الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
الماء والحياة في أدب القرآن

ما كان للغة في دنيانا هـذه، أن احتفلت بنعمة الماء، احتفال لغة التنزيل العزيز بها. وما كان لأدب مما يضطرب فيه الناس في عالمنا أن تشرق فيه صفحات مباركة على نحو ما أشرقت الصور الوضيئة في الآيات الكريمة في إكبارها للرحمة مصورة في الماء.

لقد انبثقت الحياة زاهية مباركة في الماء بقوله جل وعلا: ( وجعلنا من الماء كل شيء حي ) (الأنبياء:30)

ولجلالة الماء وسموه، أن اقتضت الحكمة العلية، أن يكون (العرش) على الماء، ( وكان عرشه على الماء ليبلوكم أيكم أحسن عملا ) (هود:7) .

ومن احتفال أدب القرآن بالماء، أن (الجنات) التي وعد بها المتقون، تجري من تحتها الأنهار، وهو القائل: ( ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار ) (الفتح:5) . وهو القائل: ( إن المتقين في جنات وعيون ) (الحجر:45) . ولن تكتمل الصورة البهية للجنة في القرآن، إلا أن تكون مزهوة بالعيون.

وقد تعجب أن تكون العربية، التي شرفها الله، فجعلها لغته، مخاطبا بها الناس كافة في قوله عز من قائل: ( إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون ) (يوسف:2) ، قد استعارت (العين) ، وهي عضو البصر، وهي أغلى [ ص: 121 ] ما يملكه المرء، فأطلقته على الموضع الذي ينبثق منه الماء، ذلك أن الجامع بينهما النفاسة والقيمة الغالية.

غير أن كمال لغة التنزيل، قد ذهب إلى شيء من فارق بين الأصل والمستعار، إذ جمعت (العين) المبصرة على (أعين) ، وجمعت (عين) الماء على (عيون) . وأنت لا تجد في أدب الذكر آية لا تتضح فيها هـذه الملاحظة.

وتتفق الحياة مع الماء في جملة من أدب التنزيل العزيز، في قوله تعالى: ( وينزل من السماء ماء فيحيي به الأرض بعد موتها ) (الروم:24) . ( فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت ) (فصلت:39) ( والذي نزل من السماء ماء بقدر فأنشرنا به بلدة ميتا ) (الزخرف:11) . ( ونزلنا من السماء ماء مباركا فأنبتنا به جنات وحب الحصيد ) (ق:9) . ( ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فأخرجنا به ثمرات مختلفا ألوانها ) (فاطر:27) .

وأنت ترى أن الماء بركة وحياة، وبه تشرق الأرض، ويعم الخصب، ويغاث الناس، قال تعالى: ( وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا وينشر رحمته ) (الشورى:8) .

والماء ينـزل من السماء (غوثا) للناس، يعمهم رحمة وبركة. ومن هـنا تصرفت العربية الشجاعة، فأخذت (الغوث) مصدرا، ثم فعلا، من الغيث، الذي هـو بركة ورحمة.

وليس اتفاقا أن يكون الماء (غيثا) يغاث فيه الناس، ويكون (المطر) عذابا حيثما ورد في مواضعه من الآيات الكريمة، قال تعالى: ( وأمطرنا عليهم مطرا [ ص: 122 ] فانظر كيف كان عاقبة المجرمين ) (الأعراف:84) . ( ولقد أتوا على القرية التي أمطرت مطر السوء ) (الفرقان:40) .

ولقد احتفل بالماء حيثما وقع في كلامه تعالى، وكرم تكرمة وافية، حتى إذا نقل من هـذا الحيز الشريف إلى ضده، احتيج إلى صفة مميزة تصرفه إلى الشر، قال تعالى: ( وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه ) (الكهف:29) . ( وسقوا ماء حميما فقطع أمعاءهم ) (محمد:15) . ( ويسقى من ماء صديد ) (إبراهيم:116) ( ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين ) (السجدة:8) .

ويندرج في هـذا توجه الناقد القديم لقول أبي تمام :

لا تسـقني ماء الملام فإنني صب قد استعذبت ماء بكائي

ذلك أن (الماء) لا يمكن أن يستعار لما يكره كالملام؛ لأنه خير وبركة وحياة إلا في مواطن خاصة جعلها - جلت صنعته- منصرفة للعذاب، كما مثلنا في جملة من الآي الكريم. غير أن أبا تمام، وقد أدرك ما يرمي إليه الناقد، أجاب فأحسن الجواب، فقال لسائله الذي طلب متندرا أن يسقيه كأسا من (ماء الملام) : لا أسقيكه حتى تأتيني بريشة من (جناح الذل) .

وأبو تمام في جوابه هـذا يرمي إلى قوله تعالى: ( واخفض لهما جناح الذل من الرحمة ) (الإسراء:24) . وكأنه أراد أن يقول: إن (جناح الذل) استعارة وليس حقيقة، وأن (ماء الملام) استعارة أيضا.

أقول: وأين هـذا من ذاك، أن لطف الصنعة في (جناح الذل) وما يتأتى [ ص: 123 ] فيها من تصوير للخفض وللعاطفة، التي تصحبها، لا يمكن أن تقابل بـ " ماء الملام " .

ومن هـنا انصرفت " السقيا " إلى الخير في جملة من الآيات، كما انصرفت إلى الشر في شيء من لطف الصنعة اقتضاها أسلوب القرآن في تبكيته الكافرين وتعذيبهم.

قال سبحانه: ( وسقاهم ربهم شرابا طهورا ) (الإنسان:24) . إن تخصيص " السقيا " بـ " شراب طهور " يصرفها بعيدة عما ورد في آيات أخرى ذهب فيها إلى العذاب.

وقد أدرك العرب في أدبهم نعمة الماء، فجعلوه في تحيتهم ودعائهم، ألا ترى أنهم قد أكثروا من قولهم: (سقيا ورعيا) ، في التحية والدعاء. وإذا كان سقي فلا بد أن يعقبه خصب، ترعاه إبلهم ودوابهم، ومن هـذا قول النابغة :

نبئت نعما على الهجران عاتبة     سقيا ورعيا لذاك العاتب الزاري

ولو أنك ذهبت إلى تجريد الماء في أدبنا القديم، لكان لك من ذلك سفر عظيم. ومن هـنا حق لنا القول: إن العرب قد أدركوا حاجتهم إلى الماء إدراكا خاصا، فخلعت هـذه الحاجة على أدبهم رواء نضيرا، تصرفوا فيه إلى معاني الخير والجمال، وسائر ألوان الحياة. ثم نجيل الطرف في لغة التنزيل العزيز فإذا الذي أدركناه من هـذه الصنعة في أدبنا، ليس بشيء إزاء هـذا الفن، الذي أحكمت صنعته قدرة لطيف خبير، يتضاءل معها ما يضطرب فيه بنو البشر. [ ص: 124 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية