الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            [ ص: 136 ] ( وآتوا اليتامى أموالهم ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم إنه كان حوبا كبيرا ) .

                                                                                                                                                                                                                                            قوله تعالى ( وآتوا اليتامى أموالهم ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم إنه كان حوبا كبيرا )

                                                                                                                                                                                                                                            اعلم أنه لما افتتح السورة بذكر ما يدل على أنه يجب على العبد أن يكون منقادا لتكاليف الله سبحانه ، محترزا عن مساخطه ، شرع بعد ذلك في شرح أقسام التكاليف .

                                                                                                                                                                                                                                            فالنوع الأول : ما يتعلق بأموال اليتامى ، وهو هذه الآية ، وأيضا أنه تعالى وصى في الآية السابقة بالأرحام ، فكذلك في هذه الآية وصى بالأيتام ، لأنهم قد صاروا بحيث لا كافل لهم ولا مشفق شديد الإشفاق عليهم ، ففارق حالهم حال من له رحم ماسة عاطفة عليه لمكان الولادة أو لمكان الرحم فقال : ( وآتوا اليتامى أموالهم ) وفي الآية مسائل :

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى : قال صاحب " الكشاف " : اليتامى الذين مات آباؤهم فانفردوا عنهم ، واليتم الانفراد ، ومنه الرملة اليتيمة والدرة اليتيمة ، وقيل : اليتم في الأناسي من قبل الآباء ، وفي البهائم من قبل الأمهات . قال : وحق هذا الاسم أن يقع على الصغار والكبار لبقاء الانفراد عن الآباء ، إلا أن في العرف اختص هذا الاسم بمن لم يبلغ مبلغ الرجال ، فإذا صار بحيث يستغني بنفسه في تحصيل مصالحه عن كافل يكفله وقيم يقوم بأمره ، زال عنه هذا الاسم ، وكانت قريش تقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم : يتيم أبي طالب ، إما على القياس ، وإما على حكاية الحال التي كان عليها حين كان صغيرا ناشئا في حجر عمه توضيعا له . وأما قوله عليه الصلاة والسلام : " لا يتم بعد حلم " فهو تعليم الشريعة لا تعليم اللغة ، يعني إذا احتلم فإنه لا تجري عليه أحكام الصغار . وروى أبو بكر الرازي في أحكام القرآن أن جده كتب إلى ابن عباس يسأله عن اليتيم متى ينقطع يتمه ؟ فكتب إليه : إذا أونس منه الرشد انقطع يتمه ، وفي بعض الروايات : إن الرجل ليقبض على لحيته ولم ينقطع عنه يتمه بعد ، فأخبر ابن عباس أن اسم اليتيم قد يلزمه بعد البلوغ إذا لم يؤنس منه الرشد ، ثم قال أبو بكر : واسم اليتيم قد يقع على المرأة المفردة عن زوجها ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : " تستأمر اليتيمة " وهي لا تستأمر إلا وهي بالغة ، قال الشاعر :


                                                                                                                                                                                                                                            إن القبور تنكح الأيامى النسوة الأرامل اليتامى



                                                                                                                                                                                                                                            فالحاصل من كل ما ذكرنا أن اسم اليتيم بحسب أصل اللغة يتناول الصغير والكبير ، إلا أنه بحسب العرف مختص بالصغير .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : ههنا سؤال وهو أن يقال : كيف جمع اليتيم على يتامى ؟ واليتيم فعيل ، والفعيل يجمع على فعلى ، كمريض ومرضى وقتيل وقتلى وجريح وجرحى ؟

                                                                                                                                                                                                                                            قال صاحب " الكشاف " : فيه وجهان :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدهما : أن يقال : جمع اليتيم يتمى ، ثم يجمع فعلى على فعالى ، كأسير وأسرى وأسارى .

                                                                                                                                                                                                                                            والثاني : أن يقال : جمع يتيم يتائم ؛ لأن اليتيم جار مجرى الأسماء نحو صاحب وفارس ، ثم يقلب اليتائم يتامى . قال [ ص: 137 ] القفال رحمه الله : ويجوز يتيم ويتامى ، كنديم وندامى ، ويجوز أيضا يتيم وأيتام كشريف وأشراف .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثالثة : ههنا سؤال ثان : وهو أنا ذكرنا أن اسم اليتيم مختص بالصغير ، فما دام يتيما لا يجوز دفع ماله إليه ، وإذا صار كبيرا بحيث يجوز دفع ماله إليه لم يبق يتيما ، فكيف قال : ( وآتوا اليتامى أموالهم ) ؟

                                                                                                                                                                                                                                            والجواب عنه على طريقين :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أن نقول : المراد من اليتامى الذين بلغوا وكبروا ، ثم فيه وجهان :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدهما : أنه تعالى سماهم يتامى على مقتضى أصل اللغة .

                                                                                                                                                                                                                                            والثاني : أنه تعالى سماهم باليتامى لقرب عهدهم باليتم وإن كان قد زال في هذا الوقت كقوله تعالى : ( فألقي السحرة ساجدين ) [ الشعراء : 46 ] أي الذين كانوا سحرة قبل السجود ، وأيضا سمى الله تعالى مقاربة انقضاء العدة ، بلوغ الأجل في قوله : ( فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن ) [ الطلاق : 2 ] والمعنى مقاربة البلوغ ، ويدل على أن المراد من اليتامى في هذه الآية البالغون قوله تعالى : ( فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم ) [ النساء : 6 ] والإشهاد لا يصح قبل البلوغ وإنما يصح بعد البلوغ .

                                                                                                                                                                                                                                            الطريق الثاني : أن نقول : المراد باليتامى الصغار ، وعلى هذا الطريق ففي الآية وجهان :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدهما : أن قوله : ( وآتوا ) أمر ، والأمر إنما يتناول المستقبل ، فكان المعنى أن هؤلاء الذين هم يتامى في الحال آتوهم بعد زوال صفة اليتم عنهم أموالهم ، وعلى هذا الوجه زالت المناقضة .

                                                                                                                                                                                                                                            والثاني : المراد : وآتوا اليتامى حال كونهم يتامى ما يحتاجون إليه لنفقتهم وكسوتهم ، والفائدة فيه أنه كان يجوز أن يظن أنه لا يجوز إنفاق ماله عليه حال كونه صغيرا ، فأباح الله تعالى ذلك . وفيه إشكال وهو أنه لو كان المراد ذلك لقال : وآتوهم من أموالهم ، فلما أوجب إيتاءهم كل أموالهم سقط ذلك .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الرابعة : نقل أبو بكر الرازي في أحكام القرآن عن الحسن أنه قال : لما نزلت هذه الآية في أموال اليتامى كرهوا أن يخالطوهم وعزلوا أموال اليتامى عن أموالهم ، فشكوا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى : ( ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم ) [ البقرة : 220 ] قال أبو بكر الرازي : وأظن أنه غلط من الراوي ، لأن المراد بهذه الآية إيتاؤهم أموالهم بعد البلوغ ، وإنما غلط الراوي بآية أخرى ، وهو ما روى سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنه ما قال : لما أنزل الله ( ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن ) [ الأنعام : 152 ] و ( إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما ) [ النساء : 10 ] ذهب من كان عنده يتيم فعزل طعامه من طعامه وشرابه من شرابه ، فاشتد ذلك على اليتامى ، فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله تعالى : ( ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم ) [ البقرة : 220 ] فخلطوا عند ذلك طعامهم بطعامهم وشرابهم بشرابهم .

                                                                                                                                                                                                                                            قال المفسرون : الصحيح أنها نزلت في رجل من غطفان ، كان معه مال كثير لابن أخ له يتيم ، فلما بلغ طلب المال فمنعه عمه ، فتراجعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فنزلت هذه الآية ، فلما سمعها العم قال : أطعنا الله وأطعنا الرسول ، نعوذ بالله من الحوب الكبير ، ودفع ماله إليه ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " ومن يوق شح نفسه ويطع ربه هكذا فإنه يحل داره " أي جنته ، فلما قبض الصبي ماله أنفقه في سبيل الله ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " ثبت الأجر وبقي الوزر " فقالوا : يا رسول الله لقد عرفنا أنه ثبت الأجر ، فكيف بقي الوزر وهو ينفق في سبيل الله ؟ فقال : ثبت أجر الغلام وبقي الوزر على والده .

                                                                                                                                                                                                                                            [ ص: 138 ] المسألة الخامسة : احتج أبو بكر الرازي بهذه الآية على أن السفيه ، لا يحجر عليه بعد الخمس والعشرين ، قال ؛ لأن قوله : ( وآتوا اليتامى أموالهم ) مطلق يتناول السفيه أونس منه الرشد أو لم يؤنس ، ترك العمل به قبل الخمس والعشرين سنة لاتفاق العلماء على أن إيناس الرشد قبل بلوغ هذا السن ، شرط في وجوب دفع المال إليه ، وهذا الإجماع لم يوجد بعد هذا السن ، فوجب إجراء الأمر بعد هذا السن على حكم ظاهر هذه الآية .

                                                                                                                                                                                                                                            أجاب أصحابنا عنه : بأن هذه الآية عامة ، لأنه تعالى ذكر اليتامى فيها جملة ، ثم إنهم ميزوا بعد ذلك بقوله : ( وابتلوا اليتامى ) [ النساء : 6 ] وبقوله : ( ولا تؤتوا السفهاء أموالكم ) [ النساء : 5 ] حرم بهاتين الآيتين إيتاءهم أموالهم إذا كانوا سفهاء ، ولا شك أن الخاص مقدم على العام .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية