الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                فهذا الفصل قد ذكر فيه حقيقة مذهبه التي يبني عليها سائر كلامه فتدبر ما فيه من الكفر الذي : { تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا } وما فيه من جحد خلق الله وأمره وجحود ربوبيته وألوهيته وشتمه وسبه وما فيه من الإزراء برسله وصديقيه والتقدم عليهم [ ص: 210 ] بالدعاوى الكاذبة التي ليس عليها حجة بل هي معلومة الفساد بأدنى عقل وإيمان وأيسر ما يسمع من كتاب وقرآن وجعل الكفار والمنافقين والفراعنة هم أهل الله وخاصته أهل الكشوف وذلك باطل من وجوه : -

                ( أحدها ) أنه أثبت له عينا ثابتة قبل وجوده ولسائر الموجودات وأن ذلك ثابت له ولسائر أحواله وكل ما كان موجودا من الأعيان والصفات والجواهر والأعراض فعينه ثابتة قبل وجوده . وهذا ضلال قد سبق إليه كما تقدم .

                ( الثاني ) أنه جعل علم الله بالعبد إنما حصل له من علمه بتلك العين الثابتة في العدم التي هي حقيقة العبد لا من نفسه المقدسة وأن علمه بالأعيان الثابتة في العدم وأحوالها تمنعه أن يفعل غير ذلك وأن هذا هو سر القدر .

                فتضمن هذا وصف الله تعالى بالفقر إلى الأعيان وغناها عنه ونفي ما استحقه بنفسه من كمال علمه وقدرته ولزوم التجهيل والتعجيز وبعض ما في هذا الكلام المضاهاة لما ذكره الله عمن قال فيه { لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء } الآية فإنه جعل حقائق الأعيان الثابتة في العدم غنية عن الله في حقائقها وأعيانها وجعل الرب مفتقرا إليها في علمه بها فما استفاد علمه بها إلا منها يستفيد العبد العلم بالمحسوسات من إدراكه لها مع غنى تلك المدركات عن المدرك .

                [ ص: 211 ] والمسلمون يعلمون أن الله عالم بالأشياء قبل كونها بعلمه القديم الأزلي الذي هو من لوازم نفسه المقدسة لم يستفد علمه بها منها : { ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير } فقد دلت هذه الآية على وجوب علمه بالأشياء من وجوه انتظمت البراهين المذكورة لأهل النظر والاستدلال القياس العقلي من أهل الكلام والفلسفة وغيرهم :

                ( أحدها ) أنه خالق لها والخلق هو الإبداع بتقدير وذلك يتضمن تقديرها في العلم قل تكونها في الخارج .

                ( الثاني ) أن ذلك مستلزم للإرادة ; والمشيئة والإرادة مستلزمة لتصور المراد والشعور به وهذه الطريقة المشهورة عند أكثر أهل الكلام .

                ( الثالث ) أنها صادرة عنه وهو سببها التام والعلم بأصل الأمر وسببه يوجب العلم بالفرع المسبب فعلمه بنفسه مستلزم العلم بكل ما يصدر عنه .

                ( الرابع ) أنه في نفسه لطيف يدرك الدقيق ; خبير يدرك الخفي وهذا هو مقتضى العلم بالأشياء فيجب وجود المقتضى لوجود السبب التام فهو في علمه بالأشياء مستغن بنفسه عنها كما هو غني بنفسه في جميع صفاته ثم إذا رأى الأشياء بعد وجودها وسمع كلام عباده ونحو ذلك ; فإنما يدرك ما أبدع وما خلق وما هو مفتقر إليه ومحتاج من جميع وجوهه لم يحتج في علمه وإدراكه إلى غيره ألبتة ; فلا يجوز القول بأن علمه بالأشياء استفاده من نفس الأشياء الثابتة الغنية في ثبوتها عنه .

                [ ص: 212 ] وأما جحود قدرته : فلأنه جعل الرب لا يقدر إلا على تجليه في تلك الأعيان الثابتة في العدم الغنية عنه فقدرته محدودة بها مقصورة عليها مع غناها عنه وثبوت حقائقها بدونه ; وهذا عنده هو السر الذي أعجز الله أن يقدر على غير ما خلق فلا يقدر عنده على أن يزيد في العالم ذرة ولا ينقص منه ذرة ولا يزيد في المطر قطرة ولا ينقص منه قطرة ولا يزيد في طول الإنسان ولا ينقص منه ولا يغير شيئا من صفاته ولا حركاته ولا سكناته ولا ينقل حجرا عن مقره ولا يحول ماء عن ممره ولا يهدي ضالا ولا يضل مهتديا ولا يحرك ساكنا ولا يسكن متحركا ; ففي الجملة لا يقدر إلا على ما وجد لأن ما وجد فعينه ثابتة في العدم ولا يقدر على أكثر من ظهوره في تلك الأعيان .

                وهذا التجهيل والتعجيز الذي ذكره وزعم أنه هو سر القدر - وإن كان قد تضمن بعض ما قاله غيره من الضلال - ففيه من الكفر ما لا يرضاه غيره من الضالين .

                فإن القائلين بأن المعدوم شيء : يقولون ذلك في كل ممكن كان أو لم يكن ولا يجعلون علمه بالأشياء مستفادا من الأشياء قبل أن يكون وجودها ولا أن خلقه وقدرته مقصورة على ما علمه منها فإنه يعلم أنواعا من الممكنات لم يخلقها فمعلومه من الممكنات أوسع مما خلقه ولا يجعلون المانع من أن يخلق غير ما خلق هو كون الأعيان الثابتة في العدم لا تقبل سوى هذا الوجود ; بل يمكن عندهم وجودها على صفة أخرى هي أيضا من الممكن الثابت في العدم .

                فلا يفضي قولهم لا إلى تجهيل ولا إلى تعجيز من هذا الوجه ; وإنما [ ص: 213 ] قد يقولون المانع من ذلك : أن هذا هو أكمل الوجوه وأصلحها فعلمه بأنه لا أكمل من هذا يمنعه أن يريد ما ليس أكمل بحكمته فيجعلون المانع أمرا يعود إلى نفسه المقدسة ; حتى لا يجعلونه ممنوعا من غيره .

                فأين من لا يجعل له مانعا من غيره ولا راد لقضائه ممن يجعله ممنوعا مصدودا ؟ وأين من يجعله عالما بنفسه ممن يجعله مستفيدا للعلم من غيره ؟ وممن هو غني عنه ؟ هذا مع أن أكثر الناس أنكروا على من قال : ليس في الإمكان أبدع من هذا العالم .

                ( الثالث ) أنه زعم أن من الصنف الذي جعله أعلى أهل الله من يكون في علمه بمنزلة علم الله لأن الأخذ من معدن واحد إذا كشف له عن أحوال الأعيان الثابتة في العدم فيعلمها من حيث علمها الله إلا أنه من جهة العبد عناية من الله سبقت له هي من جملة أحوال عينه . يعرفها صاحب هذا الكشف إذا أطلعه الله على ذلك فجعل علمه وعلم الله من معدن واحد .

                ( الرابع ) أنه جعل الله عالما بها بعد أن لم يكن عالما واتبع المتشابه الذي هو قوله : حتى نعلم وزعم أنها كلمة محققة المعنى بناء على أصله الفاسد أن وجود العبد هو عين وجود الرب فكل مخلوق علم ما لم يكن علمه فهو الله علم ما لم يكن علمه .

                وهذا الكفر ما سبقه إليه كافر فإن غاية المكذب بقدر الله أن يقول : إن الله علم ما لم يكن عالما ; أما أنه يجعل كل ما تجدد لمخلوق من العلم فإنما تجدد [ ص: 214 ] لله وأن الله لم يكن عالما بما علمه كل مخلوق حتى علمه ذلك المخلوق فهذا لم يفتره غيره .

                ( الخامس ) أنه زعم أن التجلي الذاتي بصورة استعداد المتجلي والمتجلى له ما رأى سوى صورته في مرآة الحق وأنه لا يمكن أن يرى الحق مع علمه بأنه ما رأى صورته إلا فيه وضرب المثل بالمرآة ; فجعل الحق هو المرآة والصورة في المرآة هي صورته .

                وهذا تحقيق ما ذكرته من مذهبه : أن وجود الأعيان عنده وجود الحق والأعيان كانت ثابتة في العدم فظهر فيها وجود الحق فالمتجلى له وهو العبد لا يرى الوجود مجردا عن الذوات ما يرى إلا الذوات التي ظهر فيها الوجود فلا سبيل له إلى رؤية الوجود أبدا . وهذا عنده هو الغاية التي ليس فوقها غاية في حق المخلوق وما بعده إلا العدم المحض فهو مرآتك في رؤيتك نفسك وأنت مرآته في رؤيته أسماءه وظهور أحكامها .

                وذلك لأن العبد لا يرى نفسه - التي هي عينه - إلا في وجود الحق الذي هو وجوده والعبد مرآته في رؤيته أسماءه وظهور أحكامها لأن أسماء الحق عنده هي النسب والإضافات التي بين الأعيان وبين وجود الحق ; وأحكام الأسماء هي الأعيان الثابتة في العدم وظهور هذه الأحكام بتجلي الحق في الأعيان .

                والأعيان التي هي حقيقة العيان : هي مرآة الحق التي بها يرى أسماءه ; [ ص: 215 ] وظهور أحكامها فإنه إذا ظهر في الأعيان : حصلت النسبة التي بين الوجود والأعيان - وهي الأسماء - وظهرت أحكامها - وهي الأعيان - ووجود هذه الأعيان هو الحق ; فلهذا قال وليست سوى عينه فاختلط الأمر وانبهم .

                فتدبر هذا من كلامه وما يناسبه ; لتعلم ما يعتقده من ذات الحق وأسمائه وأن ذات الحق عنده هي نفس وجود المخلوقات وأسماءه هي النسب التي بين الوجود والأعيان وأحكامها هي الأعيان لتعلم كيف اشتمل كلامه على الجحود لله ولأسمائه ولصفاته وخلقه وأمره وعلى الإلحاد في أسماء الله وآياته ؟ فإن هذا الذي ذكره غاية الإلحاد في أسماء الله وآياته ; الآيات المخلوقة والآيات المتلوة فإنه لم يثبت له اسما ولا آية إذ ليس إلا وجودا واحدا ; وذاك ليس هو اسما ولا آية والأعيان الثابتة ليست هي أسماءه ولا آياته ; ولما أثبت شيئين فرق بينهما بالوجود والثبوت - وليس بينهما فرق - اختلط الأمر عليه وانبهم .

                وهذا حقيقة قوله : وسر مذهبه ; الذي يدعي أنه به أعلم العالم بالله وأنه تقدم بذلك على الصديق الذي جهل فقال : العجز عن درك الإدراك إدراك ; وتقدم به على المرسلين الذين ما علموا ذلك إلا من مشكاته وفيه من أنواع الكفر والضلال ما يطول عدها : منها :

                الكفر بذات الله إذ ليس عنده إلا وجود المخلوق .

                [ ص: 216 ] ( ومنها ) الكفر بأسماء الله ; فإنها ليست عنده إلا أمور عدمية فإذا قلنا : { الحمد لله رب العالمين } { الرحمن الرحيم } فليس الرب عنده إلا نسبة إلى الثبوت .

                ( السادس ) أنه قال : فاختلط الأمر وانبهم أو هو على أصله الفاسد مختلط منبهم وعلى أصل الهدى والإيمان متميز متبين قد بين الله بكتابه الحق من الباطل والهدى من الضلال .

                قال : فمنا من جهل في علمه فقال : العجز عن درك الإدراك إدراك وهذا الكلام مشهور عندهم نسبته إلى أبي بكر الصديق فجعله جاهلا وإن كان هذا اللفظ لم يحفظ عن أبي بكر ولا هو مأثور عنه في شيء من النقول المعتمدة وإنما ذكر ابن أبي الدنيا في كتاب الشكر نحوا من ذلك عن بعض التابعين غير مسمى وإنما يرسل عنه إرسالا من جهة من يكثر الخطأ في مراسيلهم .

                كما يحكون عن { عمر أنه قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر إذا تخاطبا كنت كالزنجي بينهما } . وهذا أيضا كذب باتفاق أهل المعرفة وإنما الذي في الصحيح عن أبي سعيد الخدري قال : { خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر فقال : إن عبدا خيره الله بين الدنيا والآخرة فاختار ذلك العبد ما عند الله فبكى أبو بكر فقال : بل نفديك بأنفسنا وأموالنا } أو كما قال .

                فجعل الناس يقولون : عجبا لهذا الشيخ يبكي أن ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم [ ص: 217 ] عبدا خيره الله بين الدنيا والآخرة فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المخير وكان أبو بكر هو أعلمنا به فكان أبو بكر هو أعلمهم بمراد رسول الله صلى الله عليه وسلم ومقاصده في كلامه ; وإن كانوا كلهم مشتركين في فهمه .

