الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              75 [ ص: 380 ] 17 - باب: قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "اللهم علمه الكتاب"

                                                                                                                                                                                                                              75 - حدثنا أبو معمر قال: حدثنا عبد الوارث قال: حدثنا خالد، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: ضمني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: " اللهم علمه الكتاب". [143، 3756، 7270 - مسلم 2477 - فتح: 1 \ 169]

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              حدثنا أبو معمر، ثنا عبد الوارث، ثنا خالد، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: ضمني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: "اللهم علمه الكتاب".

                                                                                                                                                                                                                              الكلام عليه من وجوه:

                                                                                                                                                                                                                              أحدها:

                                                                                                                                                                                                                              هذا الحديث أخرجه البخاري هنا كما ترى، وفي فضائل الصحابة عن أبي معمر، ومسدد عن عبد الوارث، وعن موسى عن وهيب كلاهما عن خالد بلفظ: "اللهم علمه الحكمة" قال أبو مسعود الدمشقي : هو عند القواريري عن عبد الوارث .

                                                                                                                                                                                                                              وأخرجه في الطهارة عن عبد الله بن محمد، ثنا هاشم بن القاسم، عن ورقاء، عن عبيد الله بن أبي يزيد، عن ابن عباس أنه - صلى الله عليه وسلم - دخل الخلاء فوضع له وضوءا فقال: " اللهم فقهه في الدين".

                                                                                                                                                                                                                              وأخرجه مسلم في (فضل) ابن عباس : ثنا زهير وأبو بكر بن أبي النضر، ثنا هاشم به، ولفظه: "اللهم فقهه".

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 381 ] ثانيها: في التعريف برجاله:

                                                                                                                                                                                                                              أما ابن عباس فقد سلف.

                                                                                                                                                                                                                              وأما عكرمة فهو: أبو عبد الله المدني مولى ابن عباس أصله من البربر من أهل المغرب، سمع مولاه، وابن عمر، وخلفا من الصحابة، وكان من العلماء في زمانه بالعلم والقرآن، وعنه: أيوب وخالد الحذاء وخلق، وتكلم فيه لرأيه، وأطلق نافع وغيره عليه الكذب.

                                                                                                                                                                                                                              وروى له مسلم مقرونا بطاوس وسعيد بن جبير، واعتمده البخاري في أكثر ما يصح عنه من الروايات، وربما عيب عليه إخراج حديثه، ومات ابن عباس وعكرمة مملوك، فباعه علي ابنه من خالد بن يزيد بن معاوية بأربعة آلاف دينار، فقال له عكرمة : بعت علم أبيك بأربعة آلاف دينار فاستقاله فأقاله وأعتقه، وكان جوالا في (البلاد).

                                                                                                                                                                                                                              ومات بالمدينة ودفن بها سنة خمس أو ست أو سبع ومائة، ومات معه في ذلك اليوم كثير الشاعر، فقيل: مات اليوم أفقه الناس وأشعر الناس. وقيل: مات عكرمة سنة خمس عشرة ومائة، وقيل: بلغ ثمانين.

                                                                                                                                                                                                                              واجتمع حفاظ ابن عباس على عكرمة فيهم: عطاء وطاوس، وسعيد بن جبير، فجعلوا يسألون عكرمة عن حديث ابن عباس، فجعل يحدثهم وسعيد كلما حدث بحديث وضع إصبعيه الإبهام على السبابة أي سواء، حتى سألوه عن الحوت وقصة موسى فقال عكرمة : كان يسايرهما في ضحضاح من الماء. فقال سعيد : أشهد على ابن عباس أنه قال: كان يحملانه في مكتل -يعني: الزنبيل- فقال أيوب: [ ص: 382 ] وأرى -والله أعلم- أن ابن عباس حدث بالخبرين جميعا.

                                                                                                                                                                                                                              وأما الراوي عنه فهو خالد بن مهران الحذاء (ع) أبو المنازل -بضم الميم- البصري التابعي مولى آل عبد الله بن عامر القرشي .

