الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا البلد آمنا واجنبني وبني أن نعبد الأصنام رب إنهن أضللن كثيرا من الناس فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم

عطف على جملة ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا فإنهم كما بدلوا نعمة الله كفرا أهملوا الشكر على ما بوأهم الله من النعم بإجابة دعوة أبيهم إبراهيم - عليه السلام - ، وبدلوا اقتداءهم بسلفهم الصالح اقتداء بأسلافهم من أهل الضلالة ، وبدلوا دعاء سلفهم الصالح لهم بالإنعام عليهم كفرا بمفيض تلك النعم .

[ ص: 238 ] ويجوز أن تكون معطوفة على جملة الله الذي خلق السماوات والأرض بأن انتقل من ذكر النعم العامة للناس التي يدخل تحت منتها أهل مكة بحكم العموم إلى ذكر النعم التي خص الله بها أهل مكة ، وغير الأسلوب في الامتنان بها إلى أسلوب الحكاية عن إبراهيم لإدماج التنويه بإبراهيم - عليه السلام - والتعريض بذريته من المشركين .

( وإذ ) اسم زمان ماض منصوب على المفعولية لفعل محذوف شائع الحذف في أمثاله ، تقديره : واذكر إذ قال إبراهيم ، زيادة في التعجيب من شأن المشركين الذي مر في قوله ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا ، فموقع العبرة من الحالين واحد .

و ( رب ) : منادى محذوف منه حرف النداء ، وأصله ربي ، حذفت ياء المتكلم تخفيفا ، وهو كثير في المنادى المضاف إلى الياء .

والبلد : المكان المعين من الأرض ، ويطلق على القرية ، والتعريف في البلد تعريف العهد ; لأنه معهود بالحضور ، و البلد : بدل من اسم الإشارة .

وحكاية دعائه بدون بيان البلد إبهام يرد بعده البيان بقوله عند بيتك المحرم ، أو هو حوالة على ما في علم العرب من أنه مكة ، وقد مضى في سورة البقرة تفسير نظيره ، والتعريف هنا للعهد ، والتنكير في آية البقرة تنكير النوعية ، فهنا دعا للبلد بأن يكون آمنا ، وفي آية سورة البقرة دعا لمشار إليه أن يجعله الله من نوع البلاد الآمنة ، فمآل المفادين متحد .

واجنبني : أمر من الثلاثي المجرد ، يقال : جنبه الشيء ، إذا جعله جانبا عنه ، أي : باعده عنه ، وهي لغة أهل نجد ، وأهل الحجاز يقولون : جنبه بالتضعيف أو أجنبه بالهمز ، وجاء القرآن هنا بلغة أهل نجد ; لأنها أخف .

وأراد ببنيه : أبناء صلبه ، وهم يومئذ إسماعيل وإسحاق ، فهو من استعمال الجمع في التثنية ، أو أراد جميع نسله تعميما في الخير فاستجيب له في البعض .

[ ص: 239 ] والأصنام : جمع صنم ، وهو صورة أو حجارة أو بناء يتخذ معبودا ويدعى إلها ، وأراد إبراهيم - عليه السلام - مثل ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر ، أصنام قوم نوح ، ومثل الأصنام التي عبدها قوم إبراهيم .

وإعادة النداء في قوله رب إنهن أضللن كثيرا من الناس لإنشاء التحسر على ذلك .

وجملة إنهن أضللن كثيرا من الناس تعليل للدعوة بإجنابه عبادتها بأنها ضلال راج بين كثير من الناس ، فحق للمؤمن الضنين بإيمانه أن يخشى أن تجترفه فتنتها ، فافتتاح الجملة بحرف التوكيد لما يفيده حرف ( إن ) في هذا المقام من معنى التعليل .

وذلك أن إبراهيم - عليه السلام - خرج من بلده أور الكلدانيين إنكارا على عبدة الأصنام ، فقال إني ذاهب إلى ربي سيهدين وقال لقومه وأعتزلكم وما تدعون من دون الله ، فلما مر بمصر وجدهم يعبدون الأصنام ثم دخل فلسطين فوجدهم عبدة أصنام ، ثم جاء عربة تهامة فأسكن بها زوجه فوجدها خالية ووجد حولها جرهم قوما على الفطرة والسذاجة فأسكن بها هاجر وابنه إسماعيل - عليه السلام - ، ثم أقام هنالك معلم التوحيد ، وهو بيت الله الكعبة بناه هو وابنه إسماعيل ، وأراد أن يكون مأوى التوحيد ، وأقام ابنه هنالك ليكون داعية للتوحيد ، فلا جرم سأل أن يكون ذلك بلدا آمنا حتى يسلم ساكنوه وحتى يأوي إليهم من إذا آوى إليهم لقنوه أصول التوحيد .

ففرع على ذلك قوله فمن تبعني فإنه مني ، أي : فمن تبعني من الناس فتجنب عبادة الأصنام فهو مني ، فدخل في ذلك أبوه وقومه ، ويدخل فيه ذريته ; لأن الشرط يصلح للماضي والمستقبل .

و ( من ) في قوله مني اتصالية ، وأصلها التبعيض المجازي ، أي : فإنه متصل بي اتصال البعض بكله .

[ ص: 240 ] وقوله ومن عصاني فإنك غفور رحيم تأدب في مقام الدعاء ونفع للعصاة من الناس بقدر ما يستطيعه ، والمعنى : ومن عصاني أفوض أمره إلى رحمتك وغفرانك ، وليس المقصود الدعاء بالمغفرة لمن عصى ، وهذا من غلبة الحلم على إبراهيم - عليه السلام - ، وخشية من استئصال عصاة ذريته ، ولذلك متعهم الله قليلا في الحياة الدنيا ، كما أشار إليه قوله تعالى قال ومن كفر فأمتعه قليلا ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير وقوله وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني براء مما تعبدون إلا الذي فطرني فإنه سيهدين وجعلها كلمة باقية في عقبه لعلهم يرجعون بل متعت هؤلاء وآباءهم حتى جاءهم الحق ورسول مبين ، وسوق هذه الدعوة هنا للتعريض بالمشركين من العرب بأنهم لم يبروا بأبيهم إبراهيم - عليه السلام - .

وإذ كان قوله فإنك غفور رحيم تفويضا لم يكن فيه دلالة على أن الله يغفر لمن يشرك به .

التالي السابق


الخدمات العلمية