الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 79 ] الفصل الثاني

في الكلام على الصفات الأصلية اللازمة

تنقسم الصفات الأصلية إلى قسمين أيضا:

قسم له ضد وهو خمس وضده كذلك، وتسمى هذه الصفات ذوات الأضداد.

وقسم لا ضد له وهو سبع، وفيما يلي الكلام على كل قسم بانفراد:

الكلام على الصفات ذوات الأضداد

والصفات ذوات الأضداد عشر وهي كالآتي:

الجهر وضده الهمس. والرخو وضده الشدة والتوسط معا. والاستفال وضده الاستعلاء. والانفتاح وضده الإطباق. والإصمات وضده الإذلاق.

وأما الصفات التي لا ضد لها فسبع كما مر، وهي: الصفير، والقلقلة، واللين، والانحراف، والتكرار، والتفشي، والاستطالة.

وسنتكلم أولا على كل صفة وضدها على حدة إلى أن تنتهي ذوات الأضداد، ثم نعقب بالكلام على الصفات السبع التي لا ضد لها، فنقول وبالله التوفيق.

الصفة الأولى: الهمس: وهو في اللغة الخفاء، وفي الاصطلاح ضعف التصويت بالحرف لضعف الاعتماد عليه في المخرج حتى جرى النفس معه فكان فيه همس أي خفاء، ولذا سمي مهموسا، وحروفها عشرة، جمعها الحافظ ابن الجزري في المقدمة والطيبة في قوله: "فحثه شخص سكت" وهي الفاء والحاء والثاء المثلثة والهاء والشين والخاء والصاد والسين والكاف والتاء المثناة فوق.

الصفة الثانية: الجهر: وهو ضد الهمس، ومعناه في اللغة الإعلان والإظهار، وفي الاصطلاح قوة التصويت بالحرف لقوة الاعتماد عليه في المخرج، حتى منع [ ص: 80 ] جريان النفس معه، فكان فيه جهر، أي إعلان وإظهار، ولذا سمي مجهورا، وحروفه تسعة عشر حرفا، وهي الأحرف الباقية من حروف الهجاء بعد حروف الهمس العشرة السابقة.

ويؤخذ من التعريف الاصطلاحي لصفتي الجهر والهمس أن الفرق بينهما قائم على عدم جريان النفس في الأول وجريانه في الثاني، كما يؤخذ أيضا أن الحروف الهجائية موزعة على الصفتين فما كان من حروف (فحثه شخص سكت) فهو من صفة الهمس، وما كان من غيرها فهو من صفة الجهر.

الصفة الثالثة: الشدة والتوسط: فالشدة معناها في اللغة القوة، وفي الاصطلاح لزوم الحرف لموضعه لقوة الاعتماد عليه في المخرج، حتى حبس الصوت عن الجريان معه فكان فيه شدة أي قوة؛ ولذا سمي شديدا، وحروفها ثمانية، جمعها الحافظ ابن الجزري في المقدمة والطيبة في قوله: "أجد قط بكت" وهي الهمزة والجيم والدال والقاف والطاء والباء الموحدة والكاف والتاء المثناة فوق.

والتوسط: أي بين الشدة والرخو، معناه في اللغة الاعتدال، وفي الاصطلاح كون الحرف بين الصفتين (أي بين صفة الشدة وصفة الرخو الآتية بعد) بحيث يكون عند النطق به ينحبس بعض الصوت معه ويجري بعضه؛ ولذا سمي متوسطا، وحروفه خمسة، جمعها الحافظ ابن الجزري في المقدمة والطيبة في قوله: "لن عمر " وهي اللام والنون والعين والميم والراء.

الصفة الرابعة: الرخو: وهو ضد الشدة والتوسط، ومعناه في اللغة اللين، وفي الاصطلاح ضعف لزوم الحرف لموضعه لضعف الاعتماد عليه في المخرج، حتى جرى معه الصوت فكان فيه رخو أي لين؛ ولذا سمي رخوا، وحروفه ستة عشر حرفا، وهي الباقية من حروف الهجاء بعد حروف الشدة الثمانية المتقدم ذكرها وحروف التوسط الخمسة السابق ذكرها كذلك.

ويؤخذ مما سبق توضيحه أن الحروف الهجائية موزعة على صفة الشدة والتوسط والرخو، فما كان من حروف "أجد قط بكت" فهو من صفة الشدة، وما كان من حروف "لن عمر " فهو من صفة التوسط، وما ليس منهما فهو من صفة الرخو، كما يؤخذ أيضا من التعريف الاصطلاحي للصفات الثلاث - ونعني بها الشدة [ ص: 81 ] والتوسط والرخو أن الفرق بينهن قائم على حبس جريان الصوت في الأولى وجريانه في الثالثة وعدم كمال جريانه في الثانية، بمعنى أن الصوت لم يجر في حروف التوسط كجريانه مع الرخو، ولم ينحبس كانحباسه مع الشدة.

وإليك بعضا من الأمثلة ليظهر لك الفرق بينهن، فإذا وقفت على الدال والجيم من نحو: مهتد [الحديد: 26] والحج [البقرة: 189] ترى أن الصوت انحبس ولم يخرج؛ لأن الدال والجيم من حروف الشدة، وإذا وقفت على السين والفاء من نحو: المس [البقرة: 275] أف [الأحقاف: 17] ترى أن الصوت قد جرى جريانا ظاهرا؛ وذلك لأن السين والفاء من حروف الرخو، وإذا وقفت على اللام والنون من نحو: قل [الناس: 1] و يكن [الإخلاص: 4] ترى أن الصوت لم ينحبس عند النطق بهذين الحرفين كانحباسه مع الشدة، ولم يجر معهما كجريانه مع الرخو، ومن ثم سميت بحروف التوسط أو الحروف البينية، وهذه الأمور كلها مدركة بالحس بأدنى تأمل، والله أعلم.

الصفة الخامسة: الاستعلاء: وهو في اللغة الارتفاع، وفي الاصطلاح ارتفاع اللسان إلى الحنك الأعلى عند النطق بالحرف، فيرتفع الصوت معه، ولذا سمي مستعليا، وحروفه سبعة، جمعها الحافظ ابن الجزري في المقدمة والطيبة في قوله: "خص ضغط قظ" وهي الخاء والصاد والضاد والغين والطاء والقاف والظاء.

الصفة السادسة: الاستفال: وهو ضد الاستعلاء، ومعناه في اللغة الانخفاض، وقيل: الانحطاط، وفي الاصطلاح انخفاض اللسان أو انحطاطه عن الحنك الأعلى عند النطق بالحرف، فينخفض معه الصوت إلى قاع الفم؛ ولذا سمي مستفلا، وحروفه اثنان وعشرون حرفا، وهي الباقية من حروف الهجاء بعد حروف الاستعلاء السبعة المتقدمة.

ومن هنا يؤخذ أن حروف الهجاء موزعة على الصفتين فما كان من حروف [ ص: 82 ] "خص ضغط قظ" فهو مستعل، وما كان من غيرها فهو مستفل، كما يؤخذ أيضا من التعريف الاصطلاحي لهاتين الصفتين أن الفرق بينهما قائم على ارتفاع اللسان بالحرف إلى الحنك الأعلى عند النطق به أو انخفاضه عنه، فما كان من الحروف مرتفع مع اللسان فهو مستعل، وما كان منها منخفض معه فهو مستفل، ويترتب على صفة الاستفال الترقيق لحروفها، كما يترتب على صفة الاستعلاء التفخيم لحروفها، وسيأتي مزيد بيان لهذا.

الصفة السابعة: الإطباق: ومعناه في اللغة الالتصاق، وفي الاصطلاح انطباق طائفة - أي جملة - من اللسان إلى الحنك الأعلى عند النطق بالحرف، وانحصار الصوت بينهما؛ ولذا سمي مطبقا وحروفه أربعة، وهي: (الصاد والضاد والطاء والظاء) وأقوى حروف الإطباق الطاء المهملة لجهرها وشدتها، وأضعفها الظاء المعجمة لرخاوتها، وأما الصاد والضاد فمتوسطتان.

ومعنى انطباق اللسان أي قربه من الحنك الأعلى عند النطق بهذه الأحرف زيادة عن قربه منه عند غيرها من حروف الاستعلاء المتقدمة.

واعلم أن الإطباق أبلغ وأخص من الاستعلاء، فكونه أبلغ؛ لأن اللسان عند النطق بحروفه يرتفع بها إلى الحنك الأعلى وينطبق بخلاف الاستعلاء فإن اللسان يرتفع بحروفه فقط ولا ينطبق بها، ولذا خصت حروف الإطباق من بين حروف الاستعلاء بتفخيم أقوى كما سيأتي. وكون الإطباق أخص من الاستعلاء؛ لأنه يلزم من الإطباق الاستعلاء ولا يلزم من الاستعلاء الإطباق، فكل مطبق مستعل وليس كل مستعل مطبقا.

الصفة الثامنة: الانتفاح: وهو ضد الإطباق، ومعناه في اللغة الافتراق، وفي الاصطلاح انفتاح ما بين اللسان والحنك الأعلى عند النطق بالحرف، فلا ينحصر الصوت بينهما؛ ولذا سمي منفتحا، وحروفه خمسة وعشرون حرفا، وهي الحروف الباقية من حروف الهجاء بعد حروف الإطباق الأربعة التي تقدمت.

ويؤخذ من هذا أن حروف الهجاء موزعة على الصفتين، فما كان من حروف الإطباق الأربعة فمطبق وما كان من غيرها فمنفتح، كما يؤخذ أيضا من التعريف الاصطلاحي لصفتي الإطباق والانفتاح أن الفرق بينهما قائم على انطباق اللسان [ ص: 83 ] إلى الحنك الأعلى عند النطق بالحرف وانفتاحه عنه، فما انطبق معه اللسان إلى الحنك الأعلى فمطبق وما انفتح معه اللسان عن الحنك الأعلى فمنفتح.

الصفة التاسعة: الذلاقة: ومن معانيها في اللغة الفصاحة والخفة، وفي الاصطلاح الاعتماد عند النطق بالحرف على ذلق اللسان والشفة، وقيل غير ذلك، وحروفها ستة، جمعها الحافظ ابن الجزري في المقدمة والطيبة في قوله: "فر من لب" وهي الفاء والراء والميم والنون واللام والباء الموحدة، وسميت بذلك لذلاقتها، أي خفتها وسرعة النطق بحروفها؛ لأن بعضها يخرج من ذلق اللسان أي طرفه، وهو الراء واللام والنون، وبعضها يخرج من ذلق الشفة وهو الفاء والباء والميم، وكما تسمى بالذلاقة تسمى بالحروف المذلقة وبحروف الإذلاق، وكلها ألفاظ مترادفة.

الصفة العاشرة: الإصمات: وهو ضد الذلاقة، ومعناه في اللغة المنع، وفي الاصطلاح منع حروفه من أن يبنى منها وحدها في كلام العرب كلمة رباعية الأصول أو خماسية لثقلها على اللسان، فلا بد من أن تكون في الكلمات الرباعية الأصول أو الخماسية حرف من الحروف المذلقة؛ لتعدل خفته ثقل حرف الإصمات، ولهذا سميت بالحروف المصمتة. وأما كلمة عسجد (اسم للذهب) وعسطوس بفتح العين والسين (اسم شجر) فقيل: إنهما غير أصليين في كلام العرب بل ملحقان به، وقيل: شاذان، وقيل غير ذلك، واعلم أن صفة الإذلاق وضدها صفة الصمت لا دخل لهما في تجويد الحروف.

هذا: وحروف الإصمات ثلاثة وعشرون حرفا، هي الباقية من حروف الهجاء بعد الحروف الستة المتقدمة للذلاقة.

ويؤخذ من هذا أن حروف الهجاء موزعة على صفتي الذلاقة والإصمات، فما كان من حروف "فر من لب" فمذلق وما كان من غيرها فمصمت.

وهنا قد انتهى كلامنا على الصفات العشر ذوات الأضداد، وهي التي أشار إليها الحافظ ابن الجزري في المقدمة والطيبة بقوله:

[ ص: 84 ]

صفاتها جهر ورخو مستفل منفتح مصمتة والضد قل     مهموسها (فحثه شخص سكت
شديدها لفظ (أجد قط بكت)

    وبين رخو والشديد (لن عمر )
وسبع علو (خص ضغط قظ) حصر     وصاد ضاد طاء ظاء مطبقه
و(فر من لب) الحروف المذلقه



الكلام على الصفات التي لا ضد لها

وهي سبع كما مر آنفا، وفيما يلي تفصيلها واحدة واحدة:

الصفة الأولى: الصفير: ومن معانيه في اللغة حدة الصوت، وفي الاصطلاح حدوث صوت زائد يخرج من بين الشفتين يشبه صوت الطائر عند النطق بحروفه الثلاثة، التي هي الصاد والزاي والسين؛ ولذا سميت بحروف الصفير، وأقوى تلك الحروف في الصفير الصاد لاستعلائها وإطباقها، ثم الزاي لجهرها، ثم السين لهمسها.

الصفة الثانية: القلقلة: ومن معانيها في اللغة التحريك والاضطراب، وفي الاصطلاح اضطراب اللسان بالحرف عند النطق به ساكنا حتى يسمع له نبرة قوية، وحروفها خمسة، جمعها الحافظ ابن الجزري في مقدمته وطيبته بقوله: (قطب جد) وهي القاف والطاء والباء الموحدة والجيم والدال المهملة، وسميت بذلك؛ لأنها حال سكونها تتقلقل عند خروجها حتى يسمع لها نبرة قوية - أي صوت عال - وذلك لأن من صفاتها الشدة والجهر، فالشدة تمنع الصوت أن يجري معها والجهر يمنع النفس أن يجري معها كذلك، فلما امتنع جريان الصوت والنفس مع حروفها احتيج إلى التكلف في بيانها بإخراجها شبيهة بالمتحرك.

والقلقلة صفة لازمة لحروفها الخمسة المذكورة آنفا، ولا فرق بين أن يكون الساكن منها موصولا نحو: يقبل [التوبة: 104] يطبع [الأعراف: 101] يبدأ [يونس: 4] يجمع [المائدة: 109] ويدرأ [النور: 8] أو موقوفا عليه سواء أكان مخففا أم مشددا فالمخفف نحو: فواق [ص: 15] الصراط [ص: 22] الأحزاب [ص: 13] أزواج [ص: 58] المهاد [ص: 56] والمشدد نحو: الحق [الشورى: 18] وتب [المسد: 1] والحج [البقرة: 189] أشد [فاطر: 44].

والقلقلة في الساكن الموقوف عليه بنوعيه أبين من الساكن الموصول، وفي هذا يقول الحافظ ابن الجزري في المقدمة الجزرية:


وبين مقلقلا إن سكنا     وإن يكن في الوقف كان أبينا



ثم اعلم أن القلقلة لم تكن قاصرة على ما تقدم من كونها في الساكن بأنواعه المتقدمة، بل في المتحرك من حروفها قلقلة كذلك؛ لأنها لا تنفك عنها ساكنة [ ص: 86 ] كانت أو متحركة، ولكونها من الصفات اللازمة لها ولتعريفها باجتماع صفتي الشدة والجهر كما تقدم فأصلها ثابت في المتحرك أيضا وإن لم تكن ظاهرة، إلا أنها أقل من الساكن غير الموقوف عليه، كما أن أصل الغنة ثابت في النون والميم الساكنتين المظهرتين والمتحركتين الخفيفتين، وبهذا يتبين أن مراتب القلقلة أربع وهي على النحو التالي:

الأولى: الساكن الموقوف عليه المشدد نحو: بالحق [غافر: 20].

الثانية: الساكن الموقوف عليه المخفف نحو: محيط [فصلت: 54].

الثالثة: الساكن الموصول وهو المعروف بالأصلي نحو: يجمع [المائدة: 109].

الرابعة: المتحرك مطلقا كالطاء والباء من نحو: طبع [النحل: 108].

فالقلقلة في الساكن المشدد الموقوف عليه أقوى منها في الساكن المخفف الموقوف عليه، وفي الساكن المخفف الموقوف عليه أقوى منها في الساكن الموصول، وفي الساكن الموصول أقوى منها في المتحرك الذي فيه أصل القلقلة فقط، وإن لم تكن ظاهرة، فتأمل.

أقسام القلقلة وكيفية أدائها

تنقسم القلقلة في غير المتحرك من حروفها الذي فيه أصل القلقلة فقط ثلاثة أقسام؛ صغيرة وكبيرة وأكبر:

فالصغيرة: ما كان وجودها في الساكن الموصول كقاف ويقدر [القصص: 82].

والكبيرة: ما كانت في الساكن الموقوف عليه المخفف كدال السجود [البقرة: 125].

والأكبر ما كانت حاصلة في الساكن الموقوف عليه المشدد كقاف أشق [الرعد: 34].

[ ص: 87 ] أما كيفية أدائها فقد اختلف العلماء في ذلك على أكثر من قول، والمشهور منها قولان:

الأول: أن الحرف المقلقل يتبع حركة ما قبله، ويستوي في ذلك ما كان سكونه موصولا أو موقوفا عليه مخففا كان أو مشددا.

فإن كان ما قبله مفتوحا نحو: ليقطع [آل عمران : 127] والحج [البقرة: 189] فقلقلته للفتح أقرب.

