازني يقولان : أصبنا سبايا في غزوة بني المصطلق ، وهي الغزوة التي أصاب فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جويرية ، فكان منا من يريد أن يتخذ أهلا ، ومنا من يريد أن يستمتع ويبيع ، فتذاكرنا العزل فذكرنا ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : لا عليكم ألا تفعلوا ، فإن الله عز وجل قد قدر ما هو خالق إلى يوم القيامة ، ولهذا الاضطراب في ذكر أبي صرمة في هذا الحديث لم يذكره مالك في حديثه - والله أعلم - ) ، وخالفهما إبراهيم بن سعد فرواه عن الزهري ، عن عبيد الله بن عبد الله ، عن أبي سعيد الخدري .

وحديث مالك ، وشعيب ، وعقيل هو الصواب عندهم - والله أعلم - .

[ ص: 133 ] وأما حديث جويرية فحدثناه خلف بن قاسم قال : حدثنا محمد بن أحمد بن عبد الله قال : حدثنا يوسف بن يعقوب القاضي قال : حدثنا عبد الله بن محمد بن أسماء قال : حدثنا جويرية ، عن مالك ، عن الزهري ، عن ابن محيريز ، عن أبي سعيد الخدري ، أخبره أنه قال : أصبنا سبايا ، فكنا نعزل ، فسألنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك فقال لنا : وإنكم لتفعلون ، ما من نسمة كائنة إلى يوم القيامة إلا وهي كائنة .

( وأما حديث عقيل فأخبرنا محمد بن إبراهيم قال : حدثنا أحمد بن مطرف الأعناقي قال : حدثنا محمد بن عزيز قال : حدثنا سلامة ، عن عقيل قال : سألت ابن شهاب عن الرجل يعزل عن امرأته فقال : أخبرني عبد الله بن محيريز [ ص: 134 ] أن أبا سعيد الخدري أخبره قال : بينما نحن عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ قال له رجل : يا رسول الله إنا نصيب سبايا ، ونحب الأثمان ، فكيف ترى في العزل فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : وإنكم لتفعلون ذلك ، لا عليكم ألا تفعلوا ; فإنها ليست نسمة كتب الله لها أن تخرج ، إلا وهي خارجة ، فلا نرى أن هذا كان نهيا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعزيمة ) .

وأما ابن محيريز هذا ، فاسمه عبد الله ، نزل المدينة ، وهو معدود في الشاميين من جلة التابعين وخيارهم ، روى عنه مكحول .

وفي هذا الحديث من الفقه ، أن العرب تسبى ، وتسترق ، وهو أصح حديث يروى في هذا المعنى .

وفيه رد على من قال : إن العرب لا تسترق ، وفيه إباحة الوطء بملك اليمين ، وأن ما وقع في سهم الإنسان من الغنيمة ملك يمينه ، وذلك - والحمد لله - من أطيب الكسب ، وهو مما أحله الله لهذه الأمة ، وحرمه على من قبلها .

وجواز الوطء بملك اليمين مقيد بمعان في الشريعة : منها : أنه لا يدخل في ذلك ذوات المحارم من النسب والرضاع ( ومنها : ألا توطأ من ليست كتابية حتى تسلم ) .

ومنها ألا توطأ حامل حتى تضع ، ولا حائل حتى تحيض حيضة .

وأما وطء نساء بني المصطلق ، فلا يخلو أمرهن من أن يكن من نساء العرب الذين دانوا بالنصرانية ، أو اليهودية ، فيحل [ ص: 135 ] وطؤهن ، أو يكن من الوثنيات فتكون إباحة وطئهن منسوخة بقول الله تعالى ولا تنكحوا المشركات يعني الوثنيات ، ومن ليس من أهل الكتاب حتى يؤمن .

وعلى هذا جماعة فقهاء الأمصار ، وجمهور العلماء ، وما خالفه فشذوذ لا يعرج عليه ( ولا يعد خلافا ) .

وفيه : أن الرجل يجوز له أن يخبر عن - نفسه - بما فيه مما لا نقيصة عليه في دينه - منه - من شهوة النساء للعفاف ، وحب المال للتستر والكفاف والاستغناء عن الناس ، ألا ترى إلى قوله : اشتدت علينا العزبة ، وأحببنا الفداء .

وأما قوله : فما عليكم ، فما بمعنى ليس ، ولا زائدة كقوله تعالى ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك بمعنى أن تسجد ، فيكون تقدير الكلام : قوله عليه السلام : ما عليكم أن تفعلوا أي : لا حرج عليكم في العزل .

وقوله : ما من نسمة كائنة إلى يوم القيامة ، أراد ما من نسمة قدر الله أن تكون إلا ولا بد من كونها ، فلا يوجب العزل منع الولد ، كما لا يوجب الاسترسال أن يأتي الولد ، بل ذلك بيده تعالى لا إله إلا هو ) .

وفيه : أن أم الولد لا يجوز بيعها لقوله : وأحببنا الفداء فأردنا أن نعزل ، والفداء هاهنا الثمن في البيع أو أخذ الفداء من أقاربهن [ ص: 136 ] من المشركين فيهن ; لأن كل واحد قد ملك ما وقع في سهمه من السبي ، فأرادوا الوطء ، وخافوا الحمل المانع من الفداء والبيع ، فهموا بالعزل رجاء السلامة من الحمل في الأغلب ، ولم يقدموا على العزل حتى سألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ; لأن اليهود كانت تقول بين أظهرهم : إن العزل هو الموؤدة الصغرى ، وكانوا أهل كتاب فلم يقدموا على العزل لما كان في نفوسهم من قول اليهود ، حتى وقفوا على ما في ذلك عند نبيهم - صلى الله عليه وسلم - وفي شريعتهم ، فسألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك فأباح لهم العزل ، ولو كانت أم الولد يجوز بيعها ، ولم يمنع من ذلك حملها ; لبلغوا من الوطء ما أحبوا مع حاجتهم إلى ذلك ، ولكنهم لما أرادوا الفداء أحبوا العزل ليسلم ذلك لهم ، ثم لم يقدموا على ذلك حتى سألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبرهم أن الله قد فرغ من العباد ، وقد علم كل نسمة كائنة وقدرها ، وجف القلم بها ، وما قدر لم يصرف .

وهذا الحديث من أصح شيء في المنع من بيع أمهات الأولاد ، وقد أجمع المسلمون على منع بيع أم الولد ما دامت حاملا من سيدها ، ثم اختلفوا في بيعها بعد وضع حملها .

وأصل المخالف أنه لا ينتقض إجماع إلا بمثله ، وهذا قطع لقوله هاهنا ، ( إلا أنه يعترض بزوال العلة المانعة من بيعها ; لأنه إذا زال الحمل المانع من ذلك وجب أن يزول بزواله المنع من البيع ، ولهم في ذلك ضروب من التشغيب ، وأما طريق الاتباع للجمهور الذي يشبه الإجماع فهو المنع من بيعهن ) ، وعلى المنع من [ ص: 137 ] بيعهن جماعة فقهاء الأمصار منهم مالك ، وأبو حنيفة ، والشافعي ، وأصحابهم ، والثوري ، والأوزاعي ، والليث بن سعد ، وجمهور أهل الحديث .

وقد قال الشافعي في بعض كتبه بإجازة بيعهن ، ولكنه قطع في مواضع كثيرة من كتبه بأنهن لا يجوز بيعهن ، وعلى ذلك عامة أصحابه ، والقول ببيع أمهات الأولاد شذوذ تعلقت به طائفة : منهم داود ( اتباعا لعلي رضي الله عنه ، ولا حجة لها في ذلك ) ( ولا سلف لها ) لأن علي بن أبي طالب مختلف عنه في ذلك ( وأصح شيء عنه في ذلك ما ذكره الحلواني قال : حدثنا أحمد بن إسحاق قال : حدثنا وهيب قال : حدثنا عطاء بن السائب قال : سمعت عبيدة يقول : كان علي يبيع أمهات الأولاد في الدين ) ، وقد صح عن عمر في جماعة من الصحابة المنع من بيعهن [ ص: 138 ] ومن حجة من أجاز بيعهن ما روي عن جابر : كنا نبيع أمهات الأولاد على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وقد روي عن أبي سعيد الخدري مثل ذلك أيضا .

( وهي آثار ليست بالقوية ، وفيها ) أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال في مارية إذ ولدت إبراهيم : أعتقها ولدها .

والحجج متساوية في بيعهن للقولين جميعا من جهة النظر .

وأما العمل والاتباع ، فعلى مذهب عمر رضي الله عنه . ا هـ .

وفي هذا الحديث برهان واضح على إثبات قدم العلم ، وأن الخلق يجرون في علم الله وقدره ، فلا يخرج شيء من خلقه عن ذلك عز الله وجل تعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا .

[ ص: 139 ] وروى حماد بن زيد ، عن داود بن أبي هند ، عن الشعبي في قوله وكل شيء فعلوه في الزبر قال : كتب عليهم قبل أن يعملوه .

وروى شعبة ، عن أبي هشام ، عن مجاهد في قوله تعالى لولا كتاب من الله سبق قال : كان في علمه أنهم كانوا يأخذون الغنائم .

وروى سالم الأفطس ، عن سعيد بن جبير في قوله أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب قال : ما كتب لهم من الشقاء والسعادة .

وعن ابن عباس في قوله وإنا لموفوهم نصيبهم غير منقوص قال : ما قدر لهم من خير وشر .

وجملة القول في القدر - أنه سر الله لا يدرك بجدال ولا نظر ، ولا تشفي منه خصومة ولا احتجاج ، وحسب المؤمن من القدر أن يعلم أن الله لا يقوم شيء دون إرادته ، ولا يكون شيء إلا بمشيئته ، له الخلق والأمر كله ، لا شريك له ، نظام ذلك قوله وما تشاءون إلا أن يشاء الله ، وقوله إنا كل شيء خلقناه بقدر ، وحسب المؤمن من القدر أن يعلم أن الله لا يظلم مثقال ذرة ، ولا يكلف نفسا إلا وسعها ، وهو الرحمن الرحيم ، فمن رد على الله تعالى خبره في الوجهين ( أو في أحدهما كان عنادا وكفرا ) ، وقد ظاهرت الآثار في التسليم للقدر ، والنهي عن الجدل فيه ، والاستسلام له ، والإقرار بخيره وشره [ ص: 140 ] والعلم بعدل مقدره وحكمته ، وفي نقض عزائم الإنسان برهان فيما قلنا وتبيان ، والله المستعان .

حدثنا محمد بن زكرياء قال : حدثنا أحمد بن سعيد قال : حدثنا أحمد بن خالد قال : حدثنا مروان بن عبد الملك قال : حدثنا محمد بن بشار قال : حدثنا روح بن عبادة قال : حدثنا حبيب بن الشهيد ، عن محمد بن سيرين قال : ما ينكر هؤلاء أن يكون الله عز وجل علم علما فجعله كتابا ؟ .

حدثنا أحمد بن قاسم ، وعبد الرحمن قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا الحارث بن أبي أسامة قال : حدثنا خالد بن القاسم قال : حدثنا الليث بن سعد ، وحدثنا عبد الوارث قال : حدثنا قاسم قال : حدثنا محمد بن إسماعيل الترمذي قال : حدثنا عبد الله بن صالح قالا جميعا : حدثنا معاوية بن صالح : أن علي بن أبي طلحة حدثه أن أبا الوداك أخبره عن أبي سعيد الخدري : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل عن العزل ، فقال : ما من كل ماء يكون الولد ، وإذا أراد الله خلق شيء لم يمنعه شيء .

[ ص: 141 ] وروى يحيى القطان ، عن مجالد ، عن أبي الوداك ، عن أبي سعيد الخدري ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثله .

حدثنا عبد الوارث بن سفيان قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا أحمد بن زهير قال : حدثنا سليمان بن أبي شيخ قال : حدثنا عيينة بن المنهال قال : قال بلال بن أبي بردة لمحمد : ما تقول في القضاء والقدر ، فقال : أيها الأمير إن الله تبارك وتعالى لا يسأل عباده يوم القيامة عن قضائه وقدره ، وإنما يسألهم عن أعمالهم .

وفي هذا الحديث دليل على أن السباء يقطع العصمة بين الزوجين ، ألا ترى أن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - انطلقوا على وطء السبايا يومئذ ، كل واحد منهم انطلقت يده في ذلك على من وقع في سهمه منهن ، وأرادوا العزل عنهن ، وذلك محمول عند أهل العلم على أن ذلك إنما كان منهم بعد الاستبراء ; لأنه مذكور في غير ما خبر : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال يومئذ : لا توطأ حامل حتى تضع ، ولا حائل حتى تحيض حيضة رواه شريك ، عن قيس بن وهب ، عن أبي الوداك ، عن أبي سعيد .

وروي من حديث جابر ، وأنس ، ورويفع بن ثابت ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحوه .

[ ص: 142 ] حدثنا عبد الوارث بن سفيان قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا مقدام بن عيسى قال : حدثنا إسحاق بن بكر بن مضر قال : حدثني أبي عن جعفر بن ربيعة ، عن أبي مرزوق ، عن حنش الصنعاني ، عن رويفع [ ص: 143 ] بن ثابت ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : لا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسقي ماءه ولد غيره .

ورواه محمد بن إسحاق ، عن يزيد بن أبي حبيب ، عن أبي مرزوق مولى تجيب ، عن حنش ، سمع رويفع بن ثابت ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - .

والأحاديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : لا توطأ حامل حتى تضع ، ولا حائل حتى تحيض حيضة أحاديث حسان ، وعليها جماعة أهل العلم في الوطء الطارئ بملك اليمين .

وليس عند مالك في هذا حديث مسند ، وعنده فيه عن يحيى بن سعيد بن المسيب أنه كان يقول : ( ( ينهى أن تنكح المرأة على عمتها أو على خالتها ، وأن يطأ الرجل وليدة جنين لغيره ) ) .

واختلف الفقهاء في الزوجين إذا سبيا معا فقال أبو حنيفة ، وأصحابه : إذا سبي الحربيان ، وهما زوجان معا فهما على النكاح ، وإن سبي أحدهما قبل الآخر ، وأخرج إلى دار الإسلام ، فقد وقعت الفرقة ، وهو قول الثوري .

وقال الأوزاعي : إذا سبيا معا فما كانا في المقاسم فهما على النكاح ، فإن اشتراهما رجل ، فإن شاء جمع بينهما ، وإن شاء [ ص: 144 ] فرق بينهما ، فاتخذها لنفسه ، أو زوجها لغيره بعد أن يستبرئها بحيضة ، وهو قول الليث بن سعد .

وقال الحسن بن حي : إذا سبيت ذات زوج استبرئت بحيضتين ، وغير ذات زوج بحيضة .

وقال الشافعي : إذا سبيت بانت من زوجها ، سواء كان معها أو لم يكن قال : والسباء يقطع العصمة على كل حال ; لأن الله قد أحل فروجهن في الكتاب والسنة للذين سبوهن ، وصرن بأيديهم ، وملك أيمانهم ، وهو قول مالك فيما روى ابن وهب ، وابن عبد الحكم ، وهو قولهما ، وقول أشهب ، وقال ابن القاسم في ذلك مثل قول أبي حنيفة : إذا سبيا معا أو مفترقين ، ورواه عن مالك ، وكل هؤلاء يقول في قول الله عز وجل والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم : إنهن السبايا ذوات الأزواج يحلهن السباء .

وفي حديث أبي سعيد الخدري هذا دليل واضح على ذلك ، وفيه تفسير الآية ، وهو أولى ما قيل في تفسيرها .

وقال ابن مسعود ، وابن عباس ، وأبي بن كعب : إن معنى الآية في الإماء ذوات الأزواج ، وأنهن إذا ملكن جاز وطؤهن بملك اليمين ، وكان بيعهن طلاقهن ، والتفسير الأول عليه جمهور الفقهاء .

