الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
باب صوم التمتع قال الله تعالى : فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم قال أبو بكر : قد اختلف في معنى قوله : فصيام ثلاثة أيام في الحج فروي عن علي أنه قبل يوم التروية بيوم ويوم التروية ويوم عرفة . وقالت عائشة وابن عمر : " من حين أهل بالحج إلى يوم عرفة " قال ابن عمر : " ولا يصومهن حتى يحرم " قال عطاء : " يصومهن في العشر حلالا إن شاء " وهو قول طاوس ؛ وقالا : " لا يصومهن قبل أن يعتمر " قال عطاء : " وإنما يؤخرهن إلى العشر ؛ لأنه لا يدري عسى يتيسر له الهدي " . قال أبو بكر : هذا يدل على أن ذلك عندهما على جهة الاستحباب لا على جهة الإيجاب ، فيكون بمنزلة استحبابنا لمن لا يجد الماء تأخير التيمم [ ص: 366 ] إلى آخر الوقت إذا رجا وجود الماء . وقول علي وعطاء وطاوس يدل على جواز صومهن في العشر حلالا أو حراما ؛ لأنهم لم يفرقوا بين ذلك ؛ وأصحابنا يجيزون صومهن بعد إحرامه بالعمرة ولا يجيزونه قبل ذلك ؛ وذلك لأن الإحرام بالعمرة هو سبب التمتع ، قال الله : فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فمتى وجد السبب جاز تقديمه على وقت الوجوب ، كتعجيل الزكاة لوجود النصاب وتعجيل كفارة القتل لوجود الجراحة . ويدل على جواز تقديمه قبل وقت وجوبه لوجود سببه ، أنا قد علمنا أن وجوب الهدي متعلق بوجوب تمام الحج ، وذلك إنما يكون بالوقوف بعرفة ؛ لأن قبل ذلك يجوز ورود الفساد عليه فلا يكون الهدي واجبا عليه . وإذا كان كذلك وقد جاز عند الجميع صوم ثلاثة أيام بعد الإحرام بالحج وإن لم يكن الإحرام به موجبا له ؛ إذ كان وجوبه متعلقا بتمام الحج والعمرة جميعا ، ثبت جوازه بعد وجود سببه وهو العمرة ، ولا فرق بين إحرام الحج وإحرام العمرة إذا فعله بعد إحرام الحج ، إنما هو لأجل وجود سببه وذلك موجود بعد إحرام العمرة .

فإن قيل : لو كان ما ذكرت سببا للجواز لوجب أن يجوز السبعة أيضا لوجود السبب . قيل له : لو لزمنا ذلك على قولنا في جوازه بعد إحرام العمرة للزمك مثله في إجازتك له بعد إحرام الحج ؛ لأنك تجيز صوم الثلاثة الأيام بعد إحرام الحج ولا تجيز السبعة . .

فإن قيل : فإذا كان الصيام بدلا من الهدي والهدي لا يجوز ذبحه قبل يوم النحر فكيف جاز الصوم ؟ قيل له : لا خلاف في جواز الصوم قبل يوم النحر ، وقد ثبت بالسنة امتناع جواز ذبح الهدي قبل يوم النحر ، وأحدهما ثابت بالاتفاق وبدليل قوله : فصيام ثلاثة أيام في الحج والآخر ثابت بالسنة ، فالاعتراض عليهما بالنظر ساقط . وأيضا فإن الصوم يقع مراعى منتظرا به شيئان :

