الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              2 [ ص: 203 ] 2 - باب

                                                                                                                                                                                                                              2 - حدثنا عبد الله بن يوسف قال: أخبرنا مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أم المؤمنين - رضي الله عنها - أن الحارث بن هشام - رضي الله عنه - سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال يا رسول الله كيف يأتيك الوحي؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس -وهو أشده علي- فيفصم عني وقد وعيت عنه ما قال، وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا فيكلمني فأعي ما يقول". قالت عائشة رضي الله عنها: ولقد رأيته ينزل عليه الوحى في اليوم الشديد البرد، فيفصم عنه وإن جبينه ليتفصد عرقا. [3215 - مسلم 2233 - فتح: 1 \ 18]

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              الحديث الثاني:

                                                                                                                                                                                                                              نا عبد الله بن يوسف، أنا مالك، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة أم المؤمنين أن الحارث بن هشام سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله كيف يأتيك الوحي؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس -وهو أشده علي- فيفصم عني وقد وعيت عنه ما قال، وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا فيكلمني فأعي ما يقول". قالت عائشة رضي الله عنها: ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد، فيفصم عنه وإن جبينه ليتفصد عرقا.

                                                                                                                                                                                                                              الكلام عليه من وجوه:

                                                                                                                                                                                                                              أحدها:

                                                                                                                                                                                                                              هذا الحديث رواه البخاري أيضا في بدء الخلق عن فروة، عن علي بن مسهر، عن هشام، ورواه مسلم أيضا في الفضائل عن أبي بكر، عن ابن عيينة، وعن أبي كريب، عن أبي أسامة، وعن [ ص: 204 ] ابن نمير، واللفظ له عن ابن بشر عنه.

                                                                                                                                                                                                                              ثانيها:

                                                                                                                                                                                                                              هذا الحديث أدخله الحفاظ في مسند عائشة دون الحارث، وليس للحارث هذا في الصحيحين رواية، وإنما له رواية في سنن ابن ماجه فقط، وعده ابن الجوزي فيمن روى من الصحابة حديثين، مراده في غير الصحيحين، وليس في الصحابة في الصحيحين من اسمه الحارث غير الحارث بن ربعي أبي قتادة، على أحد الأقوال في اسمه، والحارث بن عوف أبي واقد الليثي، وهما بكنيتيهما أشهر، وأما خارج الصحيحين فجماعات كثيرون فوق المائة وخمسين.

                                                                                                                                                                                                                              والحارث الواقع هنا هو الحارث بن هشام بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، أخو أبي جهل لأبويه، وابن عم خالد بن الوليد، شهد بدرا كافرا وانهزم، وله يقول حسان:


                                                                                                                                                                                                                              إن كنت كاذبة بما حدثتني فنجوت منجى الحارث بن هشام ترك الأحبة أن يقاتل دونهم
                                                                                                                                                                                                                              ونجا برأسي طمرة ولجام

                                                                                                                                                                                                                              فاعتذر الحارث عن فراره فقال:


                                                                                                                                                                                                                              القوم أعلم ما تركت قتالهم حتى حبوا مهري بأشقر مزبد
                                                                                                                                                                                                                              وعرفت أني إن أقاتل واحدا أقتل ولا ينكى عدوي مشهدي
                                                                                                                                                                                                                              فصددت عنهم والأحبة فيهم طمعا لهم بعقاب يوم مفسد

                                                                                                                                                                                                                              فقال الأصمعي: لم أسمع أحسن من اعتذاره في الفرار.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 205 ] أسلم يوم الفتح، وحسن إسلامه، وأعطاه النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم حنين مائة من الإبل، وكان من فضلاء الصحابة وخيارهم، خرج هو وسهيل بن عمرو إلى الشام; ليستدركا ما فاتهما من سابقة الإسلام بالجهاد، فقاتل الكفار حتى قتل باليرموك سنة خمس عشرة أو بعمواس وهو الذي أجارته أم هانئ يوم الفتح، وقيل: بل هو غيره.

                                                                                                                                                                                                                              روى عنه ولده عبد الرحمن، وكان شريفا في قومه، وله اثنان وثلاثون ولدا، منهم: أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، أحد الفقهاء السبعة على قول، كان يقال له: الراهب.

                                                                                                                                                                                                                              فائدة:

                                                                                                                                                                                                                              ليس في الصحابة الحارث بن هشام إلا هذا، وإلا الحارث بن هشام الجهني.

                                                                                                                                                                                                                              روى عنه المصريون، ذكره ابن عبد البر.

                                                                                                                                                                                                                              الثالث: في التعريف برواته.

                                                                                                                                                                                                                              أما عائشة فهي: الصديقة بنت الصديق، (الحبيبة بنت الحبيب)، أبي بكر عبد الله بن أبي قحافة، عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب، [ ص: 206 ] أم المؤمنين كنيتها أم عبد الله كنيت بابن أختها عبد الله بن الزبير، وأبعد من قال: بسقط لها.

                                                                                                                                                                                                                              وعائشة مأخوذة من العيش، وحكي عيشة -لغة فصيحة - وأمها أم رومان -بفتح الراء وضمها- زينب بنت عامر بن عويمر بن عبد شمس بن عتاب بن أذينة بن سبيع بن دهمان بن الحارث بن غنم بن مالك بن كنانة، وهي أم عبد الرحمن، أخي عائشة أيضا، ماتت سنة ست في قول الواقدي والزبير وهو الأصح. تزوجها - صلى الله عليه وسلم - بمكة قبل الهجرة بسنتين، وقيل: بثلاث، وقيل: سنة ونصف أو نحوها في شوال بنت ست وقيل سبع، وبنى بها في شوال أيضا بعد وقعة بدر في السنة الثانية من الهجرة، وقال الواقدي: في الأولى بنت تسع. فأقامت في صحبته ثمانية أعوام وخمسة أشهر، وتوفي عنها وهي بنت ثماني عشرة، وعاشت خمسا وستين سنة. وكانت من أكبر فقهاء الصحابة، وأحد الستة الذين هم أكثر الصحابة رواية.

                                                                                                                                                                                                                              روي لها ألفا حديث ومائتا حديث وعشرة أحاديث، اتفق البخاري ومسلم على مائة وأربعة وسبعين حديثا، وانفرد البخاري بأربعة وخمسين، ومسلم (بتسعة) وستين.

                                                                                                                                                                                                                              روت عن خلق من الصحابة، وروى عنها جماعات من الصحابة والتابعين قريب من المائتين.

                                                                                                                                                                                                                              ماتت بعد الخمسين، إما سنة خمس، أو ست، أو سبع، أو ثمان في رمضان، وقيل: في شوال، وأمرت أن تدفن ليلا بعد الوتر بالبقيع، وصلى عليها أبو هريرة. ولها عدة خصائص ذكرتها في غير هذا [ ص: 207 ] الموضع خشية الطول، ومناقبها والأحاديث الصحيحة في فضلها كثيرة مشهورة، قال عروة: كانت عائشة أعلم الناس بالقرآن وبالحديث وبالطب وبالشعر.

                                                                                                                                                                                                                              وقال أبو موسى الأشعري: ما أشكل على أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيء فسألنا عنه عائشة إلا وجدنا عندها منه علما. وقال قبيصة بن ذؤيب: كانت عائشة أعلم الناس يسألها كبار الصحابة.

                                                                                                                                                                                                                              وقال القاسم بن محمد: استقلت بالفتوى في خلافة أبي بكر، وعمر، وعثمان، وهلم جرا إلى أن ماتت.

                                                                                                                                                                                                                              فوائد مهمة تتعلق بترجمتها رضي الله عنها:

                                                                                                                                                                                                                              الأولى: مات - صلى الله عليه وسلم - عن تسع نسوة، وعائشة أفضلهن قطعا، وهل هي أفضل من خديجة بنت خويلد؟ فيه وجهان لأصحابنا:

                                                                                                                                                                                                                              أحدهما: أن خديجة أفضل، وبه قال القاضي والمتولي، وقطع به ابن العربي المالكي، وغيره.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 208 ] والثاني: أن عائشة أفضل، وقد بسطت ذلك في كتابي "غاية السول في خصائص الرسول" مع حكاية خلاف آخر في أن عائشة أفضل من فاطمة أيضا فراجع ذلك منه.

                                                                                                                                                                                                                              الثانية: جملة من في الصحابة اسمه عائشة عشرة: عائشة هذه الجليلة، وبنت سعد، وبنت (جرير)، وبنت الحارث القرشية، وبنت أبي سفيان الأشهلية، وبنت عبد الرحمن بن عتيك زوج رفاعة، وبنت (عمير) الأنصارية، وبنت معاوية بن المغيرة أم [ ص: 209 ] عبد الملك بن مروان، وبنت قدامة بن مظعون، وعائشة من الأوهام وإنما هي بنت عجرد سمعت ابن عباس. وليس في الصحيحين من اسمه عائشة من الصحابة سوى الصديقة، وفيهما عائشة بنت طلحة بن عبيد الله، عن خالتها عائشة أصدقها مصعب ألف ألف، وكانت بديعة جدا (ضخمة)، وفي البخاري عائشة بنت سعد بن أبي وقاص، روت عن أبيها. وفي ابن ماجه عائشة بنت مسعود بن [ ص: 210 ] العجماء العدوية عن أبيها. وعنها ابن أختها محمد بن طلحة، وليس في مجموع الكتب الستة غير ذلك، وثم عائشة بنت سعد أخرى بصرية تروي عن الحسن.