                                                                                                                                                                                                                              قال عبد الغني : ما كان من منازل فهو بضم الميم، إلا يوسف بن منازل (خ) (فإنه) بفتحها، وحكى غيره فيه الفتح -أعني في خالد- وكذا في سائر الباب، والضم أظهر، ولم يكن بحذاء للنعال إنما كان يجلس إليهم أو إلى صديق له حذاء، وقيل: كان يقول: أحذ على هذا النحو، فلقب به.

                                                                                                                                                                                                                              رأى أنسا، ووثقه أحمد، ويحيى بن معين، وقال أبو حاتم : يكتب حديثه ولا يحتج به. مات سنة إحدى وأربعين ومائة في خلافة المنصور .

                                                                                                                                                                                                                              وأما الراوي عنه فهو أبو عبيدة عبد الوارث (ع) بن سعيد بن ذكوان التميمي البصري الحافظ المقرئ الثبت الصالح، روى عن أيوب وغيره، وعنه مسدد وغيره.

                                                                                                                                                                                                                              ورمي بالقدر، ونفاه عنه ولده عبد الصمد فيما حكاه عنه البخاري، مات سنة ثمانين ومائة.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 383 ] وأما شيخ البخاري فهو أبو معمر (ع) عبد الله بن عمرو بن أبي الحجاج ميسرة البصري المقعد المنقري الحافظ الحجة، روى عن عبد الوارث وغيره، وعنه البخاري وأبو داود، وهو والباقون عن رجل عنه، ورمي بالقدر أيضا، مات سنة أربع وعشرين ومائتين.

                                                                                                                                                                                                                              فائدة:

                                                                                                                                                                                                                              هذا الإسناد على شرط الأئمة الستة وكلهم بصريون خلا ابن عباس وعكرمة، وفيه رواية تابعي عن تابعي أيضا.

                                                                                                                                                                                                                              الوجه الثالث: في فوائده:

                                                                                                                                                                                                                              الأولى: المراد بالكتاب هنا: القرآن وكذا كل موضع ذكر الله تعالى فيه الكتاب، والمراد بالحكمة أيضا: القرآن كما في قوله تعالى: يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا [البقرة: 269].

                                                                                                                                                                                                                              وأما قوله تعالى: ويعلمهم الكتاب والحكمة [البقرة: 129] فالمراد بها السنة وكذا قوله تعالى: واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة [الأحزاب: 34] فالقرآن أحكمت آياته بين حلالها وحرامها وأوامرها ونهيها، والسنة بينت المجمل وغيره، والرواية الأخرى: "اللهم فقهه" أي: فهمه الكتاب والسنة، ودعا له أيضا أن يعلمه التأويل أي: تفسير القرآن; فكان فيه من الراسخين حتى كان يدعى ترجمان القرآن.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 384 ] الثانية: بركة دعائه - صلى الله عليه وسلم - وإجابته .

                                                                                                                                                                                                                              الثالثة: فضل العلم والحض على تعلمه، وعلى حفظ القرآن والدعاء بذلك.

                                                                                                                                                                                                                              الرابعة: استحباب الضم وهو إجماع للطفل والقادم من سفر، ولغيرهما مكروه عند البغوي، والمختار (جوازه) ومحل ذلك إذا لم يؤد إلى تحريك شهوة.

                                                                                                                                                                                                                              فائدة: معنى اللهم: يا الله، والميم المشددة عوض من حرف النداء، قاله الخليل وسيبويه، وقال الفراء: كان الأصل يا الله أمنا بخير فهي مضمنة ما يسأل بها، ونظيره قول العرب: هلم، والأصل: هل، فضمت الميم إليها، ولو كانت الميم بدلا عنها لما اجتمعا وقد قال الشاعر:

                                                                                                                                                                                                                              وما عليك أن تقولي كلما سبحت أو هللت يا اللهما


                                                                                                                                                                                                                              اردد علينا شيخنا مسلما



                                                                                                                                                                                                                              وقد استدل الأول بهذا على أنها عوض ولا يجمع بينهما إلا في الشعر.




                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية