الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        صفحة جزء
        [ ص: 60 ] الحديث : صحيح ، وحسن ، وضعيف .

        الأول : الصحيح ، وفيه مسائل : الأولى : في حده ، وهو ما اتصل سنده بالعدول الضابطين من غير شذوذ ولا علة .

        التالي السابق


        ( الحديث ) فيما قال الخطابي في معالم السنن ، وتبعه ابن الصلاح : ينقسم عند أهله على ثلاثة أقسام : ( صحيح ، وحسن ، وضعيف ) لأنه إما مقبول أو مردود ، والمقبول إما أن يشتمل من صفات القبول على أعلاها أو لا ، والأول : الصحيح ، والثاني : الحسن ، والمردود لا حاجة إلى تقسيمه ؛ لأنه لا ترجيح بين أفراده .

        واعترض بأن مراتبه أيضا متفاوتة ، فمنه ما يصلح للاعتبار وما لا يصلح ، كما سيأتي ، فكان ينبغي الاهتمام بتمييز الأول من غيره .

        وأجيب بأن الصالح للاعتبار داخل في قسم المقبول ؛ لأنه من قسم الحسن لغيره ، وإن نظر إليه باعتبار ذاته ، فهو أعلى مراتب الضعيف ، وقد تفاوتت مراتب الصحيح أيضا ولم تنوع أنواعا ، وإنما لم يذكر الموضوع لأنه ليس في الحقيقة بحديث اصطلاحا ، بل بزعم واضعه ، وقيل : الحديث صحيح وضعيف فقط ، والحسن مدرج في أنواع الصحيح .

        قال العراقي في نكته : ولم أر من سبق الخطابي إلى تقسيمه المذكور ، وإن كان [ ص: 61 ] في كلام المتقدمين ذكر الحسن ، وهو موجود في كلام الشافعي والبخاري وجماعة ، ولكن الخطابي نقل التقسيم عن أهل الحديث . وهو إمام ثقة ، فتبعه ابن الصلاح .

        قال شيخ الإسلام ابن حجر : والظاهر أن قوله عند أهل الحديث من العام الذي أريد به الخصوص ، أي الأكثر ، أو الأعظم ، أو الذي استقر اتفاقهم عليه بعد الاختلاف المتقدم .

        ( تنبيه )

        قال ابن كثير : هذا التقسيم إن كان بالنسبة لما في نفس الأمر فليس إلا صحيح وكذب ، أو إلى اصطلاح المحدثين ، فهو ينقسم عندهم إلى أكثر من ذلك وجوابه أن المراد الثاني ، والكل راجع إلى هذه الثلاثة .

        ( الأول الصحيح ) وهو فعيل - بمعنى فاعل - من الصحة ، وهي حقيقة في الأجسام ، واستعمالها هنا مجاز . أو استعارة تبعية .

        ( وفيه مسائل ، الأولى : في حده ، وهو ما اتصل سنده ) عدل عن قول ابن الصلاح : المسند الذي يتصل إسناده ؛ لأنه أخصر وأشمل للمرفوع والموقوف .

        ( بالعدول الضابطين ) جمع باعتبار سلسلة السند ، أي بنقل العدل الضابط عن العدل الضابط إلى منتهاه ، كما عبر به ابن الصلاح ، وهو أوضح من عبارة المصنف إذ توهم أن يرويه جماعة ضابطون عن جماعة ضابطين ، وليس مرادا .

        قيل : كان الأفضل أن يقول بنقل الثقة ؛ لأنه من جمع العدالة والضبط ، والتعاريف تصان عن الإسهاب .

        [ ص: 62 ] ( من غير شذوذ ولا علة ) فخرج بالقيد الأول المنقطع والمعضل والمعلق والمدلس والمرسل على رأي من لا يقبله ، وبالثاني ما نقله مجهول عينا أو حالا ، أو معروف بالضعف ، وبالثالث ما نقله مغفل كثير الخطأ ، وبالرابع والخامس الشاذ والمعلل .



        [ تنبيهات ]

        الأول : حد الخطابي الصحيح بأنه : ما اتصل سنده وعدلت نقلته ، قال العراقي : فلم يشترط ضبط الراوي ولا السلامة من الشذوذ والعلة ، قال : ولا شك أن ضبطه لا بد منه ؛ لأن من كثر الخطأ في حديثه وفحش ، استحق الترك .

        قلت : الذي يظهر لي أن ذلك داخل في عبارته ، وأن بين قولنا : العدل وعدلوه فرقا ؛ لأن المغفل المستحق للترك لا يصح أن يقال في حقه : عدله أصحاب الحديث ، وإن كان عدلا في دينه ، فتأمل .

        ثم رأيت شيخ الإسلام ذكر في نكته معنى ذلك فقال : إن اشتراط العدالة يستدعي صدق الراوي وعدم غفلته وعدم تساهله عند التحمل والأداء .

        وقيل : إن اشتراط نفي الشذوذ يغني عن اشتراط الضبط ؛ لأن الشاذ إذا كان [ ص: 63 ] هو الفرد المخالف ، وكان شرط الصحيح أن ينتفي ، كان من كثرت منه المخالفة وهو غير الضابط أولى . وأجيب : بأنه في مقام التبيين ، فأراد التنصيص ولم يكتف بالإشارة .

        قال العراقي : وأما السلامة من الشذوذ والعلة ، فقال ابن دقيق العيد في الاقتراح : إن أصحاب الحديث زادوا ذلك في حد الصحيح ، قال : وفيه نظر على مقتضى نظر الفقهاء ، فإن كثيرا من العلل التي يعلل بها المحدثون لا تجري على أصول الفقهاء .

        قال العراقي : والجواب أن من يصنف في علم الحديث إنما يذكر الحد عند أهله لا عند غيرهم من أهل علم آخر ، وكون الفقهاء والأصوليين لا يشترطون في الصحيح هذين الشرطين لا يفسد الحد عند من يشترطهما ، ولذا قال ابن الصلاح بعد الحد : فهذا هو الحديث الذي يحكم له بالصحة بلا خلاف بين أهل الحديث ، وقد يختلفون في صحة بعض الأحاديث ، لاختلافهم في وجود هذه الأوصاف فيه ، أو لاختلافهم في اشتراط بعضها كما في المرسل .

        الثاني : قيل : بقي عليه أن يقول : ولا إنكار .

        ورد بأن المنكر عند المصنف وابن الصلاح هو والشاذ سيان ، فذكره معه تكرير ، وعند غيرهما أسوأ حالا من الشاذ ؛ فاشتراط نفي الشذوذ يقتضي اشتراط نفيه بطريق الأولى .

        [ ص: 64 ] ( الثالث ) : قيل : لم يفصح بمراده من الشذوذ هنا ، وقد ذكر في نوعه ثلاثة أقوال ؛ أحدها : مخالفة الثقة لأرجح منه . والثاني : تفرد الثقة مطلقا . والثالث : تفرد الراوي مطلقا . ورد الأخيرين ؛ فالظاهر أنه أراد هنا الأول .

        قال شيخ الإسلام : وهو مشكل ؛ لأن الإسناد إذا كان متصلا ورواته كلهم عدولا ضابطين ، فقد انتفت عنه العلل الظاهرة . ثم إذا انتفى كونه معلولا فما المانع من الحكم بصحته ؟ فمجرد مخالفة أحد رواته لمن هو أوثق منه أو أكثر عددا لا يستلزم الضعف ، بل يكون من باب صحيح وأصح .

        قال : ولم يرو مع ذلك عن أحد من أئمة الحديث اشتراط نفي الشذوذ المعبر عنه بالمخالفة . وإنما الموجود من تصرفاتهم تقديم بعض ذلك على بعض في الصحة .

        وأمثلة ذلك موجودة في الصحيحين وغيرهما ، فمن ذلك أنهما أخرجا قصة جمل جابر من طرق ، وفيها اختلاف كثير في مقدار الثمن ، وفي اشتراط ركوبه ، وقد رجح البخاري الطرق التي فيها الاشتراط على غيرها ، مع تخريج الأمرين ، ورجح أيضا كون الثمن أوقية مع تخريجه ما يخالف ذلك ، ومن ذلك أن مسلما أخرج فيه حديث مالك عن الزهري عن عروة عن عائشة في الاضطجاع قبل ركعتي الفجر ، وقد خالفه عامة أصحاب الزهري كمعمر ويونس وعمرو بن الحارث والأوزاعي وابن أبي ذئب وشعيب ، وغيرهم عن الزهري ، فذكروا الاضطجاع بعد ركعتي الفجر قبل صلاة الصبح ، ورجح جمع من الحفاظ روايتهم على رواية مالك ، ومع ذلك فلم يتأخر أصحاب [ ص: 65 ] الصحيح عن إخراج حديث مالك في كتبهم . وأمثلة ذلك كثيرة .

        ثم قال : فإن قيل : يلزم أن يسمى الحديث صحيحا ولا يعمل به - قلت : لا مانع من ذلك ، ليس كل صحيح يعمل به ، بدليل المنسوخ - قال : وعلى تقدير التسليم ، إن المخالف المرجوح لا يسمى صحيحا ؛ ففي جعل انتفائه شرطا في الحكم للحديث بالصحة نظر ، بل إذا وجدت الشروط المذكورة أولا حكم للحديث بالصحة ما لم يظهر بعد ذلك أن فيه شذوذا ؛ لأن الأصل عدم الشذوذ ، وكون ذلك أصلا مأخوذ من عدالة الراوي وضبطه ، فإذا ثبت عدالته وضبطه كان الأصل أنه حفظ ما روى حتى يتبين خلافه .

        ( الرابع ) : عبارة ابن الصلاح : ولا يكون شاذا ولا معللا . فاعترض بأنه لا بد أن يقول بعلة قادحة ، وأجيب بأن ذلك يؤخذ من تعريف المعلول حيث ذكر في موضعه .

        قال شيخ الإسلام : لكن من غير عبارة ابن الصلاح ، فقال من غير شذوذ ولا علة ، احتاج أن يصف العلة بكونها قادحة وبكونها خفية ، وقد ذكر العراقي في منظومته الوصف الأول وأهمل الثاني ولا بد منه ، وأهمل المصنف وبدر الدين بن جماعة الاثنين ، فبقي الاعتراض من وجهين .

        قال شيخ الإسلام : ولم يصب من قال : لا حاجة إلى ذلك ؛ لأن لفظ العلة لا يطلق إلا على ما كان قادحا . فلفظ العلة أعم من ذلك .

        ( الخامس ) : أورد على هذا التعريف ما سيأتي : إن الحسن إذا روي من غير وجه [ ص: 66 ] ارتقى من درجة الحسن إلى منزلة الصحة ، وهو غير داخل في هذا الحد ، وكذا ما اعتضد بتلقي العلماء له بالقبول . قال بعضهم : يحكم للحديث بالصحة إذا تلقاه الناس بالقبول وإن لم يكن له إسناد صحيح .

        قال ابن عبد البر في الاستذكار : لما حكي عن الترمذي أن البخاري صحح حديث البحر : " هو الطهور ماؤه " ، وأهل الحديث لا يصححون مثل إسناده ، لكن الحديث عندي صحيح ؛ لأن العلماء تلقوه بالقبول . وقال في التمهيد : روى جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم : " الدينار أربعة وعشرون قيراطا " ، قال : وفي قول جماعة العلماء وإجماع الناس على معناه غنى عن الإسناد فيه .

        وقال الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني : تعرف صحة الحديث إذا اشتهر عند أئمة الحديث بغير نكير منهم .

        وقال نحوه ابن فورك ، وزاد بأن مثل ذلك بحديث : " في الرقة ربع العشر وفي مائتي درهم خمسة دراهم " .

        وقال أبو الحسن بن الحصار في تقريب المدارك ، على موطأ مالك : قد يعلم الفقيه صحة الحديث إذا لم يكن في سنده كذاب بموافقة آية من كتاب الله أو بعض أصول الشريعة ، فيحمله ذلك على قبوله والعمل به ، وأجيب عن ذلك بأن المراد بالحد الصحيح [ ص: 67 ] لذاته لا لغيره ، وما أورد من قبيل الثاني .

        ( السادس ) : أورد أيضا : المتواتر فإنه صحيح قطعا ، ولا يشترط فيه مجموع هذه الشروط . قال شيخ الإسلام : ولكن يمكن أن يقال : هل يوجد حديث متواتر لم يجتمع فيه هذه الشروط ؟

        ( السابع ) : قال ابن حجر : قد اعتنى ابن الصلاح والمصنف بجعل الحسن قسمين : أحدهما لذاته والآخر باعتضاده ، فكان ينبغي أن يعتني بالصحيح أيضا ، وينبه على أن له قسمين كذلك ، وإلا فإن اقتصر على تعريف الصحيح لذاته في بابه ، وذكر الصحيح لغيره في نوع الحسن لأنه أصله ، فكان ينبغي أن يقتصر على تعريف الحسن لذاته في بابه ، ويذكر الحسن لغيره في نوع الضعيف لأنه أصله .



        فائدتان

        الأولى : قال ابن حجر : كلام ابن الصلاح في شرح مسلم له يدل على أنه أخذ الحد المذكور هنا من كلام مسلم ، فإنه قال : شرط مسلم في صحيحه أن يكون متصل الإسناد بنقل الثقة عن الثقة من أوله إلى منتهاه غير شاذ ولا معلل ، وهذا هو حد الصحيح في نفس الأمر .

        قال شيخ الإسلام : ولم يتبين لي أخذه انتفاء الشذوذ من كلام مسلم ، فإن كان وقف عليه من كلامه في غير مقدمة صحيحه فذاك ، وإلا فالنظر السابق في السلامة من الشذوذ باق .

        قال : ثم ظهر لي مأخذ ابن الصلاح ، وهو أنه يرى أن الشاذ والمنكر اسمان لمسمى [ ص: 68 ] واحد . وقد صرح مسلم بأن علامة المنكر أن يروي الراوي عن شيخ كثير الحديث والرواة شيئا ينفرد به عنهم ، فيكون الشاذ كذلك ، فيشترط انتفاؤه .



        ( الثانية ) : بقي للصحيح شروط مختلف فيها : منها ما ذكره الحاكم من علوم الحديث : أن يكون راويه مشهورا بالطلب ، وليس مراده الشهرة المخرجة عن الجهالة ، بل قدر زائد على ذلك .

        قال عبد الله بن عون : لا يؤخذ العلم إلا على من شهد له بالطلب ، وعن مالك نحوه ، وفي مقدمة مسلم عن أبي الزناد : أدركت بالمدينة مائة كلهم مأمون ، ما يؤخذ عنهم الحديث ، يقال : ليس من أهله .

        قال شيخ الإسلام : والظاهر من تصرف صاحبي الصحيح اعتبار ذلك ، إلا إذا كثرت مخارج الحديث فيستغنيان عن اعتبار ذلك ، كما يستغنى بكثرة الطرق عن اعتبار الضبط التام .

        قال شيخ الإسلام : ويمكن أن يقال : اشتراط الضبط يغني عن ذلك ، إذ المقصود بالشهرة بالطلب أن يكون له مزيد اعتناء بالرواية لتركن النفس إلى كونه ضبط ما روى . ومنها ما ذكره السمعاني في القواطع : أن الصحيح لا يعرف برواية الثقات فقط ، وإنما يعرف بالفهم والمعرفة وكثرة السماع والمذاكرة .

        [ ص: 69 ] قال شيخ الإسلام : وهذا يؤخذ من اشتراط انتفاء كونه معلولا ؛ لأن الاطلاع على ذلك إنما يحصل بما ذكر من الفهم والمذاكرة وغيرهما .

        ومنها : أن بعضهم اشترط علمه بمعاني الحديث ، حيث يروي بالمعنى ، وهو شرط لا بد منه ، لكنه داخل في الضبط ، كما سيأتي في معرفة من تقبل روايته .

        ومنها : أن أبا حنيفة اشترط فقه الراوي .

        قال شيخ الإسلام : والظاهر أن ذلك إنما يشترط عند المخالفة أو عند التفرد بما تعم به البلوى .

        ومنها : اشتراط البخاري ثبوت السماع لكل راو من شيخه ، ولم يكتف بإمكان اللقاء والمعاصرة كما سيأتي . وقيل : إن ذلك لم يذهب أحد إلى أنه شرط الصحيح بل الأصحية .

        ومنها : أن بعضهم اشترط العدد في الرواية كالشهادة .

        قال العراقي : حكاه الحازمي في شروط الأئمة عن بعض متأخري المعتزلة ، وحكي أيضا عن بعض أصحاب الحديث .

        قال شيخ الإسلام : وقد فهم بعضهم ذلك من خلال كلام الحاكم في علوم الحديث ، وفي المدخل كما سيأتي في شرط البخاري ومسلم ، وبذلك جزم ابن الأثير [ ص: 70 ] في مقدمة جامع الأصول وغيره ، وأعجب من ذلك ما ذكره الميانجي في كتاب " ما لا يسع المحدث جهله " : شرط الشيخين في صحيحهما أن لا يدخلا فيه إلا ما صح عندهما ، وذلك ما رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم اثنان فصاعدا ، وما نقله عن كل واحد من الصحابة أربعة من التابعين فأكثر ، وأن يكون عن كل واحد من التابعين أكثر من أربعة . انتهى .

        قال شيخ الإسلام : وهو كلام من لم يمارس الصحيحين أدنى ممارسة ، فلو قال قائل : ليس في الكتابين حديث واحد بهذه الصفة لما أبعد .

        وقال ابن العربي في شرح الموطأ : كان مذهب الشيخين أن الحديث لا يثبت حتى يرويه اثنان . قال : وهو مذهب باطل ، بل رواية الواحد عن الواحد صحيحة إلى النبي صلى الله عليه وسلم .

        وقال في شرح البخاري عن حديث : " الأعمال " : انفرد به عمر ، وقد جاء من طريق أبي سعيد ، رواه البزار بإسناد ضعيف .

        قال : وحديث عمر وإن كان طريقه واحدا ، وإنما بنى البخاري كتابه على حديث يرويه أكثر من واحد فهذا الحديث ليس من ذلك الفن ؛ لأن عمر قاله على المنبر بمحضر [ ص: 71 ] الأعيان من الصحابة ، فصار كالمجمع عليه ، فكأن عمر ذكرهم لا أخبرهم .

        قال ابن رشيد : وقد ذكر ابن حبان في أول صحيحه - أن ما ادعاه ابن العربي وغيره - من أن شرط الشيخين ذلك مستحيل الوجود ، قال : والعجب منه كيف يدعي عليهما ذلك ثم يزعم أنه مذهب باطل ، فليت شعري من أعلمه بأنهما اشترطا ذلك ؟ إن كان منقولا فليبين طريقه لننظر فيها ، وإن كان عرفه بالاستقراء فقد وهم في ذلك ، ولقد كان يكفيه في ذلك أول حديث في البخاري ، وما اعتذر به عنه فيه تقصير ؛ لأن عمر لم ينفرد به وحده ، بل انفرد به علقمة عنه ، وانفرد به محمد بن إبراهيم عن علقمة ، وانفرد به يحيى بن سعيد عن محمد ، وعن يحيى تعددت رواته .

        وأيضا فكون عمر قاله على المنبر لا يستلزم أن يكون ذكر السامعين بما هو عندهم ، بل هو محتمل للأمرين ، وإنما لم ينكروه لأنه عندهم ثقة ، فلو حدثهم بما لم يسمعوه قط لم ينكروا عليه . اهـ .

        وقد قال باشتراط رجلين عن رجلين في شرط القبول إبراهيم بن إسماعيل ابن علية ، وهو من الفقهاء المحدثين ، إلا أنه مهجور القول عند الأئمة ، لميله إلى الاعتزال ، وقد كان الشافعي يرد عليه ويحذر منه .

        وقال أبو علي الجبائي من المعتزلة : لا يقبل الخبر إذا رواه العدل الواحد ، إلا إذا انضم إليه خبر عدل آخر ، أو عضده موافقة ظاهر الكتاب ، أو ظاهر خبر آخر ، أو [ ص: 72 ] يكون منتشرا بين الصحابة ، أو عمل به بعضهم ، حكاه أبو الحسن البصري في المعتمد ، وأطلق الأستاذ أبو منصور التميمي عن أبي علي أنه لا يقبل إلا إذا رواه أربعة .

        وللمعتزلة في رد خبر الواحد حجج : منها قصة ذي اليدين ، وكون النبي صلى الله عليه وسلم توقف في خبره حتى تابعه عليه غيره ، وقصة أبي بكر حين توقف في خبر المغيرة في ميراث الجدة حتى تابعه محمد بن مسلمة ، وقصة عمر [ ص: 73 ] حين توقف عن خبر أبي موسى في الاستئذان حتى تابعه أبو سعيد .

        وأجيب عن ذلك كله : فأما قصة ذي اليدين ، فإنما حصل التوقف في خبره ؛ لأنه أخبره عن فعله صلى الله عليه وسلم ، وأمر الصلاة لا يرجع المصلي فيه إلى خبر غيره ، بل ولو بلغوا حد التواتر ، فلعله إنما تذكر عند إخبار غيره . وقد بعث صلى الله عليه وسلم رسله واحدا واحدا إلى الملوك ووفد عليه الآحاد من القبائل فأرسله إلى قبائلهم ، وكانت الحجة قائمة بإخبارهم عنه مع عدم اشتراط التعدد .

        وأما قصة أبي بكر فإنما توقف إرادة للزيادة في التوثق ، وقد قبل خبر عائشة وحدها في قدر كفن النبي صلى الله عليه وسلم .

        وأما قصة عمر فإن أبا موسى أخبره بذلك الحديث عقب إنكاره عليه رجوعه ، فأراد التثبت في ذلك ، وقد قبل خبر ابن عوف وحده في أخذ الجزية من المجوس ، وفي الرجوع عن البلد الذي فيها الطاعون ، وخبر الضحاك بن [ ص: 74 ] سفيان في توريث امرأة أشيم .

        قلت : وقد استدل البيهقي في المدخل على ثبوت الخبر بالواحد بحديث : " نضر الله عبدا سمع مقالتي فوعاها فأداها " ، وفي لفظ : " سمع منا حديثا فبلغه غيره " ، وبحديث الصحيحين : " بينما الناس بقباء في صلاة الصبح إذ أتاهم آت فقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أنزل الله عليه الليلة قرآنا ، وقد أمر أن يستقبل الكعبة فاستقبلوها ، وكانت وجوههم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة " ، قال الشافعي : فقد تركوا قبلة كانوا عليها بخبر واحد ولم ينكر ذلك عليهم صلى الله عليه وسلم .

        وبحديث الصحيحين عن أنس : إني لقائم أسقي أبا طلحة وفلانا وفلانا ، إذ دخل رجل فقال : هل بلغكم الخبر ؟ قلنا وما ذاك ، قال : حرمت الخمر ، قال : أهرق هذه القلال يا أنس ، قال : فما سألوا عنها ولا راجعوها بعد خبر الرجل .

        وبحديث إرساله عليا إلى الموقف بأول سورة براءة ، وبحديث يزيد بن شيبان : " كنا بعرفة فأتانا ابن مربع الأنصاري فقال : إني رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم إليكم يأمركم أن تقفوا على مشاعركم هذه " .

        [ ص: 75 ] وبحديث الصحيحين عن سلمة بن الأكوع : " بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم عاشوراء رجلا من أسلم ينادي في الناس : إن اليوم يوم عاشوراء ، فمن كان أكل فلا يأكل شيئا " الحديث ، وغير ذلك .

        وقد ادعى ابن حبان نقيض هذه الدعوى فقال : إن رواية اثنين عن اثنين إلى أن ينتهي لا توجد أصلا ، وسيأتي تقرير ذلك في الكلام على العزيز ، ونقل الأستاذ أبو منصور البغدادي : أن بعضهم اشترط في قبول الخبر : أن يرويه ثلاثة إلى منتهاه ، واشترط بعضهم أربعة عن أربعة ، وبعضهم خمسة عن خمسة ، وبعضهم سبعة عن سبعة .




        الخدمات العلمية