وقد روى أبو علقمة الهاشمي ، عن أبي سعيد الخدري أن هذه الآية قوله عز وجل والمحصنات من النساء نزلت في سبايا أوطاس ، وقاله الشعبي ، وأكثر أهل التفسير .

[ ص: 145 ] حدثنا سعيد بن نصر قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا محمد بن وضاح قال : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال : حدثنا عبد الأعلى ، عن شعبة ، عن قتادة ، عن أبي الخليل أن أبا علقمة الهاشمي حدثه أن أبا سعيد الخدري حدثهم : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث يوم حنين سرية فأصابوا أحياء من أحياء العرب يوم أوطاس فقتلوهم ، وهزموهم ، وأصابوا نساء لهن أزواج ، فكأن أناسا من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - تأثموا من غشيانهن من أجل أزواجهن فأنزل الله والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم منهن فحلال لكم .

وحدثنا عبد الله بن محمد قال : حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا عبد الله بن عمر بن ميسرة قال : حدثنا يزيد بن زريع قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن صالح أبي الخليل ، عن أبي علقمة الهاشمي ، عن أبي سعيد الخدري : [ ص: 146 ] أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث بعثا يوم حنين إلى أوطاس ، فلقوا عدوا فقاتلوهم فظهروا عليهم ، وأصابوا لهم سبايا ، فكأن أناسا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تحرجوا من غشيانهن من أجل أزواجهن من المشركين ، فأنزل الله في ذلك والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم فهن لكم حلال إذا انقضت عدتهن .

قال أبو عمر :

وهذه اللفظة حجة للحسن بن حي في اعتباره العدة في ذلك ، وفي حديث بريرة ما يبين أن بيع الأمة ليس بطلاقها ، وقد ذكرنا ذلك فيما تقدم من كتابنا هذا .

( وفي هذا الحديث أيضا : إباحة العزل ، وقد اختلف السلف في ذلك ، والحجة قائمة لمن أجازه بهذا الحديث وما كان مثله . - .

حدثنا خلف بن قاسم قال : حدثنا محمد بن قاسم بن شعبان قال : حدثنا محمد بن الحسن بن الضحاك قال : حدثنا [ ص: 147 ] أبو مروان العثماني قال : حدثنا إبراهيم بن سعد بن إبراهيم ، عن ابن شهاب الزهري أن زيد بن ثابت ، وابن مسعود كانا يعزلان ، وكان عمر ، وابن عمر يكرهان العزل ) .

( وفي الحديث أيضا أن للرجل ) أن يعزل عن الأمة بغير أمرها ، وأنها لا حق لها في ذلك ; لأنهم لم يحتاجوا في أمر العزل إلى أكثر من معرفة جوازه في الشريعة لم يضيفوا إلى ذلك استئمار الإماء ، ولا مشاورتهن ، فدل ذلك على جواز العزل عنهن دون رأيهن .

والأصول تشهد لصحة هذا التأويل ، والإجماع ، والقياس ; لأنه لما جاز له أن يمنع أمته الوطء أصلا ، كان له العزل عنها أحرى بالجواز ، وهذا أمر وإن كان جاء عن بعض السلف كراهية العزل ، فإن أكثرهم على إباحته وجوازه ، وهو أمر لا خلاف فيه بين فقهاء الأمصار فيه ، والحمد لله .

[ ص: 148 ] وكذلك لا خلاف بين العلماء أيضا في أن الحرة لا يعزل عنها إلا بإذنها ; لأن الجماع من حقها ، ولها المطالبة به ، وليس الجماع المعروف التام إلا أن لا يلحقه العزل .

وفي الموطأ ، عن سعد بن أبي وقاص ، وأبي أيوب الأنصاري ، وزيد بن ثابت ، وابن عباس - جواز العزل ، وإباحته ( حدثنا عبد الله بن سعد قال : حدثنا أحمد بن إبراهيم قال : حدثنا محمد بن إبراهيم قال : حدثنا سعيد بن عبد الرحمن قال : حدثنا سفيان بن عيينة ، عن يحيى بن سعيد ، عن سعيد بن المسيب قال : اختلف أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في العزل ، وإنما هو حرثك ، إن شئت سقيته ، وإن شئت عطشته ) فإن قيل قد روى حماد بن زيد ، عن عاصم ، عن زيد ، عن علي أنه كان يكره العزل ، ويقول : هو الوأد الخفي ، قيل : لو صح هذا عن علي ، كانت الحجة فيما ثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دون قوله ; لأنه قد ثبت في هذا الحديث قول الصحابة : فأردنا أن نعزل فقلنا : نعزل ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين أظهرنا قبل أن نسأله ؟ فسألناه فقال : ما عليكم ألا تفعلوا ، فأي شيء أبين من إباحة العزل وإجازته ، وهذا في السنة الثابتة ، وهي الحجة عند التنازع ، وقد صح عن علي خلاف هذا ، وروى يزيد بن أبي حبيب ، عن معمر بن أبي حبيبة ، عن معاذ بن أبي رفاعة قال : شهدت نفرا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يذكرون الموءودة ، فيهم علي ، وعمر ، وعثمان ، والزبير ، وطلحة ، وسعد ، فاختلفوا فقال عمر : إنكم أصحاب رسول الله [ ص: 149 ] - صلى الله عليه وسلم - تختلفون في هذا ، فكيف بمن بعدكم ؟ فقال علي : إنها لا تكون موءودة حتى يأتي عليها الحالات السبع ، فقال له عمر : صدقت ، أطال الله بقاءك ، قال ابن لهيعة : إنها لا تكون موءودة حتى تكون نطفة ، ثم علقة ، ثم مضغة ، ثم عظما ، ثم لحما ، ثم تظهر ، ثم تستهل فحينئذ إذا دفنت فقد وئدت ; لأن من الناس من قال : إن المرأة إذا أحست بحمل ، فتداوت حتى تسقطه فقد وأدته ، ومنهم من قال : العزل الموءودة الصغرى ، فأخبر علي رضي الله عنه أن ذلك لا يكون موءودة إلا بعد ما وصف ، وقد قيل في قول الله عز وجل نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم إن شئت فاعزل ، وإن شئت فلا تعزل . قاله جماعة من العلماء ، وإن كان في ذكر الآية قولان غير هذا .

ذكر إسماعيل بن أبي أويس عن مالك قال : لا يعزل عن الحرة إلا بإذنها ، وإن كانت تحته أمة لقوم تزوجها ، فلا يعزل عنها إلا بإذن أهلها ، وإن كانت أمته فليعزل إن شاء .

واختلف الفقهاء في العزل عن الزوجة الأمة ، فقال مالك ، وأبو حنيفة ، وأصحابهما : الإذن في العزل عن الزوجة الأمة إلى مولاها .

( وعن الثوري روايتان : إحداهما : لا يعزل عنها إلا بأمرها ، والأخرى بأمر مولاها ) .

[ ص: 150 ] وقال الشافعي : له أن يعزل عن الزوجة الأمة دون إذنها ، ودون إذن مولاها ، وليس له العزل عن الحرة إلا بإذنها ، وقد روي في هذا الباب حديث مرفوع في إسناده ضعف .

ولكن إجماع الحجة على القول يقضي بصحته .

حدثناه خلف بن قاسم قال : حدثنا ابن المفسر قال : حدثنا أحمد بن علي القاضي قال : حدثنا أبو زهير بن حرب قال : حدثنا إسحاق بن عيسى قال : حدثنا ابن لهيعة ، عن جعفر بن ربيعة ، عن الزهري ، عن محرر بن أبي هريرة ، عن أبيه ، عن عمر بن الخطاب قال : نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يعزل عن الحرة إلا بإذنها ( ومن حديث جابر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إن لي جارية أفأعزل عنها ؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - سيأتيها ما قدر لها ) .




الخدمات العلمية