الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                                          فصل وإن تلف المغصوب ضمنه بمثله إن كان مكيلا أو موزونا ، وإن أعوز المثل فعليه قيمة مثله يوم إعوازه ، وقال القاضي : يضمنه بقيمته يوم القبض ، وعنه : تلزمه قيمته يوم تلفه ، وإن لم يكن مثليا ؛ ضمنه بقيمته يوم تلفه في بلده من نقده ، ويتخرج أن يضمنه بقيمته يوم غصبه ، وإن كان مصوغا أو تبرا تخالف قيمته وزنه ، قومه بغير جنسه ، فإن كان محلى بالنقدين معا قومه بما شاء منهما للحاجة ، وأعطاه بالقيمة عرضا ، وإن تلف بعض المغصوب فنقصت قيمة باقيه ، كزوجي خف تلف أحدهما ، فعليه رد الباقي وقيمة التلف وأرش نقصه ، وقيل : لا يلزمه أرش النقص ، وإن غصب عبدا فأبق ، أو فرسا فشرد ، أو شيئا تعذر رده مع بقائه ، ضمن قيمته ، فإن قدر عليه بعد رده وأخذ القيمة ، وإن غصب عصيرا فتخمر فعليه قيمته ، فإن انقلب خلا رده وما نقص من قيمة العصير .

                                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                                          فصل

                                                                                                                          ( وإن تلف المغصوب ) أو أتلفه ( ضمنه ) لقوله تعالى فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم ( بمثله إن كان مكيلا أو موزونا ) لأنه لما تعذر [ ص: 181 ] رد العين لزمه رد ما يقوم مقامها ، وقد حكاه ابن عبد البر إجماعا في كل مأكول ومشروب أنه يجب على مستهلكه مثله لا قيمته ; لأن المثل أقرب إليه من القيمة ، فهو مماثل له من طريق الصورة والمشاهدة والمعنى ، والقيمة مماثلة له من طريق الظن والاجتهاد ، والأول مقدم كالنص مع القياس ، ومقتضاه أنه لو قدر على المثل بأكثر من قيمته لزمه شراؤه ، صرح به في " الكافي " ، وعنه : يضمنه بقيمته ، ذكره القاضي ، وذكر أيضا القيمة في نقرة وسبيكة ، وعنب ورطب ، كما فيه صناعة مباحة لا محرمة ، وينبغي أن يستثنى من الأول الماء في المفازة ، فإنه يضمن بقيمته في البرية .

                                                                                                                          مسألة : ظاهره أن المثلي ما حصره كيل أو وزن والأولى ، وجاز السلم فيه كماء وتراب ( وإن أعوز المثل ) في البلد أو حوله ( فعليه قيمة مثله يوم إعوازه ) أي : يوم تعذره ; لأنه يستحق المطالبة بقيمة المثل يوم الإعواز ، فوجب أن تعتبر القيمة حينئذ ; لأنه يوم وجوبها ( وقال القاضي : يضمنه بقيمته يوم القبض ) أي : قبض بدله ، وهذا رواية عن أحمد ; لأن الواجب المثل إلى حين قبض البدل ، بدليل أنه لو وجد المثل بعد إعوازه لكان الواجب هو دون القيمة ( وعنه : يلزمه قيمته يوم تلفه ) لأن القيمة تثبت في الذمة يوم التلف ، فاعتبرت تلك الحالة كما لو لم تختلف القيمة ، وعنه : يلزمه يوم المحاكمة ، وقاله أكثر العلماء ; لأن القيمة لم تنتقل إلى ذمته إلا حين حكم بها الحاكم ، وعنه : يوم غصبه ، وقيل : أكثرهما من يوم الغصب إلى يوم تعذر المثل ، فإن غرمها ثم قدر على المثل لم ترد القيمة على الأصح ، فلو قدر عليه قبل غرمها عاد وجوبه ; لأنه الأصل قدر عليه [ ص: 182 ] قبل أداء البدل ، أشبه القدرة على الماء بعد التيمم ، ولهذا لو قدر عليه بعد المحاكمة وقبل الاستيفاء ، استحق المالك طلبه وأخذه ( وإن لم يكن مثليا ) كالثوب والعبد ( ضمنه بقيمته ) في قول الجماعة لقوله عليه السلام : " من أعتق شركا له في عبد قوم عليه " فأمر بالتقويم في حصة الشريك ; لأنها متلفة بالعتق ، ولم يأمر بالمثل ; لأن هذه الأشياء لا تتساوى أجزاؤها ، وتختلف صفاتها ، فالقيمة فيها أعدل وأقرب إليها ، فكانت أولى ( يوم تلفه في بلده ) الذي غصبه فيه ; لأن ذلك زمن الضمان وموضعه ، وعنه : تعتبر القيمة ببلد تلفه ، جزم به في " الكافي " ( من نقده ) فإن كان فيه نقود اعتبر أن يكون من غالبه ( ويتخرج أن يضمنه بقيمته يوم غصبه ) هذا رواية عن أحمد نقلها الثقات منهم ابن مشيش ، وكذا ابن منصور إلا أنه عاوده في ذلك فجبن عنه ; لأنه الوقت الذي أزال يده فيه ، فلزمته القيمة كما لو أتلفه ، وعنه : أكثرهما ، أي : من يوم غصبه إلى يوم تلفه ، اختاره الخرقي كإتلافه في الأصح ، لكن القاضي حمل كلام الخرقي على ما إذا اختلفت القيمة لتغير الأسعار ، وقد علمت أن المذهب عدم الضمان حتى قال القاضي : لم أجد رواية عن أحمد بأنها تضمن بأكثر القيمتين لتغير الأسعار ، ونقل ابن أبي موسى خلافه ، وعنه : يضمن المغصوب بمثله مطلقا ، وقاله ابن أبي موسى ، واختاره الشيخ تقي الدين ، واحتج بعموم قوله تعالى فآتوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا ولخبر القصعة ، وعنه : مع قيمته ، وعنه غير حيوان بمثله ، ذكره جماعة ، وفي " الواضح " و " الموجز " ، فينقص عنه عشرة دراهم .

                                                                                                                          فرع : لو حكم حاكم بغير المثلي في المثلي ، وبغير القيمة في المتقوم لم [ ص: 183 ] ينفذ حكمه ، ولم يلزمه قبوله ، ذكره في " الانتصار " ، و " المفردات " ، ولو أخذ حوائج من بقال ونحوه في أيام ، ثم يحاسبه ، فإنه يعطيه بسعر يوم أخذه ، نص عليه .

