الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          وبعد ذكر الله تعالى رفع السماوات، وما فيها من أجرام ذكر الأرض وما فيها من آيات بينات فقال عز من قائل: وهو الذي مد الأرض وجعل فيها رواسي وأنهارا ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين يغشي الليل النهار إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون

                                                          بعد أن بين سبحانه وتعالى قدرته في رفع السماء بغير عمد ترونها، وما فيها من كواكب ونجوم رمز إليها بأجلها شأنا، وهي الشمس مصدر نورها، والقمر، [ ص: 3894 ] وكان رمزا لمن استمد نوره منها، وهو من أكبر أتباعها. أنزل آياته إلى الأرض وهي قريبة من الأنظار غير بعيدة عنها، وفيها يمرحون، ومن خيراتها يتخذون نماءهم; ولذا قال: وهو الذي مد الأرض أي: بسطها طولا وعرضا بحب يسهل افتراشها أو الانتقال في أجزائها شرقا وغربا، وشمالا وجنوبا وليس ذلك دليلا على أنها غير كروية، بل كونها كروية ثبت من الليل والنهار، ومن أدلة عقلية كثيرة، وكرويتها لا تنافي مدها وجعلها مفترشا لابن آدم، وذلك لكبرها وامتداد أطرافها.

                                                          ثم أخذ يبين سبحانه ما جعل فيها، فقال تعالى: وجعل فيها رواسي أي: جعل فيها جبالا كالأوتاد لها، كما قال تعالى: والجبال أوتادا ورواسي جمع راس، وقال البيضاوي وغيره: إنها جمع راسية، وجاءت التاء لأنها وصف لأجبل. ونحن نرى أن ذلك تكلف لا داعي إليه; لأنها جمع (راس) .

                                                          وهو وصف لما لا يفعل، وفواعل تجمع ما تكون وصفا لما لا يفعل، و: (راس) من رسا إذا ثبت، فـ رواسي معناها ثوابت مستقرة كأنها أثقال تزن الأرض، وعطف على الرواسي الأنهار وأنهارا للتقابل بينهما; لأن الجبال أحجار أو نحوها، والأنهار ماء سهل، فهما متقابلان في الجملة; ولأن أودية الماء تكون بجوار الجبال وتتخذ منها، أو تتكون مياه الأنهار ما ينحدر من الجبال، أو تنزل الأمطار على الجبال، ثم تنحدر حتى تجري في الأنهار، كما ترى في نهر النيل، إذ إنه تكون من البحيرات التي ترفدها بمائها ثم تنحدر المياه من جبال الحبشة، فيكون فيضانه بخيراته التي أفاض الله بها على عباده، فأوجد الخصب في وادي النيل، وأخصب مصر من وقت أن جرى فيها.

                                                          وإنه من وراء الأنهار يكون إنبات النبات، وإثمار الأشجار، فإن هذا كله يكون من الماء الذي جعل الله تعالى منه كل شيء حي، وكذا قال سبحانه وتعالى بعد الأنهار وجريانها وتحدرها من الجبال: ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين [ ص: 3895 ] أي: جعل سبحانه وتعالى صنفين متقابلين كالحلو والحامض، والأسود والأبيض، وجعل منها زوجين أي: الذكر والأنثى، فمنه الذكر الذي يلقح بما تحمله من البذر الرياح اللواقح، والأنثى التي تحمل بذر الذكر، كما تحمل أنثى الحيوان بذر الذكر في رحمها.

                                                          ومن هذا يتبين أن كلمة زوجين تتضمن معنى التقابل الذي يعم التقابل بين الذكر والأنثى، والتقابل في الألوان، والتقابل في الطعم، والتقابل في الصغر والكبر، وهذا كله في أرض واحدة، وكان مقتضى اتحاد الأرض واتحاد الماء أن تكون شيئا واحدا في لونه أو طعمه، أو ذكورته أو أنوثته، أو صغره أو كبره، ولكن تعددت وتخالفت، فدل هذا على وحدة الصانع الحكيم العليم المريد الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى.

                                                          ثم بين سبحانه بعض العلاقة بين السماء والأرض، وهي الليل والنهار، فهما من دوران الأرض حول الشمس، وكل يدور في مداره، فبدوران الأرض يكون الليل والنهار، وبدوران الشمس تكون الفصول الأربعة. ولقد قال تعالى: يغشي الليل النهار بسكون (الغين) وهناك قراءة بفتح الغين وتشديد الشين من التغشية، وكلاهما بمعنى اللباس الذي يغشي الجسم، وفي هذا الكلام استعارة تبعية وأصلية، فأما الأصلية: فهي تشبيه الظلمة بالثوب الأسود، والضوء بالجسم الأبيض، وتبع ذلك أن شبه النهار بأنه يغشي الليل.

                                                          وإن هذا من اتصال الشمس بالأرض، أي: اتصال الأرض بالسماء.

                                                          هذه آيات الله تعالى، وبيناته، وخلقه، وتكوينه، وهي تدل على أنه فعل فاعل مختار لما يريد، وأن الأشياء لا تنشأ عنه سبحانه نشوء المعلول عن علته، كما يقول الفلاسفة، ويسميهم الناس حكماء وليسوا كذلك; ولذا قال الله تعالى: إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون [ ص: 3896 ]

                                                          إن في ذلك الإشارة إلى المذكور من: مد الأرض، ووجود أوتادها، وتحدر الأنهار منها، ووجود الأزواج المختلفة لآيات أي: لدلالات بينات لقوم يتفكرون لجماعة يفكرون ويتفاهمون على التفكير ويتدبرون المعاني، فإنها لو كانت بالتعليل المجرد ما تنوعت هذا التنويع، وما تقابلت هذا التقابل فيما بينها، بل كانت صنفا واحدا ولم تكن أصنافا، وكانت لونا واحدا، ولم تكن ألوانا، والله بكل شيء عليم.

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية