الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها مكانا شرقيا فاتخذت من دونهم حجابا فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا قال إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا قالت أنى [ ص: 216 ] يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم أك بغيا قال كذلك قال ربك هو علي هين ولنجعله آية للناس ورحمة منا وكان أمرا مقضيا .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: " واذكر في الكتاب " يعني: القرآن، " مريم إذ انتبذت " قال أبو عبيدة: تنحت واعتزلت، " مكانا شرقيا " مما يلي المشرق، وهو عند العرب خير من الغربي .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: " فاتخذت من دونهم " يعني: أهلها، " حجابا " ; أي: سترا وحاجزا، وفيه ثلاثة أقوال:

                                                                                                                                                                                                                                      أحدها: أنها ضربت سترا، قاله أبو صالح عن ابن عباس .

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني: أن الشمس أظلتها، فلم يرها أحد منهم، وذلك مما سترها الله به، [ وروي ] هذا المعنى عن ابن عباس أيضا .

                                                                                                                                                                                                                                      والثالث: أنها اتخذت حجابا من الجدران، قاله السدي عن أشياخه .

                                                                                                                                                                                                                                      وفي سبب انفرادها عنهم قولان:

                                                                                                                                                                                                                                      أحدهما: [ أنها ] انفردت لتطهر من الحيض وتمتشط، قاله ابن عباس .

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني: لتفلي رأسها، قاله عطاء .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: " فأرسلنا إليها روحنا " وهو جبريل في قول الجمهور . وقال ابن الأنباري: صاحب روحنا وهو جبريل . والروح بمعنى: الروح والفرح، ثم تضم الراء لتحقيق مذهب الاسم، وإبطال طريق المصدر، ويجوز أن يراد بالروح هاهنا: الوحي، وجبريل صاحب الوحي .

                                                                                                                                                                                                                                      وفي وقت مجيئه إليها ثلاثة أقوال:

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 217 ] أحدها: وهي تغتسل . والثاني: بعد فراغها ولبسها الثياب . والثالث: بعد دخولها بيتها . وقد قيل: المراد بالروح هاهنا: [ الروح ] الذي خلق منه عيسى، حكاه الزجاج والماوردي، وهو مضمون كلام أبي بن كعب فيما سنذكره عند قوله: ( فحملته ) . قال ابن الأنباري: وفيه بعد ; لقوله: " فتمثل لها بشرا سويا " ، والمعنى: تصور لها في صورة البشر التام الخلقة . وقال ابن عباس: جاءها في صورة شاب أبيض الوجه، جعد قطط حين طر شاربه . وقرأ أبو نهيك: ( فأرسلنا إليها روحنا ) بفتح الراء من الروح .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: " قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا " المعنى: إن كنت تتقي الله فستنتهي بتعوذي منك، هذا هو القول عند المحققين . وحكي عن ابن عباس أنه كان في زمانها رجل اسمه تقي، وكان فاجرا، فظنته إياه، ذكره ابن الأنباري والماوردي . وفي قراءة علي عليه السلام، وابن مسعود، وأبي رجاء: ( إلا أن تكون تقيا ) .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: " قال إنما أنا رسول ربك " ; أي: فلا تخافي، " ليهب لك " قرأ ابن كثير، ونافع، وعاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي: ( لأهب لك ) بالهمز . وقرأ أبو عمرو، وورش عن نافع: ( ليهب لك ) بغير همز . قال الزجاج: من قرأ: ( ليهب ) فالمعنى: أرسلني ليهب، ومن قرأ: ( لأهب ) فالمعنى: أرسلت إليك لأهب لك . وقال ابن الأنباري: المعنى: أرسلني يقول لك: أرسلت رسولي إليك لأهب لك .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: " غلاما زكيا " ; أي: طاهرا من الذنوب . والبغي: الفاجرة الزانية . قال ابن الأنباري: وإنما لم يقل: ( بغية ); لأنه وصف يغلب على النساء، فقلما تقول العرب: رجل بغي، فيجري مجرى حائض وعاقر . وقال غيره: [ ص: 218 ] إنما لم يقل: ( بغية ) ; لأنه مصروف عن وجهه، فهو ( فعيل ) بمعنى ( فاعل ) . ومعنى الآية: ليس لي زوج ولست بزانية، وإنما يكون الولد من هاتين الجهتين . " قال كذلك قال ربك " قد شرحناه في قصة زكريا، والمعنى: أنه يسير على أن أهب لك غلاما من غير أب . " ولنجعله آية للناس " ; أي: دلالة على قدرتنا كونه من غير أب . قال ابن الأنباري: إنما دخلت الواو في قوله: " ولنجعله " ; لأنها عاطفة لما بعدها على كلام مضمر محذوف، تقديره: قال ربك: خلقه علي هين، لننفعك به ولنجعله عبرة .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: " ورحمة منا " ; أي: لمن تبعه وآمن به، " وكان أمرا مقضيا " ; أي: وكان خلقه أمرا محكوما به، مفروغا عنه، سابقا في علم الله تعالى كونه .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية