الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                        يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم إنما أموالكم وأولادكم فتنة والله عنده أجر عظيم فاتقوا الله ما استطعتم واسمعوا وأطيعوا وأنفقوا خيرا لأنفسكم ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون إن تقرضوا الله قرضا حسنا يضاعفه لكم ويغفر لكم والله شكور حليم عالم الغيب والشهادة العزيز الحكيم

                                                                                                                                                                                                                                        يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فيه خمسة أقاويل : أحدها : أنه أراد قوما أسلموا بمكة فأرادوا الهجرة فمنعهم أزواجهم وأولادهم منها وثبطوهم عنها ، فنزل ذلك فيهم; قاله ابن عباس .

                                                                                                                                                                                                                                        الثاني : من أزواجكم وأولادكم من لا يأمر بطاعة الله ولا ينهى عن معصيته ، قاله قتادة .

                                                                                                                                                                                                                                        الثالث : أن منهم من يأمر بقطيعة الرحم ومعصية الرب ، ولا يستطيع مع حبه ألا يطيعه ، وهذا من العداوة; قاله مجاهد . وقال مقاتل بن سليمان : نبئت أن عيسى عليه السلام قال : من اتخذ أهلا ومالا وولدا كان للدنيا عبدا .

                                                                                                                                                                                                                                        الرابع : أن منهم من هو مخالف للدين ، فصار بمخالفة الدين عدوا ، قاله ابن زيد .

                                                                                                                                                                                                                                        [ ص: 25 ]

                                                                                                                                                                                                                                        الخامس : أن من حملك منهم على طلب الدنيا والاستكثار منها كان عدوا لك ، قاله سهل . وفي قوله فاحذروهم وجهان :

                                                                                                                                                                                                                                        أحدهما : فاحذروهم على دينكم; قاله ابن زيد .

                                                                                                                                                                                                                                        الثاني : على أنفسكم ، وهو محتمل . وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا الآية . يريد بالعفو عن الظالم ، وبالصفح عن الجاهل ، وبالغفران للمسيء . فإن الله غفور للذنب رحيم بالعباد ، وذلك أن من أسلم بمكة ومنعه أهله من الهجرة فهاجر ولم يمتنع قال : لئن رجعت لأفعلن بأهلي ولأفعلن ، ومنهم من قال : لا ينالون مني خيرا أبدا ، فلما كان عام الفتح أمروا بالعفو والصفح عن أهاليهم ، ونزلت هذه الآية فيهم . إنما أموالكم وأولادكم فتنة فيه وجهان :

                                                                                                                                                                                                                                        أحدهما : بلاء ، قاله قتادة .

                                                                                                                                                                                                                                        الثاني : محنة ، ومنه قول الشاعر


                                                                                                                                                                                                                                        لقد فتن الناس في دينهم وخلى ابن عفان شرا طويلا



                                                                                                                                                                                                                                        وفي سبب افتتانه بهما وجهان :

                                                                                                                                                                                                                                        أحدهما : لأنه يلهو بهما عن آخرته ويتوفر لأجلهما على دنياه .

                                                                                                                                                                                                                                        الثاني : لأنه يشح لأجل أولاده فيمنع حق الله من ماله ، لذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم : (الولد مبخلة محزنة مجبنة) .

                                                                                                                                                                                                                                        [ ص: 26 ]

                                                                                                                                                                                                                                        والله عنده أجر عظيم قال أبو هريرة والحسن وقتادة وابن جبير : هي الجنة . ويحتمل أن يكون المراد بذلك أن يكون أجرهم في الآخرة أعظم من منفعتهم بأموالهم وأولادهم في الدنيا ، فلذلك كان أجره عظيما . فاتقوا الله ما استطعتم فيه ثلاثة أوجه :

                                                                                                                                                                                                                                        أحدها : يعني جهدكم ، قاله أبو العالية .

                                                                                                                                                                                                                                        الثاني : أن يطاع فلا يعصى ، قاله مجاهد .

                                                                                                                                                                                                                                        الثالث : إنه مستعمل فيما يرجونه به من نافلة أو صدقة ، فإنه لما نزل قوله تعالى : اتقوا الله حق تقاته اشتد على القوم فقاموا حتى ورمت عراقيبهم وتقرحت جباههم ، فأنزل الله تعالى ذلك تخفيفا فاتقوا الله ما استطعتم فنسخت الأولى ، قاله ابن جبير . ويحتمل إن لم يثبت هذا النقل أن المكره على المعصية غير مؤاخذ بها لأنه لا يستطيع اتقاءها . واسمعوا قال مقاتل : كتاب الله إذا نزل عليكم . وأطيعوا الرسول فيما أمركم أو نهاكم ، قال قتادة : عليها بويع النبي صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة . وأنفقوا خيرا لأنفسكم فيه ثلاثة أوجه :

                                                                                                                                                                                                                                        أحدهما : هي نفقة المؤمن لنفسه ، قاله الحسن .

                                                                                                                                                                                                                                        الثاني : في الجهاد ، قاله الضحاك .

                                                                                                                                                                                                                                        الثالث : الصدقة ، قاله ابن عباس . ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون فيه ثلاثة تأويلات : أحدها : هوى نفسه ، قاله ابن أبي طلحة .

                                                                                                                                                                                                                                        [ ص: 27 ]

                                                                                                                                                                                                                                        الثاني : الظلم ، قاله ابن عيينة .

                                                                                                                                                                                                                                        الثالث : هو منع الزكاة ، قال ابن عباس : من أعطى زكاة ماله فقد وقاه الله شح نفسه . إن تقرضوا الله قرضا حسنا فيه ثلاثة أقاويل : أحدها : النفقة في سبيل الله ، قاله عمر رضي الله عنه .

                                                                                                                                                                                                                                        الثاني : النفقة على الأهل ، قاله زيد بن أسلم .

                                                                                                                                                                                                                                        الثالث : أنه قول سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ، رواه ابن حبان . وفي قوله حسنا وجهان محتملان :

                                                                                                                                                                                                                                        أحدهما : أن تطيب بها النفس .

                                                                                                                                                                                                                                        الثاني : أن لا يكون بها ممتنا . يضاعفه لكم فيه وجهان :

                                                                                                                                                                                                                                        أحدهما : بالحسنة عشر أمثالها ، كما قال تعالى في التنزيل .

                                                                                                                                                                                                                                        الثاني : إلى ما لا يحد من تفضله ، قاله السدي . ويغفر لكم يعني ذنوبكم . والله شكور حليم فيه وجهان :

                                                                                                                                                                                                                                        أحدهما : أن يشكر لنا القليل من أعمالنا وحليم لنا في عدم تعجيل المؤاخذة بذنوبنا .

                                                                                                                                                                                                                                        الثاني : شكور على الصدقة حين يضاعفها ، حليم في أن لا يعجل بالعقوبة من [تحريف] الزكاة عن موضعها ، قاله مقاتل . عالم الغيب والشهادة يحتمل وجهين :

                                                                                                                                                                                                                                        أحدهما : السر والعلانية .

                                                                                                                                                                                                                                        الثاني : الدنيا والآخرة .

                                                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية