الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
1552 [ ص: 118 ] حديث ثالث ليحيى بن سعيد

مالك ، عن يحيى بن سعيد ، عن سعيد بن المسيب أن رجلا من أسلم جاء إلى أبي بكر الصديق ، فقال : إن الأخر زنى ، فقال : له أبو بكر هل ذكرت ذلك لأحد غيري ؟ فقال : لا ، فقال : له أبو بكر ، فتب إلى الله ، واستتر بستر الله ، فإن الله يقبل التوبة ، عن عباده ، فلم تقرره نفسه حتى أتى عمر بن الخطاب ، فقال : له عمر مثل الذي قال له أبو بكر ، فلم تقرره نفسه حتى جاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : له إن الأخر زنى ، فقال : سعيد ، فأعرض عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاث مرات كل ذلك يعرض عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى إذا أكثر عليه بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أهله ، فقال : أيشتكي أبه ؟ جنة ؟ فقالوا : يا رسول الله ، والله إنه لصحيح ، فقال : أبكر أم ثيب ؟ فقالوا : بل ثيب يا رسول الله ، فأمر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرجم .

التالي السابق


هذا الحديث مرسل ، عند جماعة الرواة ، عن مالك ، وقد تابعه على إرساله طائفة من أصحاب يحيى بن سعيد ، وروى هذا الحديث الزهري ، فاختلف عليه ، فرواه يونس ، عن الزهري ، عن أبي سلمة ، عن جابر أن رجلا من أسلم أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - الحديث .

[ ص: 119 ] ورواه شعيب بن أبي حمزة ، وعقيل بن خالد ، عن ابن شهاب ، عن أبي سلمة ، وسعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة قال شعيب أتى رجل من أسلم النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال عقيل : أتى رجل من المسلمين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمعنى واحد ، وألفاظ مختلفة ، ولم تختلف ألفاظهم في أنه ماعز الأسلمي ، وأنه رده رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أربع مرات .

وروي هذا الحديث ، عن ابن شهاب مرسلا ، وقد ذكرناه في مراسيل ابن شهاب ، وذكرنا هناك الآثار المروية في هذا الباب ، وكثيرا من الأحكام التي توجبها ألفاظها ، والحمد لله .

وفي هذا الحديث من الفقه : أن الستر أولى بالمسلم على نفسه إذا وقع حدا من الحدود من الاعتراف به ، عند السلطان ، وذلك مع اعتقاد التوبة ، والندم على الذنب ، وتكون نيته ، ومعتقده ألا يعود ، فهذا أولى به من الاعتراف ، فإن الله يقبل التوبة ، عن عباده ، ويحب التوابين ، وهذا فعل أهل العقل والدين الندم والتوبة ، واعتقاد أن لا عودة ، ألا ترى إلى قوله أيشتكي ؟ أبه جنة ؟ .

وروى يزيد بن هارون ، عن يحيى بن سعيد ، عن سعيد بن المسيب أن ماعز بن مالك الأسلمي أتى إلى أبي بكر ، فأخبره أنه زنى ، فقال : له أبو بكر هل ذكرت ذلك لأحد قبلي ؟ [ ص: 120 ] فقال : لا ، فقال له أبو بكر : استتر بستر الله ، وتب إلى الله ، فإن الناس يعيرون ، ولا يغيرون ، وإن الله يقبل التوبة ، عن عباده .

وأما إعراض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عنه ، ففيه مذاهب لأهل العلم : منهم من زعم أن ذلك كان ; لأن الإقرار لا بد أن يكون أربع مرات كالشهادات على الزنى ، وكان إعراضه لئلا يتم الإقرار الموجب للحد محبة في الستر ، فلما تم الإقرار على حكمه أمر بالرجم ، ومنهم من قال : مرة واحدة تجزئ ، وقد ذكرنا مذاهبهم ، والآثار التي منها نزع ، وفرع كل فريق منهم قوله في باب مرسل ابن شهاب من هذا الكتاب .

