الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في تأويل قوله تعالى ( أنهم ملاقوا ربهم )

قال أبو جعفر : إن قال لنا قائل : وكيف قيل إنهم ملاقو ربهم ، فأضيف " الملاقون " إلى الرب تبارك وتعالى ، وقد علمت أن معناه : الذين يظنون أنهم يلقون ربهم ؟ وإذ كان المعنى كذلك ، فمن كلام العرب ترك الإضافة وإثبات النون ، وإنما تسقط النون وتضيف ، في الأسماء المبنية من الأفعال ، إذا كانت بمعنى " فعل " ، فأما إذا كانت بمعنى " يفعل وفاعل " ، فشأنها إثبات النون ، وترك الإضافة .

قيل : لا تدافع بين جميع أهل المعرفة بلغات العرب وألسنها في إجازة إضافة الاسم المبني من " فعل ويفعل " ، وإسقاط النون وهو بمعنى " يفعل وفاعل " ، أعني بمعنى الاستقبال وحال الفعل ولما ينقض ، فلا وجه لمسألة السائل عن ذلك : لم قيل ؟ وإنما اختلف أهل العربية في السبب الذي من أجله أضيف وأسقطت النون .

فقال نحويو البصرة : أسقطت النون من : ( ملاقو ربهم ) وما أشبهه من الأفعال التي في لفظ الأسماء وهي في معنى " يفعل " وفي معنى ما لم ينقض استثقالا لها ، وهي مرادة كما قال جل ثناؤه : ( كل نفس ذائقة الموت ) [ سورة آل عمران : 185 الأنبياء : 35 العنكبوت : 57 ] ، وكما قال : ( إنا مرسلو الناقة فتنة لهم ) [ القمر : 27 ] ولما يرسلها بعد ; وكما قال الشاعر :


[ ص: 21 ] هل أنت باعث دينار لحاجتنا أو عبد رب أخا عون بن مخراق ؟

فأضاف " باعثا " إلى " الدينار " ، ولما يبعث ، ونصب " عبد رب " عطفا على موضع دينار ، لأنه في موضع نصب وإن خفض ، وكما قال الآخر :


الحافظو عورة العشيرة ، لا     يأتيهم من ورائهم نطف

بنصب " العورة " وخفضها ، فالخفض على الإضافة ، والنصب على حذف النون استثقالا وهي مرادة . وهذا قول نحويي البصرة .

وأما نحويو الكوفة فإنهم قالوا : جائز في ( ملاقو ) الإضافة ، وهي في معنى يلقون ، وإسقاط النون منه لأنه في لفظ الأسماء ، فله في الإضافة إلى الأسماء حظ الأسماء . وكذلك حكم كل اسم كان له نظير . قالوا : وإذا أثبت في شيء من ذلك النون وتركت الإضافة ، فإنما تفعل ذلك به لأن له معنى يفعل الذي لم يكن ولم يجب بعد . قالوا : فالإضافة فيه للفظ ، وترك الإضافة للمعنى .

[ ص: 22 ] فتأويل الآية إذا : واستعينوا على الوفاء بعهدي بالصبر عليه والصلاة ، وإن الصلاة لكبيرة إلا على الخائفين عقابي ، المتواضعين لأمري ، الموقنين بلقائي والرجوع إلي بعد مماتهم .

وإنما أخبر الله جل ثناؤه أن الصلاة كبيرة إلا على من هذه صفته ; لأن من كان غير موقن بمعاد ولا مصدق بمرجع ولا ثواب ولا عقاب ، فالصلاة عنده عناء وضلال ، لأنه لا يرجو بإقامتها إدراك نفع ولا دفع ضر ، وحق لمن كانت هذه الصفة صفته أن تكون الصلاة عليه كبيرة ، وإقامتها عليه ثقيلة ، وله فادحة .

وإنما خفت على المؤمنين المصدقين بلقاء الله ، الراجين عليها جزيل ثوابه ، الخائفين بتضييعها أليم عقابه ، لما يرجون بإقامتها في معادهم من الوصول إلى ما وعد الله عليها أهلها ، ولما يحذرون بتضييعها ما أوعد مضيعها . فأمر الله جل ثناؤه أحبار بني إسرائيل الذين خاطبهم بهذه الآيات أن يكونوا من مقيميها الراجين ثوابها إذا كانوا أهل يقين بأنهم إلى الله راجعون ، وإياه في القيامة ملاقون .

التالي السابق


الخدمات العلمية