                                                                                                                                                                                                                              الثالثة: قولهم في عائشة وغيرها من أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - ورضي عنهن: أم المؤمنين تبعوا فيه قوله تعالى: وأزواجه أمهاتهم [الأحزاب: 6]، وقرأ مجاهد: (وهو أب لهم) وقيل: إنها قراءة أبي بن كعب، وهن أمهات في وجوب احترامهن وبرهن وتحريم نكاحهن، لا في جواز الخلوة والمسافرة وتحريم نكاح بناتهن، وكذا النظر في الأصح، وبه جزم الرافعي ومقابله حكاه الماوردي.

                                                                                                                                                                                                                              وهل يقال لإخوتهن أخوال المسلمين، ولأخواتهن: خالات المؤمنين، ولبناتهن: أخوات المؤمنين؟ فيه خلاف عندنا وعند غيرنا، والأصح المنع لعدم التوقيف. ووجه مقابله أنه مقتضى ثبوت الأمومة، وهو ظاهر النص، لكنه مؤول، قالوا: ولا يقال: آباؤهن وأمهاتهن أجداد المؤمنين وجداتهم. وهل يقال فيهن: أمهات المؤمنات؟ فيه [ ص: 211 ] خلاف عندنا، والأصح أنه لا يقال; بناء على الأصح أنهن لا يدخلن في خطاب الرجال، وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: أنا أم (الرجال) لا أم النساء. وهل يقال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: أبو المؤمنين؟ فيه وجهان عندنا، والأصح: الجواز، ونص عليه الشافعي أيضا، أي: في الحرمة. ومعنى قوله تعالى: ما كان محمد أبا أحد من رجالكم [الأحزاب: 40]، لصلبه، وعن الأستاذ أبي إسحاق أنه لا يقال: أبونا، وإنما يقال: هو كأبينا، لما روي أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنما أنا لكم كالوالد".

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 212 ] ونقل صاحب "المحكم" عن الزجاج في معنى قوله تعالى: قال يا قوم هؤلاء بناتي هن أطهر لكم [هود: 78] كنى ببناته عن نسائهم، ونساء أمة كل نبي بمنزلة بناته، وأزواجه بمنزلة أمهاتهم.

                                                                                                                                                                                                                              وحكى جماعة من المفسرين في ذلك قولين:

                                                                                                                                                                                                                              أحدهما: أنه أراد بنتيه حقيقة; لأن الجمع يقع على الاثنين.

                                                                                                                                                                                                                              والثاني: أنه أراد نساء أمته; لأنه ولي أمته.

                                                                                                                                                                                                                              وأما الراوي عن عائشة فهو أبو عبد الله عروة بن الزبير بن العوام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي الأسدي المدني التابعي الجليل المجمع على إمامته وتوثيقه ووفور علمه، وهو أحد فقهاء المدينة السبعة، وهم: سعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، والقاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، وسليمان بن يسار، وخارجة بن زيد بن ثابت، وفي السابع ثلاثة أقوال:

                                                                                                                                                                                                                              أحدها: أبو سلمة بن عبد الرحمن.

                                                                                                                                                                                                                              ثانيها: سالم بن عبد الله بن عمر.

                                                                                                                                                                                                                              ثالثها: أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام. وقد جمعهم الشاعر على هذا القول الأخير فقال:


                                                                                                                                                                                                                              ألا إن من لا يقتدي بأئمة فقسمته ضيزى من الحق خارجه
                                                                                                                                                                                                                              فخذهم عبيد الله عروة قاسم سعيد أبو بكر سليمان خارجه

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 213 ] وأم عروة: أسماء بنت الصديق، وقد جمع الشرف من وجوه، فرسول الله - صلى الله عليه وسلم - صهره، وأبو بكر جده، والزبير والده، وأسماء أمه، وعائشة خالته، سمع أباه، وأمه، وخالته، وأخاه عبد الله بن الزبير، وخلائق من كبار الصحابة، وجماعة من التابعين، وروى عنه جماعة من التابعين وغيرهم.

                                                                                                                                                                                                                              قال الزهري: كان عروة بحرا لا تكدره الدلاء. وفي رواية: بحرا لا ينزف.

                                                                                                                                                                                                                              وقال ولده هشام: والله ما (تعلمنا) منه جزءا من ألفي جزء من حديثه، وقال: صام أبي الدهر وما مات إلا وهو صائم.

                                                                                                                                                                                                                              وقال سفيان بن عيينة: كان أعلم الناس بحديث عائشة: القاسم بن محمد وعروة وعمرة.

                                                                                                                                                                                                                              وقال عمر بن عبد العزيز: ما أعلم أحدا أعلم منه.

                                                                                                                                                                                                                              ولد سنة عشرين، ومات سنة أربع وتسعين. وقيل: سنة ثلاث.