وإن كان ما قبله مكسورا نحو: قبلة [البقرة: 144] فقلقلته للكسر أقرب.

وإن كان مضموما نحو: مقتدر [القمر: 55] فقلقلته للضم أقرب.

هذا هو القول المشهور، وعليه الجمهور، وانظر جهد المقل وشرحه للمرعشي .

الثاني: أن الحرف المقلقل يكون للفتح أقرب مطلقا، سواء أكان قبله مفتوحا أم مكسورا أم مضموما.

وقد أشار بعضهم إلى هذا القول بقوله:


وقلقلة قرب إلى الفتح مطلقا     ولا تتبعنها بالذي قبل تجملا



كما أشار العلامة السمنودي في لآلئ البيان إلى القولين معا مرجحا الإتباع لما قبله، ومبينا تعريف كل من القلقلة الكبيرة والأكبر بقوله حفظه الله:


قلقلة قطب جد وقربت     للفتح والأرجح ما قبل اقتفت
كبيرة حيث لدى الوقف أتت     أكبر حيث عند وقف شددت

اهـ

هذا، وذكر صاحب العميد قولا ثالثا في كيفية أداء القلقلة ، حاصله أن حروف القلقلة تتبع حركة ما بعدها من الحروف لتتناسب الحركات، وهو قول من [ ص: 88 ] الأقوال الواردة في غير القولين المشهورين.

قلت: وإن صح هذا القول فيمكن تطبيقه على الساكن الموصول فقط نحو: يبدئ [البروج: 13] لأن الساكن الموقوف عليه كحرف الدال في نحو قوله تعالى إياك نعبد [الفاتحة: 5] لا يتأتى فيه إتباعه لما بعده لذهاب حركة ما بعده بسبب الوقف عليه، فتنبه.

ومما يجب معرفته والتنبيه عليه في كيفية أداء القلقلة أن حروفها الخمسة اجتمع فيها ما هو متصف بصفة الاستعلاء وهو القاف، وما هو متصف بصفة الإطباق وهو الطاء، وما هو متصف بصفة الاستفال وهو باقي الحروف الخمسة، ولكل مراعاة في الأداء، ففي حروف الاستفال تؤدى القلقلة بمراتبها السابقة مرققة؛ لأن حروف الاستفال حكمها الترقيق كما سيأتي بيانه في موضعه، وفي حرفي الاستعلاء والإطباق تؤدى القلقلة فيهما بمراتبها السابقة مفخمة؛ لأن حروف الاستعلاء حكمها التفخيم كما سنوضحه بعد.

ويلاحظ هنا أن تفخيم الطاء يكون أقوى من تفخيم القاف؛ لأن حروف الإطباق في التفخيم أقوى من حروف الاستعلاء كما هو مقرر، فاحفظ ذلك جيدا، واعمل به في الأداء، فقد أوضحنا لك هذا المقام توضيحا كاملا، فاحرص عليه فقد لا تجده مجموعا في غيره، والله ولي التوفيق.

الصفة الثالثة: اللين: وهو في اللغة السهولة، وقيل في معناه: ضد الخشونة، وفي الاصطلاح خروج الحرف من مخرجه من غير كلفة على اللسان، وله حرفان: الواو والياء الساكنتان المفتوح ما قبلهما نحو: الخوف [الأحزاب: 15] البيت [قريش: 3] وسيما بذلك لخروجهما بلين وعدم كلفة على اللسان، ولهذين الحرفين كلام خاص وهام للغاية سنأتي عليه إن شاء الله تعالى في باب المد والقصر.

الصفة الرابعة: الانحراف: وهو في اللغة الميل، وفي الاصطلاح ميل [ ص: 89 ] الحرف بعد خروجه من مخرجه حتى يتصل بمخرج غيره، وله حرفان اللام والراء على الصحيح، وسمي حرفاه بذلك لانحرافهما عن مخرجهما حتى اتصلا بمخرج غيرهما، فاللام فيها انحراف إلى طرف اللسان، والراء فيها انحراف إلى ظهره وميل قليل إلى جهة اللام؛ ولذلك يجعلها الألثغ لاما.

الصفة الخامسة: التكرير: وهو في اللغة إعادة الشيء وأقله مرة، وفي الاصطلاح ارتعاد طرف اللسان عند النطق بالحرف، وله حرف واحد وهو الراء، وسمي بذلك لارتعاد طرف اللسان عند النطق به، ومعنى وصف الراء بالتكرير أنها قابلة له، وليس المراد منه الإتيان به كما هو ظاهر وإنما المراد به التحرز منه واجتنابه، وخاصة إذا كانت الراء مشددة، فالواجب على القارئ حينئذ إخفاء هذا التكرير؛ لأنه متى أظهره فقد جعل من الراء المشددة راءات ومن المخففة راءين، والتكرير في المشددة أحوج إلى الإخفاء من التكرير في المخففة، ولهذا أمر الحافظ ابن الجزري في المقدمة بإخفاء تكرير المشدد بقوله:


.................      ... واخف تكريرا إذا تشدد



وخلاصة القول أن الغرض من معرفة صفة التكرير للراء ترك العمل به، عكس ما تقدم في الصفات وما هو آت بعد؛ إذ الغرض منها العمل بمقتضاها، وطريقة إخفاء التكرير في الراء كما قال الجعبري : إنه يلصق اللافظ ظهر لسانه بأعلى حنكه لصقا محكما مرة واحدة بحيث لا يرتعد؛ لأنه متى ارتعد حدث من كل مرة راء، [ ص: 90 ] اهـ بتصرف من النجوم الطوالع.

الصفة السادسة: التفشي: ومن معانيه في اللغة الانتشار، وفي الاصطلاح انتشار الريح في الفم عند النطق بالحرف، وله حرف واحد على الصحيح وهو الشين، وسمي بذلك لانتشار الريح في الفم عند النطق به حتى اتصل بمخرج الظاء المعجمة.

الصفة السابعة: الاستطالة: وهي في اللغة الامتداد، وفي الاصطلاح امتداد الصوت من أول حافة اللسان إلى آخرها، وهي صفة لحرف واحد وهو الضاد المعجمة، وسمي بذلك لاستطالته مخرجا وصوتا حتى اتصل بمخرج اللام.

وهنا انقضى كلامنا على الصفات السبع التي لا ضد لها، والتي أشار إليها الحافظ ابن الجزري في المقدمة والطيبة بقوله:


صفيرها صاد وزاي سين     قلقلة قطب جد واللين
واو وياء سكنا وانفتحا     قبلهما والانحراف صححا
في اللام والرا وبتكرير جعل     وللتفشي الشين ضاد استطل

اهـ

تتمة في صفتي الخفاء والغنة: زاد كثير من الأئمة صفتين أخريين من الصفات اللازمة التي لا ضد لها على الصفات السبع التي تقدم الكلام عليها وهي صفة الخفاء والغنة، وفيما يلي الكلام عليهما.

[ ص: 91 ] أما الخفاء: فهو في اللغة الاستتار، وفي الاصطلاح خفاء صوت الحرف، وحروفه أربعة وهي: حروف المد الثلاثة المتقدمة غير مرة والهاء، وسميت بذلك؛ لأنها تخفى في اللفظ إذا اندرجت بعد حرف قبلها.

أما الخفاء في حروف المد فلسعة مخرجها؛ لأنه مقدر كما تقدم في المخارج، ولذا قويت بالمد عند الهمز.

وأما الخفاء في الهاء فلاجتماع صفات الضعف فيها؛ ولذا قويت بالصلة إذا كانت ضميرا.

وأما الغنة: فهي في اللغة صوت في الخيشوم، وعرفها شيخ شيوخنا العلامة الشيخ عبد الحق البنهاوي في بهجة الصبيان بأنها في اللغة صوت أغن لا عمل للسان فيه اهـ. ومن معانيها في الاصطلاح صفة لازمة للنون - ولو تنوينا - والميم سكنتا أو تحركتا ظاهرتين أو مدغمتين أو مخفاتين، وسيأتي استيفاء الكلام عليها في بابها المعد لها قريبا إن شاء الله تعالى.

والحق أن هاتين الصفتين ينبغي إلحاقهما بالصفات السبع التي لا ضد لها؛ لأن الغنة صفة لازمة للنون والميم من كل الأحوال كما تقدم، مثلها مثل صفة القلقلة بالضبط؛ لأنها لا تنفك عن حروفها حتى في حال تحركها كما سبق، وكذلك صفة الخفاء لما ذكر، وبإلحاق صفتي الخفاء والغنة بالصفات السبع التي لا ضد لها تصير تسعا يضاف إليها ذوات الأضداد العشر، فتصير تسع عشرة صفة، كلها صحيحة ومشهورة، والله أعلم.

التالي السابق


الخدمات العلمية