الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله عز وجل:

مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا بئس مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله والله لا يهدي القوم الظالمين قل يا أيها الذين هادوا إن زعمتم أنكم أولياء لله من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين ولا يتمنونه أبدا بما قدمت أيديهم والله عليم بالظالمين قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون

الذين حملوا التوراة هم بنو إسرائيل والأحبار المعاصرون لرسول الله صلى الله عليه وسلم، و"حملوا" معناه: كلفوا القيام بأوامرها ونواهيها، فهذا كمال حمل الإنسان الأمانة، وليس ذلك من الحمل على الظهر وإن كان مشتقا منه، وذكر تعالى أنهم لم يحملوها، أي: لم يطيعوا أمرها ويقفوا عند حدها حين كذبوا بمحمد صلى الله عليه وسلم والتوراة تنطق بنبوته، فكان كل خير لم ينتفع به من حمله، كمثل حمار عليه أسفار، فهي عنده والزبل وغير ذلك بمنزلة واحدة.

وقرأ يحيى بن يعمر : "حملوا" بفتح الحاء والميم مخففة، وقرأ المأمون العباسي: "يحمل" بضم الياء وفتح الحاء وشد الميم المفتوحة، وفي مصحف ابن مسعود : "كمثل حمار" بغير تعريف، و"السفر": الكتاب المجتمع الأوراق منضدة، ثم بين تعالى حال مثلهم وفساده بقوله سبحانه: بئس مثل القوم والتقدير: بئس المثل مثل القوم. وقوله تعالى: قل يا أيها الذين هادوا إن زعمتم الآية. روي أنها نزلت بسبب أن [ ص: 302 ] يهود المدينة لما ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم خاطبوا يهود خيبر في أمره، فذكروا لنبوته، هم نبوته، وقالوا لهم: إن رأيتم أتباعه أطعناكم، وإن رأيتم خلافه خالفناه معكم، فجاءهم جواب أهل خيبر يقولون: نحن أبناء إبراهيم خليل الرحمن، وأبناء عزير ابن الله، ومنا الأنبياء، ومتى كانت النبوة في العرب؟ نحن أحق بالنبوة من محمد عليه الصلاة والسلام-، ولا سبيل إلى اتباعه، فنزلت الآية بمعنى: أنكم إذا كنتم من الله بهذه المنزلة فقربه وفراق هذه الحياة الخسية أحب إليكم فتمنوا الموت إن كنتم صادقين تعتقدون في أنفسكم هذه المنزلة.

ثم أخبر تعالى عنهم أنهم لا يتمنونه ولا يلقونه إلا كرها لعلمهم بسوء حالهم عند الله وبعدهم عنه، هذا هو اللازم من ألفاظ الآية، وروى كثير من المفسرين أن الله تعالى جعل هذه الآية معجزة لمحمد صلى الله عليه وسلم ، وآية باهرة، وأعلمه أنه إن تمنى أحد منهم الموت في أيام معدودة مات وفارق الدنيا، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تمنوا الموت" في جهة التعجيز وإظهار الآية، فما تمناه أحد خوفا من الموت وثقة بصدق محمد صلى الله عليه وسلم.

ثم توعدهم تعالى بالموت الذي لا محيد لهم عنه، ثم بما بعده من الرد إلى الله تعالى، وقرأ ابن مسعود رضي الله عنه: "تفرون منه ملاقيكم" بإسقاط "فإنه".

وقوله تعالى: "فينبئكم" أي" إنباء معاقب مجاز عليه بالتعذيب، وقرأ ابن أبي إسحاق : "فتمنوا الموت" بكسر الواو، وكذلك يحيى بن يعمر .

التالي السابق


الخدمات العلمية