الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                                                                                                          1551 - مسألة : وبيع المكاتب قبل أن يؤدي شيئا من كتابته جائز ، وتبطل الكتابة بذلك ، فإن أدى منها شيئا حرم بيع ما قابل منه ما أدى ، وجاز بيع ما قابل منه ما لم يؤد ، وبطلت الكتابة فيما بيع منه ، وبقي ما قابل منه ما أدى حرا - مثل أن يكون أدى عشر كتابته ، فإن عشره حر - ويجوز بيع تسعة أعشاره ، وهكذا في كل جزء - كثر أو قل - وهذا مكان اختلف الناس فيه ، فقالت طائفة : المكاتب عبد ما بقي عليه ولو درهم من كتابته أو أقل ، وبيعه جائز ما دام عبدا وتنتقض الكتابة بذلك ، والمكاتب عندهم معتق بصفة - وهذا قول أبي سليمان وأصحابنا .

                                                                                                                                                                                          وقالت طائفة : المكاتب عبد ما بقي عليه من كتابته درهم أو أقل ، إلا أنه لا يحل بيعه إلا أن يعجز - وهو قول أبي حنيفة ، ومالك ، والشافعي - وهذا قول ظاهر التناقض ; لأنه كان عبدا فبيعه جائز ما لم يأت بنص بالمنع من بيعه ، ولا نص في ذلك .

                                                                                                                                                                                          [ ص: 527 ] وذهب قوم إلى أنه إن أدى ربع كتابته فهو حر - وهو غريم يتبع بما بقي عليه منها - : روينا من طريق سعيد بن منصور نا هشيم نا المغيرة ، قال : سمعت إبراهيم ، والشعبي يقولان : كان ابن مسعود يقول في المكاتب إذا أدى ربع قيمته فهو غريم لا يسترق .

                                                                                                                                                                                          وكان زيد بن ثابت يقول : هو عبد ما بقي عليه درهم .

                                                                                                                                                                                          وقال علي بن أبي طالب : المكاتب يعتق منه بقدر ما أدى ، ويرق منه بقدر ما بقي ، ويرث بقدر ذلك ، ويحجب بقدر ذلك .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق سفيان بن عيينة عن عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود عن عمه القاسم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود عن جابر بن سمرة قال : قال عمر بن الخطاب : تكاتبون مكاتبين فأيهم - ما - أدى الشطر فلا رق عليه .

                                                                                                                                                                                          وروي عن ابن مسعود أيضا : إذ أدى الثلث فهو غريم .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق وكيع نا سفيان الثوري عن منصور بن المعتمر عن إبراهيم كان يقال : إذا أدى المكاتب الربع فهو غريم .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق عبد الرزاق عن ابن جريج عن عطاء إذا بقي على المكاتب ربع كتابته وأدى سائرها فهو غريم ، ولا يعود عبدا .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق عبد الرزاق عن عكرمة بن عمار عن يحيى بن أبي كثير قال : قال ابن عباس : إذا بقي على المكاتب خمس أواق : أو خمس ذود ، أو خمسة أوسق : فهو غريم - وروي عنه أيضا إذا أخذ الصك فهو غريم .

                                                                                                                                                                                          وبكل هذه الأقوال قالت طائفة من العلماء .

                                                                                                                                                                                          قال علي : الحجة عند التنازع هو ما أمر الله - تعالى - بالرجوع إليه - إن كنا مؤمنين - من كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم .

                                                                                                                                                                                          روينا من طريق البخاري نا قتيبة نا الليث هو ابن سعد - عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عائشة أم المؤمنين أخبرته { أن بريرة جاءت تستعينها في كتابتها ولم تكن قضت منها شيئا ، فقالت لها عائشة : ارجعي إلى أهلك فإن أحبوا أن أقضي عنك كتابتك ويكون ولاؤك لي فعلت ؟ فذكرت ذلك بريرة لأهلها ؟ فأبوا وقالوا : إن شاءت أن [ ص: 528 ] تحتسب عليك فلتفعل ، ويكون لنا ولاؤك ؟ فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ابتاعي وأعتقي فإنما الولاء لمن أعتق } .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق البخاري نا خلاد بن يحيى نا عبد الواحد بن أيمن المكي عن أبيه قال : دخلت على عائشة فقالت : { دخلت علي بريرة وهي مكاتبة فقالت : يا أم المؤمنين اشتريني فإن أهلي يبيعوني فأعتقيني ؟ فقالت : نعم ، فقالت : إن أهلي لا يبيعوني حتى يشترطوا ولائي ؟ فقالت : لا حاجة لي فيك ، فسمع ذلك النبي صلى الله عليه وسلم أو بلغه فقال : ما شأن بريرة اشتريها فأعتقيها وليشترطوا ما شاءوا ؟ قالت فاشتريتها فأعتقتها وذكرت باقي الخبر } .

                                                                                                                                                                                          فأمر بيع بريرة وهي مكاتبة - على تسع أواقي في تسع سنين ، كل سنة أوقية ، أشهر من الشمس ، وأنها لم تكن أدت بعد من كتابتها شيئا ، وأنها بيعت كذلك ، وأن أهلها عرضوها للبيع - وهي مكاتبة - بعلم النبي صلى الله عليه وسلم لا ينكر ذلك عليهم ، بل أمر بشرائها وعتقها والولاء لمن أعتقها ، وهذا ما لا مخلص منه ، فبلحوا عندها - : فقالت طائفة : إنها كانت عجزت - وهذا كذب بحت مجرد ، ما روى قط أحد أنها كانت عجزت ، ولا جاء ذلك عنها في الخبر ، وأين العجز منها وهي في استقبال تسعة أعوام ، وعائشة بعد عند رسول الله صلى الله عليه وسلم جائزة الأمر تبتاع وتعتق ، ولم تقم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا تسعة أعوام فقط .

                                                                                                                                                                                          واحتج بعضهم بقول الله تعالى : { أوفوا بالعقود } فقلنا : نعم وهو مأمور بالوفاء بالعقد وليس له نقضه لكن إذا خرج عن ملكه بطل عقده عن غيره لقول الله - تعالى - : { ولا تكسب كل نفس إلا عليها } .

                                                                                                                                                                                          والعجب أن المحتجين بهذا يرون الرجوع في العتق في الوصية ، ولا يحتجون على أنفسهم ب { أوفوا بالعقود } وليس إجماعا فإن سفيان الثوري لا يرى الرجوع في العتق والوصية ، وكلهم يجيز بيع العبد يقول له سيده : إن جاء أبي فأنت [ ص: 529 ] حر ، ويبطلون بيعه بهذا العقد ، ولا يجيزون له في العقد بغير إخراجه عن ملكه فظهر عظيم تناقضهم ، وفساد قولهم .

                                                                                                                                                                                          فإن ذكر ذاكر الآثار التي جاءت { المكاتب عبد ما بقي عليه درهم } فإنها كلها ساقطة - : أحدها - من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ، وهي صحيفة ، وكم خالفوا هذه الطريق إذا خالفت مذهبهم .

                                                                                                                                                                                          والآخر - من طريق عطاء بن السائب عن ابن عمرو بن العاص ولا سماع له منه - والحديث منقطع .

                                                                                                                                                                                          ثم لو صح لما كان فيهما إلا تحديد : أنه عبد ما بقي عليه عشر مكاتبته أو عشر عشرها .

                                                                                                                                                                                          وخبر موضوع من طريق ابن عمر مكذوب - فسقطت كلها .

                                                                                                                                                                                          وأما إذا أدى شيئا من كتابته فلما رويناه من طريق أحمد بن شعيب أنا أحمد بن عيسى الدمشقي نا يزيد بن هارون أنا حماد بن سلمة عن قتادة ، وأيوب السختياني ، قال قتادة : عن خلاس عن علي بن أبي طالب ، وقال أيوب عن عكرمة عن ابن عباس ، ثم اتفق علي ، وابن عباس ، كلاهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { المكاتب يعتق منه بقدر ما أدى ويقام عليه الحد بقدر ما عتق منه ويورث بقدر ما عتق منه } .

                                                                                                                                                                                          قال علي : وهذا إسناد في غاية الصحة ، وما نعلم أحدا عابه إلا بأنه قد أرسله بعض الناس فكان هذا عجبا لأن المعترضين بهذا يقولون : إن المرسل أقوى من المسند ، أو مثله ، فالآن صار إرسال من أرسل يبطل ، ويبطل به الإسناد ممن أسنده ، وما يسلك في دينه هذه الطريق إلا من لا دين له ، ولا حياء - ونعوذ بالله من الخذلان .

                                                                                                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                                                                                                          الخدمات العلمية