وفي قوله - عليه السلام - أيشتكي ؟ أبه جنة ؟ دليل على أنه إنما رده ، وأعرض عنه من أجل ذلك ، - والله أعلم - لا ليتم إقراره أربع مرات كما زعم من قال ذلك .

ويدل على صحة هذا التأويل قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث ابن شهاب ، واغد يا أنيس على امرأة هذا ، فإن اعترفت ، فارجمها ، ولم يقل إن اعترفت أربع مرات .

وفي حديث الأوزاعي ، عن يحيى ، عن أبي قلابة ، عن أبي المهاجر ، عن عمران بن حصين أن امرأة قالت : يا رسول الله إني أصبت حدا ، فأقمه علي ، فأمر بها ، فشكت عليها ثيابها ، وقد ذكرنا هذا الخبر في باب يعقوب بن زيد من هذا الكتاب .

وفيه - أيضا - دليل على أن المجنون لا يلزمه حد ، ولهذا ما سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أيشتكي أبه جنة ، وهذا إجماع أن المجنون المعتوه لا حد عليه ، والقلم عنه مرفوع [ ص: 121 ] وفيه دليل على أن إظهار الإنسان ما يأتيه من الفواحش حمق لا يفعله إلا المجانين ، وأنه ليس من شأن ذوي العقول كشف ما واقعه من الحدود ، والاعتراف به ، عند السلطان ، وغيره ، وإنما من شأنها الستر على أنفسهم ، والتوبة من ذنوبهم ، وكما يلزمهم الستر على غيرهم ، فكذلك يلزمهم الستر على أنفسهم ، وسنذكر في هذا الباب الذي بعده في الستر أحاديث يستدل بها الناظر في كتابنا على صحة هذا إن شاء الله .

وفيه دليل على أن حد الثيب غير حد البكر في الزنى ، ولهذا ما سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبكر هو أم ثيب ؟ ولا خلاف بين علماء المسلمين أن حد البكر في الزنى غير حد الثيب ، وأن حد البكر الجلد وحده ، وحد الثيب الرجم وحده إلا أن من أهل العلم من رأى على الثيب الجلد ، والرجم جميعا ، وهم قليل روي ذلك ، عن علي ، وعبادة ، وتعلق به داود ، وأصحابه ، والجمهور على أن الثيب يرجم ، ولا يجلد ، وقد ذكرنا الاختلاف في ذلك في باب ابن شهاب ، عن عبيد الله ، وأما أهل البدع من الخوارج ، والمعتزلة فلا يرون الرجم على أحد من الزناة ثيبا كان أو غير ثيب ، وإنما حد الزناة عندهم الجلد الثيب ، وغير الثيب سواء عندهم ، وقولهم في ذلك خلاف سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخلاف سبيل المؤمنين ، فقد رجم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والخلفاء بعده ، وعلماء المسلمين في أقطار الأرض متفقون على ذلك من أهل الرأي ، والحديث ، وهم أهل الحق ، وبالله التوفيق .

[ ص: 122 ] وأما قوله : إن رجلا من أسلم جاء إلى أبي بكر الصديق ، فهذا الرجل هو ماعز الأسلمي لا يختلف أهل العلم في ذلك ، وقد تقدم من رواية يزيد بن هارون ، عن يحيى بن سعيد ، عن سعيد بن المسيب أنه ماعز بن مالك الأسلمي ، وهو معروف ، عند العلماء محفوظ لا يختلفون فيه .

أخبرنا قاسم بن محمد حدثنا خالد بن سعد حدثنا أحمد بن عمرو بن منصور حدثنا محمد بن عبد الله بن سنجر حدثنا عبيد الله بن موسى قال أخبرنا إسرئيل ، عن سماك ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ماعز بن مالك ، فاعترف مرتين ، فقال : اذهبوا به ، ثم ردوه ، فاعترف مرتين حتى اعترف أربعا ، فقال : اذهبوا به ، فارجموه .