                وهذا كما في الصحيح أنه { قيل لعلي رضي الله عنه هل ترك عندكم رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا ؟ وفي لفظ : هل عهد إليكم رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا لما يعهده إلى الناس ؟ فقال : لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إلا فهما يؤتيه الله عبدا في كتابه وما في هذه الصحيفة : وفيها العقل وفكاك الأسير وأن لا يقتل مسلم بكافر } .

                وبهذا الحديث ونحوه من الأحاديث الصحيحة : استدل العلماء على أن كل ما يذكر عن علي وأهل البيت ; من أنهم اختصوا بعلم خصهم به النبي صلى الله عليه وسلم دون غيرهم كذب عليهم مثل ما يذكر منه الجفر والبطاقة والجدول وغير ذلك وما يأثره القرامطة الباطنية عنهم فإنه قد كذب على جعفر الصادق رضي الله عنه ما لم يكذب على غيره . وكذلك كذب على علي رضي الله عنه وغيره من أئمة أهل البيت رضي الله عنهم كما قد بين هذا وبسط في غير هذا الموضع .

                وهكذا يكذب قوم من النساك ومدعي الحقائق على أبي بكر وغيره وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخاطبه بحقائق يفهمها عمر مع حضوره ; ثم قد يدعون أنهم عرفوها وتكون حقيقتها زندقة وإلحادا .

                [ ص: 218 ] وكثير من هؤلاء الزنادقة والجهال : قد يحتج على ذلك بحديث { أبي هريرة حفظت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم جرابين : أما أحدهما فبثثته فيكم ; وأما الآخر فلو بثثته لقطعتم هذا الحلقوم } وهذا الحديث صحيح ; لكن الجراب الآخر لم يكن فيه شيء من علم الدين ومعرفة الله وتوحيده الذي يختص به أولياؤه .

                ولم يكن أبو هريرة من أكابر الصحابة الذين يخصون بمثل ذلك - لو كان هذا مما يخص به - بل كان في ذلك الجراب أحاديث الفتن التي تكون بين المسلمين فإن النبي صلى الله عليه وسلم أخبرهم بما سيكون من الفتن التي تكون بين المسلمين ومن الملاحم التي تكون بينهم وبين الكفار .

                ولهذا لما كان مقتل عثمان وفتنة ابن الزبير ونحو ذلك : قال ابن عمر : لو أخبركم أبو هريرة أنكم تقتلون خليفتكم وتهدمون البيت وغير ذلك لقلتم : كذب أبو هريرة فكان أبو هريرة يمتنع من التحديث بأحاديث الفتن قبل وقوعها ; لأن ذلك مما لا يحتمله رءوس الناس وعوامهم .

                وكذلك قد يحتجون بحديث حذيفة بن اليمان وأنه صاحب السر الذي لا يعلمه غيره وحديث حذيفة معروف لكن السر الذي لا يعلمه غيره : هو معرفته بأعيان المنافقين الذين كانوا في غزوة تبوك . ويقال : إنهم كانوا هموا بالفتك بالنبي صلى الله عليه وسلم فأوحى الله إلى النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم فأخبر حذيفة بأعيانهم ; ولهذا كان عمر لا يصلي إلا على من صلى عليه حذيفة ; لأن الصلاة على المنافقين منهي عنها .

                وقد ثبت في الصحيح عن حذيفة أنه لما ذكر الفتن وأنه أعلم الناس [ ص: 219 ] بها بين أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يخصه بحديثها ولكن حدث الناس كلهم قال : " وكان أعلمنا أحفظنا " .

                ومما يبين هذا : أن في السنن { أن النبي صلى الله عليه وسلم كان عام الفتح قد أهدر دم جماعة : منهم عبد الله بن أبي سرح فجاء به عثمان إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليبايعه فتوقف عنه النبي صلى الله عليه وسلم ساعة ثم بايعه وقال : أما كان فيكم رجل رشيد ينظر إلي وقد أمسكت عن هذا فيضرب عنقه ؟ فقال رجل من الأنصار : يا رسول الله هلا أومأت إلي ؟ فقال : ما ينبغي لنبي أن تكون له خائنة الأعين } فهذا ونحوه مما يبين أن النبي صلى الله عليه وسلم يستوي ظاهره وباطنه لا يظهر للناس خلاف ما يبطنه كما تدعيه الزنادقة من المتفلسفة والقرامطة وضلال المتنسكة ونحوهم .

                التالي السابق


                الخدمات العلمية