أحدهما : إتمام العمرة والحج في أشهر الحج ، والثاني : أن لا يجد الهدي حتى يحل ؛ فإذا وجد المعنيان صح الصوم عن المتعة ، وإذا عدم أحدهما بطل أن يكون صوم المتعة وصار تطوعا . وأما الهدي فقد رتب عليه أفعال أخر من حلق وقضاء التفث وطواف الزيارة ، فلذلك اختص بيوم النحر . فإن قيل : قال الله : فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج فلا يجوز تقديمه على الحج قيل له : لا يخلو قوله : فصيام ثلاثة أيام في الحج من أحد معان : إما أن يريد به في الأفعال التي هي عمدة للحج ، وما سماه النبي صلى الله عليه وسلم حجا وهو الوقوف بعرفة ؛ لأنه قال : الحج عرفة , أو أن يريد في إحرام الحج أو في أشهر الحج ؛ لأن الله تعالى قال : الحج أشهر معلومات [ ص: 367 ] وغير جائز أن يكون المراد فعل الحج الذي لا يصح إلا به ؛ لأن ذلك إنما هو يوم عرفة بعد الزوال ويستحيل صوم الثلاثة الأيام فيه ، ومع ذلك فلا خلاف في جوازه قبل يوم عرفة ؛ فبطل هذا الوجه وبقي من وجوه الاحتمال في إحرام الحج أو في أشهر الحج ، وظاهره يقتضي جواز فعله بوجود أيهما كان لمطابقته اللفظ في الآية . وأيضا قوله : فصيام ثلاثة أيام في الحج معلوم أن جوازه معلق بوجود سببه لا بوجوبه ، فإذا كان هذا المعنى موجودا عند إحرامه بالعمرة وجب أن يجزئ ولا يكون ذلك خلاف الآية ، كما أن قوله : ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة لا يمنع جواز تقديمها على القتل لوجود الجراحة ، وكذلك قوله : لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول لم يمنع جواز تعجيلها لوجود سببها وهو النصاب ، فكذلك قوله : فصيام ثلاثة أيام في الحج غير مانع جواز تعجيله لأجل وجود سببه الذي به جاز فعله في الحج .

فإن قيل : لم نجد بدلا يجوز تقديمه على وقت المبدل عنه ، ولما كان الصوم بدلا من الهدي لم يجز تقديمه عليه . قيل له : هذا اعتراض على الآية ؛ لأن نص التنزيل قد أجاز ذلك في الحج قبل يوم النحر ، وأيضا فإنا لم نجد ذلك فيما تقدم البدل كله على وقت المبدل عنه ، وهاهنا إنما جاز تقديم بعض الصيام على وقت الهدي وهو صوم الثلاثة الأيام ، والسبعة التي معها غير جائز تقديمها عليه ؛ لأنه تعالى قال : وسبعة إذا رجعتم فإنما أجيز له من ذلك مقدار ما يحل به يوم النحر إذا لم يجد الهدي . وأيضا فإن الصوم لما كان بدلا من الهدي وهدي العمرة يصح إيجابه بعد إحرام العمرة ويتعلق به حكم التمتع في باب المنع من الإحلال إلى أن يذبحه ، فكذلك يجوز الصيام بدلا منه من حيث صح هديا للمتعة ، ويدل أيضا على صحة كونه عن المتعة أنه متى بعث بهدي المتعة ثم خرج يريد الإحرام أنه يصير محرما قبل أن يلحقه ، فدل ذلك على صحة هدي المتعة بالسوق ، فكذلك يصح الصوم بدلا منه إذا لم يجد .

فإن قيل فقد يصح هديا قبل أن يحرم بالعمرة ولا يجوز الصوم في تلك الحال . قيل له : قبل إحرام المتعة لم يتعلق به حكم المتعة ، والدليل على ذلك أنه لا تأثير له في هذه الحال في حكم الإحرام ووجوده وعدمه سواء ، فلم يصح الصوم معه قبل إحرام العمرة ، فإذا أحرم بعمرة ثبت لها حكم الهدي في منعه الإحلال ، فلذلك جاز الصوم في تلك الحال كما صح هديا للمتعة . ويدل على جواز تقديم الصوم على إحرام الحج أن سنة المتمتع أن يحرم بالحج يوم التروية ، وبذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه [ ص: 368 ] حين أحلوا من احرامهم بعمرة ، ولا يكون إلا وقد تقدم الصوم قبل ذلك .

التالي السابق


الخدمات العلمية