قال ابن سنجر ، وحدثنا عارم قال : حدثنا أبو عوانة ، عن سماك بن حرب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لماعز : ما بلغني عنك قال : وما بلغك عني ؟ قال : وقعت على جارية بني فلان قال ؟ نعم قال : فشهد على نفسه أربع شهادات أو أقر أربع مرات قال : فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - برجمه .

وفي الباب بعد هذا في قصة هزال بيان ذلك - أيضا - .

حدثنا أحمد بن عبد الله قال : حدثنا الميمون بن حمزة قال : حدثنا الطحاوي قال : حدثنا المزني قال : حدثنا الشافعي قال أخبرنا عبد [ ص: 123 ] المجيد ، عن ابن جريج قال : أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول : رجم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلا من أسلم ، ورجلا من اليهود ، وامرأة .

حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد قال : حدثنا عبد الصمد بن عبد الرحمن المروزي قال : حدثنا عبد الله بن الحسين قال : حدثنا الحارث بن أبي أسامة قال : حدثنا بشر بن عمر الزهراني قال : حدثنا عبد الله بن لهيعة قال : حدثنا أبو الزبير قال سألت جابر بن عبد الله هل رجم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ قال رجم رجلا من أسلم ، ورجلا من اليهود ، وامرأة ، وقال لليهودي : نحن نحكم عليكم اليوم .

حدثنا خلف بن القاسم قال : حدثنا عبد الرحمن بن إسماعيل أبو عيسى الأسوائي قال : حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن يونس قال : حدثنا سفيان بن وكيع بن الجراح الرواسي حدثني أبي ، عن إسرائيل ، عن جابر ، عن عامر الشعبي ، عن عبد الرحمن بن أبزى ، عن أبي بكر الصديق أن ماعزا أقر على نفسه بالزنى ، عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاث مرات ، فقال : له النبي - صلى الله عليه وسلم - إن أقررت الرابعة أقمت عليك الحد ، فأقر عنده الرابعة ، فأمر به ، فحبس ، ثم سأل عنه ، فذكروا خيرا ، فرجم .

وليس في هذا الحديث حجة من أجل جابر الجعفي ، وإنما ذكرناه ليعرف ، وقد أجمعوا على أنه يكتب حديثه ، واختلفوا في الاحتجاج به ، وكان يحيى ، وعبد الرحمن لا يحدثان عنه ، وكان أحمد ، وابن معين يضعفانه ، وشهد له بالصدق ، والحفظ الثوري ، وشعبة ، ووكيع ، وزهير [ ص: 124 ] بن معاوية ، وقال : وكيع مهما شككتم في شيء ، فلا تشكوا أن جابرا الجعفي ثقة .

حدثنا محمد بن عبد الله بن حكم قال : حدثنا محمد بن معاوية قال : حدثنا إسحاق بن أبي حسان قال : حدثنا هشام بن عمار قال : حدثنا عبد الحميد قال : حدثنا الأوزاعي قال : أخبرني عثمان بن أبي سودة قال : حدثني من سمع عبادة بن الصامت يقول : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إن الله ليستر العبد من الذنب ما لم يخرقه قالوا : وكيف يخرقه يا رسول الله ؟ قال يحدث به الناس .

وأما قوله : إن أخر زنى ، فالرواية بكسر الخاء ، وهو الصواب ، ومعناه أن الرذل الدني زنى كأنه يدعو على نفسه ، ويعيبها بما نزل له من مواقعة الزنى .

قال أبو عبيدة ، ومن هذا قولهم : السؤال آخر الرجل أي أرذل الرجل .

وقال الأخفش كنى عن نفسه ، فكسر الخاء ، وهذا إنما يكون لمن حدث ، عن نفسه بقبيح يكره أن ينسب ذلك إلى نفسه .




الخدمات العلمية