                                                                                                                          ( وإن كان مصوغا ) مباحا ( أو تبرا تخالف قيمته وزنه قومه بغير جنسه ) إذا كانت الصناعة فيه مباحة ، كحلي النساء لئلا يؤدي إلى الربا ، وعلم منه أنه يجب ضمانه بقيمته ، وذكر القاضي فيه أنه يضمن بأكثر من وزنه ; لأن الزيادة في مقابلة الصنعة ، فلا يؤدي إلى الربا ، ومقتضاه أن الصناعة إذا كانت محرمة أنه لم يجز ضمانه بأكثر من جنسه وجها واحدا ; لأنه لا قيمة لها شرعا ، بل يضمنه بوزنه وفيه وجه ، وقيل : إن جاز اتخاذه ضمن كالمباح ، فأما إن كانت قيمته كوزنه وجبت ; لأن تضمينه بها لا يؤدي إلى الربا ، أشبه غير الأثمان ( فإن كان محلى بالنقدين معا قومه بما شاء منهما للحاجة ) أي : إلى تقويمها بأحدهما ; لأن كلا منهما ثمن في قيم المتلفات ، وأروش الجنايات ، وليس أحدهما أولى من الآخر ، فكانت الخيرة إليه ( وأعطاه بالقيمة عرضا ) لئلا يفضي إلى الربا ، وقيل : من أتلف خلخالا أو سوارا ، فهل يضمن بوزنه من جنسه ، ويضمن الصنعة من غيره ، أو يضمن الوزن والصنعة بغير جنسه ، أو يضمنهما بجنسه ؛ فيه أوجه ، وإن كسرها ضمن النقص من غالب نقد البلد وإن كان من غير جنسه ( وإن تلف بعض المغصوب فنقصت قيمة باقيه كزوجي خف ) أو مصراعي باب ( تلف أحدهما فعليه رد الباقي ) لأنه ملك غيره ( وقيمة التالف ) لأنه تلف تحت يده العادية ( وأرش نقصه ) إن نقص ، نصره الأصحاب ; لأنه نقص حصل بجنايته ، فلزمه [ ص: 184 ] ضمانه ، كما لو غصب ثوبا ينقصه الشق فشقه ثم تلف ( وقيل : لا يلزمه أرش النقص ) لأن الباقي نقص قيمته فلا يضمنه كالنقص لتغير الأسعار ، وجوابه بالفرق بينهما ، فإن نقص السعر لم يذهب من المغصوب عين ولا معنى ، وهاهنا فوت عليه إمكان الانتفاع به ، فوجب ضمان نقص قيمته ، فلو كانت قيمتهما عشرين ، والباقي بعد التلف يساوي خمسة ، فعلى الأول عليه خمسة عشر ، وعلى الثاني عشرة ( وإن غصب عبدا فأبق ، أو فرسا فشرد ، أو شيئا تعذر رده مع بقائه ضمن قيمته ) للمالك للحيلولة لا أنه على سبيل العوض ويملكها ، وفي " عيون المسائل " وغيرها خلافه ; لأنه إنما حصل بها الانتفاع في مقابلة ما فوته الغاصب ( فإن قدر عليه بعد رده ) ولا يملكه الغاصب بأداء القيمة ، بل يرده إذا قدر مع نمائه المنفصل ، وأجر مثله إلى حين دفع بدله ( وأخذ القيمة ) أي : الذي أخذها المالك بدلا عنه ; لأنه أخذه بالحيلولة وقد زالت ، فيجب رد ما أخذ من أجلها إن كان باقيا بعينه بزيادته المتصلة ; لأنها تتبع في الفسوخ ، وهذا فسخ دون المنفصلة ; لأنها نماء ملكه ، وإن كان البدل تالفا فعليه بدله أو قيمته إن لم يكن من ذوات الأمثال ، وفي حبسه ليرد القيمة وجهان ، ولا يصح الإبراء منها مع بقائها .

                                                                                                                          ( وإن غصب عصيرا فتخمر فعليه قيمته ) لأن ماليته زالت تحت يده ، أشبه ما لو أتلفها ، وقيل : مثله من العصير ، جزم به في " الشرح " ، و " الوجيز " ; لأن ذلك يلزمه بانقلابه خمرا ( فإن انقلب خلا رده ) لأنه عين ملكه ( وما نقص من قيمة العصير ) إن نقص ; لأنه نقص تحت يده ، أشبه ما لو نقص منه جزء ، وفي " عيون المسائل " لا يلزمه قيمة العصير ; لأن الخل عينه ، كحمل صار [ ص: 185 ] كبشا ، ويسترجع الغاصب ما أداه بدلا عنه ، وإن غلاه غرم أرش نقصه وكذا نقصه ، وقيل : لا ; لأنه ماء .

                                                                                                                          فرع : لو غصب جماعة مشاعا ، فرد واحد منهم سهم آخر إليه لم يجز له حتى يعطى شركاؤه ، نص عليه ، وكذا إن صالحوه بمال عنه ، نقله حرب ، ويتوجه أنه بيع المشاع ، ذكره في " الفروع " ، ولو شق ثوبه فلا قصاص فيه ، ويضمن نقصه ، ونقل جماعة : يخير ، اختاره الشيخ تقي الدين .




                                                                                                                          الخدمات العلمية