                                                                                                                                                                                                                              وقيل: سنة تسع روى له الجماعة، وليس في الستة عروة بن الزبير سواه، ولا في الصحابة أيضا.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 214 ] وأما الراوي عنه فهو ولده هشام أبو المنذر. وقيل: أبو عبد الله أحد الأعلام، تابعي مدني، رأى ابن عمر ومسح برأسه ودعا له، وجابرا وغيرهما، وسمع أباه وعمه عبد الله بن الزبير وخلقا. وروى عن بكر بن وائل وهو أصغر منه، وعنه شعبة ومالك والقطان.

                                                                                                                                                                                                                              وكان سيدا جليلا ثقة (ثبتا) كثير الحديث، ولد مقتل الحسين سنة إحدى وستين، ومات ببغداد سنة خمس وأربعين ومائة وقيل: سنة ست وقيل: سنة سبع، روى له الجماعة، ولا يحضرني أحد شاركه في اسمه مع اسم أبيه.

                                                                                                                                                                                                                              وأما الراوي عنه فهو الإمام -إمام دار الهجرة- أبو عبد الله مالك بن أنس بن مالك تابعي -سمع عثمان - ابن أبي عامر نافع -وله إدراك - ابن عمرو بن الحارث بن غيمان -بغين معجمة مفتوحة ثم مثناة تحت ساكنة- ابن خثيل -بخاء معجمة مضمومة، وقيل بالجيم حكاه أبو نصر عن الدارقطني ثم مثلثة مفتوحة، ثم مثناة تحت ساكنة، ثم لام -ابن عمرو بن الحارث -وهو ذو أصبح، عدادهم بالحلف في تيم -ابن مرة من قريش الأصبحي المدني، ومناقبه جمة أفردت بالتأليف.

                                                                                                                                                                                                                              سمع خلقا من التابعين وغيرهم، قال أبو القاسم الدولعي : أخذ [ ص: 215 ] عن تسعمائة شيخ، منهم ثلاثمائة من التابعين وستمائة من تابعيهم ممن اختاره وارتضى دينه وفقهه وقيامه بحق الرواية وشروطها وسكنت النفس إليه، وحصلت الثقة به، وترك الرواية عن أهل دين وصلاح لا يعرفون الرواية.

                                                                                                                                                                                                                              روى عنه جماعة من التابعين، منهم: الزهري ويحيى بن سعيد الأنصاري وهما من شيوخه، وروى عنه ممن بعد التابعين خلائق من الأعلام منهم الأوزاعي، والثوري، وشعبة، والليث، والشافعي، وآخرون.

                                                                                                                                                                                                                              وحديث أبي هريرة الحسن في الترمذي أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "يوشك أن يضرب الناس آباط المطي في طلب العلم فلا يجدون عالما أعلم من عالم المدينة" قيل: إنه ليس المراد رجلا بعينه، وإنما هذا في آخر الزمان عند ضعف الدين، والمعروف أن المراد به الإمام مالك، هذا هو الذي حمله العلماء عليه، وإن كان سفيان بن عيينة قال مرة: إنه (العمري) عبد العزيز بن عبد الله الزاهد.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 216 ] مات - رضي الله عنه - صبيحة أربع عشرة من شهر ربيع الأول من سنة تسع وسبعين ومائة، عن خمس وثمانين سنة، وقيل: غير ذلك، وقبره بالبقيع معروف في قبة مفردة، وقد زرته غير مرة، ونسأل الله العودة، وكان حمل به البطن ثلاث سنين، ولما حضرته الوفاة تشهد ثم قال: لله الأمر من قبل ومن بعد، وكان نقش خاتمه: حسبي الله ونعم الوكيل. روى له الجماعة.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 217 ] فائدة:

                                                                                                                                                                                                                              مالك - رضي الله عنه - أحد المذاهب الستة المتبوعة.

                                                                                                                                                                                                                              وثانيهم: أبو حنيفة النعمان بن ثابت، مات ببغداد سنة خمسين ومائة عن سبعين سنة.

                                                                                                                                                                                                                              وثالثهم: الشافعي محمد بن إدريس، مات بمصر سنة أربع ومائتين عن أربع وخمسين سنة.

                                                                                                                                                                                                                              ورابعهم: أحمد بن حنبل، مات سنة إحدى وأربعين ومائتين عن ثمانين سنة ببغداد.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 218 ] وخامسهم: أبو عبد الله سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري، مات بالبصرة سنة إحدى وستين ومائة عن أربع وستين سنة.

                                                                                                                                                                                                                              وآخرهم: داود بن علي بن خلف أبو سليمان الأصبهاني، مات سنة تسعين ومائتين عن ثمان وثمانين سنة ببغداد، وهو إمام الظاهرية، أخذ العلم عن إسحاق بن راهويه، وأبي ثور، وقد جمع الإمام أبو الفضل يحيى بن سلامة الحصكفي من أصحابنا الفقهاء [ ص: 219 ] (القراء) السبعة في بيت وأئمة المذاهب في بيت، فقال:


                                                                                                                                                                                                                              جمعت لك القراء لما أردتهم ببيت تراه للأئمة جامعا
                                                                                                                                                                                                                              أبو عمرو وعبد الله حمزة عاصم علي ولا تنس المديني نافعا
                                                                                                                                                                                                                              وإن شئت أركان الشريعة فاستمع لتعرفهم فاحفظ إذا كنت سامعا
                                                                                                                                                                                                                              محمد والنعمان مالك أحمد وسفيان واذكر بعد داود تابعا

                                                                                                                                                                                                                              فائدة ثانية:

                                                                                                                                                                                                                              ليس في الرواة مالك بن أنس غير هذا الإمام، وغير مالك بن أنس الكوفي، روي عنه حديث واحد عن هانئ بن حزام وقيل: جزام، ووهم بعضهم فأدخل حديثه في حديث الإمام نبه عليه الخطيب في (كتابه) "المتفق والمفترق".

                                                                                                                                                                                                                              وأما الراوي عن الإمام مالك فهو أبو محمد عبد الله بن يوسف -بتثليث السين مع الهمز ودونه- المصري التنيسي شيخ البخاري، وتنيس -بمثناة فوق مكسورة ثم نون مكسورة ثم ياء مثناة تحت ساكنة ثم سين مهملة- بلدة بمصر سميت بتنيس بن حام بن نوح -عليه السلام - أصله من دمشق ثم نزل تنيس، قال البخاري: لقيته بمصر سنة سبع عشرة ومائتين، ومنه سمع البخاري "الموطأ" عن مالك، قال يحيى بن معين: ما بقي على أديم الأرض أحد أصدق في "الموطأ" منه، سمع [ ص: 220 ] الأعلام مالكا والليث وغيرهما، وعنه الأعلام يحيى بن معين والذهلي وغيرهما، وأكثر عنه البخاري في "صحيحه" وقال: كان أثبت الشاميين، وروى أبو داود، والترمذي، والنسائي، عن رجل عنه، ولم يخرج له مسلم، مات بمصر سنة ثمان عشرة ومائتين، وليس في الكتب الستة عبد الله بن يوسف سواه.

                                                                                                                                                                                                                              فائدة:

                                                                                                                                                                                                                              هذا الإسناد كله مدنيون، خلا شيخ البخاري وفيه أيضا طرفة ثانية، وهي رواية تابعي عن تابعي.

                                                                                                                                                                                                                              الوجه الرابع: في ألفاظه ومعانيه:

                                                                                                                                                                                                                              وهو بيان لكيفية الوحي لا لكيفية بدوه، فتنبه له:

                                                                                                                                                                                                                              الأول: قد أسلفنا أول الباب أن الوحي أصله الإعلام في خفاء وسرعة، ثم الوحي في حق الأنبياء على ثلاثة أضرب، كما نبه عليه القاضي عياض رحمه الله:

                                                                                                                                                                                                                              أحدها: سماع الكلام القديم كسماع موسى عليه أفضل الصلاة والسلام بنص القرآن، ونبينا - صلى الله عليه وسلم - بصحيح الآثار.

                                                                                                                                                                                                                              ثانيها: وحي رسالة بواسطة الملك.

                                                                                                                                                                                                                              ثالثها: وحي تلق بالقلب، وقيل: كان هذا حال داود - صلى الله عليه وسلم - كقوله:

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 221 ] "إن روح القدس نفث في روعي" أي: في نفسي، والوحي إلى غير الأنبياء بمعنى الإلهام كالوحي إلى النحل.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 222 ] وذكر السهيلي أن في كيفية نزول الوحي على سيدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سبع صور:

                                                                                                                                                                                                                              الأول: المنام. كما جاء في هذا الحديث.

                                                                                                                                                                                                                              ثانيها: أن يأتيه الوحي في مثل صلصلة الجرس كما جاء فيه أيضا.

                                                                                                                                                                                                                              ثالثها: أن ينفث في روعه الكلام كما جاء في الحديث السالف، وقال مجاهد وغيره في قوله تعالى: فيوحي بإذنه ما يشاء [الشورى: 51] هو أن ينفث في روعه بالوحي.

                                                                                                                                                                                                                              رابعها: أن يتمثل له الملك رجلا كما جاء في هذا الحديث وقد كان يأتيه في صورة دحية.

                                                                                                                                                                                                                              خامسها: أن يتراءى له جبريل في صورته التي خلقها الله تعالى، له [ ص: 223 ] ستمائة جناح ينتثر منها اللؤلؤ والياقوت.

                                                                                                                                                                                                                              سادسها: أن يكلمه الله من وراء حجاب إما في اليقظة كليلة الإسراء، أو في النوم كما جاء في الترمذي مرفوعا: "أتاني ربي في أحسن صورة فقال: فيم يختصم الملأ الأعلى؟.. " الحديث.

                                                                                                                                                                                                                              وحديث عائشة الآتي: "فجاءه الملك فقال: اقرأ" ظاهره أن ذلك كان يقظة، وفي "السيرة": "فأتاني وأنا نائم" ويمكن الجمع بأنه جاءه أولا مناما توطئة وتيسيرا عليه ورفقا به.

                                                                                                                                                                                                                              وفي "صحيح مسلم" من حديث ابن عباس مكث - صلى الله عليه وسلم - بمكة خمس عشرة سنة يسمع الصوت ويرى الضوء سبع سنين ولا يرى شيئا، وثمان سنين يوحى إليه.

                                                                                                                                                                                                                              سابعها: وحي إسرافيل كما جاء عن الشعبي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وكل به إسرافيل فكان يتراءى له ثلاث سنين ويأتيه بالكلمة من الوحي والشيء ثم وكل به جبريل، وأنكر الواقدي وغيره كونه وكل به غير جبريل.

                                                                                                                                                                                                                              وقال أحمد بن محمد البغدادي: أكثر ما في الشريعة مما أوحي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على لسان جبريل عليه السلام.

                                                                                                                                                                                                                              قال الغزالي: وسماع النبي - صلى الله عليه وسلم - والملك الوحي من الله تعالى بغير [ ص: 224 ] واسطة يستحيل أن يكون بحرف أو صوت لكن يكون بخلقه تعالى للسامع علما ضروريا بثلاثة أمور: (بالمتكلم) وبأن ما سمعه كلامه وبمراده من كلامه، والقدرة الأزلية لا تقتصر عن اضطرار النبي والملك إلى العلم بذلك. وكما أن كلامه تعالى ليس من جنس كلام البشر فسماعه الذي يخلقه لعبده ليس من جنس سماع الأصوات، ولذلك عسر علينا فهم كيفية سماع موسى -عليه السلام- لكلامه تعالى الذي ليس بحرف ولا صوت كما يعسر على الأكمه كيفية إدراك البصر للألوان، أما سماعه - صلى الله عليه وسلم - فيحتمل أن يكون بحرف وصوت دال على معنى كلام الله.

                                                                                                                                                                                                                              والمسموع الأصوات الحادثة، وهي فعل الملك دون نفس الكلام، ولا يكون هذا سماعا لكلام الله تعالى من غير واسطة، وإن كان يطلق عليه أنه سماع كلام الله تعالى، وسماع الأمة من الرسول كسماع الرسول من الملك، وطريق الفهم فيه تقديم المعرفة بوضع اللغة التي يقع بها المخاطبة.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 225 ] وحكى القرافي خلافا للعلماء في ابتداء الوحي هل كان جبريل -عليه السلام - ينقل له ملك عن الله تعالى أو يخلق له علم ضروري بأن الله تعالى طلب منه أن يأتي محمدا وغيره من الأنبياء بسور كذا، أو خلق له علما ضروريا بأن يأتي اللوح المحفوظ فينقل منه كذا.

                                                                                                                                                                                                                              الثاني: قوله - صلى الله عليه وسلم -: ("أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس") الأحيان: الأوقات جمع حين يقع على القليل والكثير، قال تعالى: هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا [الإنسان: 1]، أي: مدة من الدهر والصلصلة -بفتح الصادين المهملتين-: الصوت المتدارك الذي لا يفهم أول وهلة، قال الخطابي: يريد أنه صوت متدارك يسمعه ولا ينتبه أول ما يقرع سمعه حتى يفهمه من بعد.

                                                                                                                                                                                                                              قيل: الحكمة في ذلك أن يتفرغ سمعه، ولا يبقى فيه مكان لغير صوت الملك ولا في قلبه، وكذلك قال المهلب: يعني قوة صوت ملك الوحي ليشغله عن أمور الدنيا، وتفرغ حواسه فلا يبقى في سمعه ولا في قلبه مكان لغير صوت الملك.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 226 ] قال أبو الحسن علي بن بطال : وعلى مثل هذه الصفة تتلقى الملائكة الوحي من الله تعالى، وقد ذكر البخاري في كتاب التوحيد وغيره عن ابن مسعود: إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السماوات شيئا، فإذا فزع عن قلوبهم وسكن الصوت عرفوا أنه الحق ونادوا: ماذا قال ربكم؟ قالوا: الحق.

                                                                                                                                                                                                                              وعن أبي هريرة قال: "إذا قضى الله تعالى الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله، كأنه سلسلة على صفوان، فإذا فزع عن قلوبهم قالوا: ماذا قال ربكم؟ قالوا: الحق. وهو العلي الكبير فيسمعها مسترقو السمع هكذا بعضه فوق بعض -ووصف سفيان بكفه فحركها وبدد بين أصابعه - فيستمع الكلمة فيلقيها إلى من تحته ثم يلقيها الآخر إلى من تحته حتى يلقيها على لسان الساحر والكاهن فربما أدركه الشهاب قبل أن يلقيها وربما ألقاها قبل أن يدركه فيكذب معها مائة كذبة، وقال: أليس قد كان كذا وكذا فيصدق بتلك الكلمة التي سمعت من السماء"، وقيل: معنى فزع: كشف. وهو دال على [ ص: 227 ] أنه يصيبهم فزع شديد من شيء يحدث من أمر الله تعالى، والمراد بالحق: الوحي، وقال ابن جبير: ينزل الأمر من رب العزة فيسمعون مثل وقع الحديد على الصفا فيفزع أهل السماء حتى (يستبين) لهم الأمر الذي نزل فيه، فيقول بعضهم لبعض: ماذا قال ربكم؟ فيقول: قال: الحق.

                                                                                                                                                                                                                              وروي مرفوعا: "إذا أراد الله أن يوحي بالأمر تكلم بالوحي أخذت السماء منه رجفة -أو قال: رعدة- شديدة خوفا من الله، فإذا سمع ذلك أهل السماوات صعقوا وخروا لله سجدا، فيكون أول ما يرفع رأسه جبريل فيكلمه من وحيه بما (أراد)، ثم يمر جبريل على الملائكة، كلما مر على سماء سأله ملائكتها: ماذا قال ربنا يا جبريل؟ قال: الحق وهو العلي الكبير. فيقولون كلهم مثل ما قال جبريل، فينتهي جبريل حيث أمره الله".

                                                                                                                                                                                                                              الوجه الثالث: قد أسلفنا أن الصلصلة الصوت المتدارك، قال أبو علي الهجري في "أماليه": الصلصلة للحديد، والنحاس، والصفر، ويابس الطين، وما أشبه ذلك صوته.

                                                                                                                                                                                                                              وقال في "المحكم": صل يصل صليلا، وصلصل صلصلة (وتصلصلا) : صوت. فإن توهمت ترجيع صوت قلت: صلصل وتصلصل.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 228 ] وعبارة القاضي: الصلصلة: صوت الحديد فيما له طنين. وقيل: معنى الحديث هو: قوة صوت حفيف أجنحة الملائكة لشغله عن غير ذلك، ويؤيده الرواية الأخرى: "كأنه سلسلة على صفوان" أي: حفيف الأجنحة. والجرس هو الجلجل الذي يعلق في رأس الدواب، كره - صلى الله عليه وسلم - صحبته في السفر; لأنه مزمار الشيطان كما أخرجه أبو داود وصححه ابن حبان. وقيل: كرهه لأنه يدل على أصحابه بصوته، وكان يحب ألا يعلم العدو به حتى يأتيهم فجأة، حكاه ابن الأثير قال ابن دريد: واشتقاقه من الجرس أي: الصوت والحس.

                                                                                                                                                                                                                              وقال ابن سيده: الجرس والجرس والجرس-الأخير عن كراع- الحركة والصوت من كل ذي صوت، وقيل: الجرس بالفتح إذا أفرد، فإذا قالوا: ما سمعت له حسا ولا جرسا كسروا فأتبعوا اللفظ اللفظ.

                                                                                                                                                                                                                              وقال الصغاني: قال ابن السكيت: الجرس والجرس الصوت ولم يفرق. وقال الليث: الجرس: مصدر الصوت المجروس، والجرس بالكسر: الصوت نفسه.

                                                                                                                                                                                                                              الوجه الرابع: قوله: ("وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا") يحتمل تمثيل جبريل له رجلا أن الله تعالى أفنى الزائد من خلقه ثم أعاده إليه، ويحتمل أنه يزيله عنه ثم يعيده إليه بعد التبليغ، نبه على ذلك [ ص: 229 ] إمام الحرمين، وأما التداخل فلا يصح على مذهب أهل الحق، وأبدى الشيخ عز الدين ابن عبد السلام سؤالا، فقال: إن قيل: إذا لقي جبريل النبي - صلى الله عليه وسلم - في صورة دحية، فأين تكون روحه؟ فإن كان في الجسد الذي له ستمائة جناح، فالذي أتى لا روح جبريل ولا جسده، وإن كانت في هذا الذي هو في صورة دحية فهل يموت الجسد العظيم أم يبقى خاليا من الروح المنتقلة عنه إلى الجسد المشبه بجسد دحية؟ ثم أجاب بأنه لا يبعد أن لا يكون انتقالها موجب موته فيبقى الجسد حيا لا ينقص من معارفه شيء، ويكون انتقال روحه (إلى) الجسد الثاني كانتقال أرواح الشهداء إلى أجواف طير خضر، قال: وموت الأجساد بمفارقة الأرواح ليس بواجب عقلا، بل بعادة أجراها الله تعالى في بني آدم، فلا تلزم في غيرهم.

                                                                                                                                                                                                                              الوجه الخامس: قوله: ("فيفصم عني") فيه روايات: أصحها: "يفصم" بفتح الياء المثناة تحت وإسكان الفاء وكسر الصاد، قال الخطابي: معناه: يقطع وينجلي ما يغشاني منه، قال: وأصل الفصم القطع ومنه: لا انفصام [البقرة: 256]، وقيل: إنه الصدع بلا إبانة، وبالقاف قطع مع إبانة. فمعنى الحديث: أن الملك فارقه ليعود.

                                                                                                                                                                                                                              الثانية: بضم أوله وفتح ثالثه، وهي رواية أبي ذر الهروي.

                                                                                                                                                                                                                              والثالثة: بضم أوله وكسر ثالثه من أفصم المطر إذا أقلع رباعي، وهي لغة قليلة.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 230 ] السادس: قوله: ("وقد وعيت عنه ما قال") أي: فهمت وجمعت وحفظت. قال صاحب "الأفعال": وعيت العلم: حفظته، ووعيت الأذان: سمعته، وأوعيت المتاع جمعته في الوعاء.

                                                                                                                                                                                                                              قال ابن القطاع: وأوعيت العلم مثل وعيته، وقوله تعالى: والله أعلم بما يوعون [الانشقاق: 23]، أي: بما يضمرون في قلوبهم من التكذيب، وقال الزجاج: بما يحملون في قلوبهم، فهذا من أوعيت المتاع.

                                                                                                                                                                                                                              السابع: قوله ("يتمثل") أي: يتصور وانتصب (رجلا) على التمييز، والملك هنا بفتح اللام المراد به واحد الملائكة، ويقال للجمع أيضا.

                                                                                                                                                                                                                              الثامن: قولها: (وإن جبينه ليتفصد عرقا) الجبين غير الجبهة وهو فوق الصدغ، والصدغ: ما بين العين إلى الأذن، وللإنسان جبينان يكتنفان الجبهة، ومعنى (يتفصد) بالفاء والصاد المهملة يسيل.

                                                                                                                                                                                                                              و(عرقا): منصوب على التمييز، والمعنى: أن الوحي إذا كان ورد عليه يجد له مشقة ويغشاه كرب لثقل ما يلقى عليه، قال تعالى: إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا [المزمل: 5] ولذلك كان يعتريه مثل حال المحموم، كما روي أنه كان يأخذه عند الوحي الرحضاء يعني: البهر والعرق من الشدة، وأكثر ما يسمى به عرق الحمى، فكان جبينه يتفصد عرقا كما يتفصد لذلك، وإنما كان ذلك ليبلو صبره ويحسن تأديبه، ويرتاض لاحتمال ما كلف من أعباء النبوة.

                                                                                                                                                                                                                              وفي حديث يعلى: ورآه حين نزل عليه الوحي محمر الوجه وهو [ ص: 231 ] يغط. سيأتي في المناسك حيث ذكره البخاري.

                                                                                                                                                                                                                              ومنه في حديث عبادة بن الصامت أنه - صلى الله عليه وسلم - كان إذا نزل عليه الوحي كرب لذلك وتربد وجهه.

                                                                                                                                                                                                                              وفي حديث الإفك قالت عائشة: فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء عند الوحي حتى إنه ليتحدر منه مثل الجمان من العرق في اليوم الشاتي من ثقل القول الذي أنزل عليه.

                                                                                                                                                                                                                              وفي "صحيح مسلم": كان إذا نزل عليه الوحي نكس رأسه ونكص أصحابه رءوسهم، فإذا انجلى عنه رفع رأسه.

                                                                                                                                                                                                                              التاسع: ذكر في هذا الحديث حالين من أحوال الوحي وهما: "مثل صلصلة الجرس"، وتمثيل الملك له رجلا، ولم يذكر الرؤيا في النوم مع إعلامه لنا أن رؤياه حق لوجهين:

                                                                                                                                                                                                                              أحدهما: أن الرؤيا الصالحة قد يشركه فيها غيره بخلاف الأولين.

                                                                                                                                                                                                                              ثانيهما: لعله علم أن قصد السائل بسؤاله ما خص به ولا يعرف إلا من جهته.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 232 ] العاشر: في الحديث إثبات الملائكة، والرد على من أنكرهم من الملحدة والفلاسفة، ذكر ذلك أبو عبد الله ابن المرابط.

                                                                                                                                                                                                                              الحادي عشر: فيه -كما قال ابن عبد البر- دلالة على أن الصحابة كانوا يسألونه عن كثير من المعاني، وكان - صلى الله عليه وسلم - يجمعهم ويعلمهم وكانت طائفة تسأل وأخرى تحفظ وتؤدي وتبلغ، حتى أكمل الله دينه (ولله الحمد).

                                                                                                                                                                                                                              (آخر الجزء الثاني من تجزئة المصنف).




                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية