الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ومذهب أهل الحق من السلف ومن وافقهم أن الإيمان يتفاضل فيزيد وينقص ; ولهذا قال : ( ( تزيده ) ) أي الإيمان المطلق عند الأثرية من السلف ( ( التقوى ) ) هي - لغة - الحاجز بين الشيئين ، والتاء فيه مبدلة من الواو ; لأن أصلها من الوقاية ، واصطلاحا التحرز بطاعة الله عن مخالفته وامتثال أمره ، واجتناب نهيه ، وقوله - تعالى - : هو أهل التقوى أي أهل أن يتقى عقابه . ( ( وينقص ) ) الإيمان ( ( بـ ) ) ارتكاب ( ( الزلل ) ) وتعاطيه بفتح الزاي المشددة ، واللام ، من زللت تزل زلا وزليلا مزلة بكسر الزاي ، وزلولا وأزله غيره ، واستزله ، والمزلة موضعه ، والاسم الزلة وهي الخطيئة ، والسقطة ، والحاصل أن الإيمان عند السلف ومن وافقهم من أئمة أهل السنة والعرفان يزيد بالطاعة وينقص بالعصيان .

قال شيخ الإسلام ابن تيمية - قدس الله روحه - في كتاب الإيمان والإسلام : مذهب أهل السنة والحديث على أن الإيمان يتفاضل ، وجمهورهم يقولون يزيد وينقص ، ومنهم من يقول : يزيد ولا يقول ينقص ، كما يروى عن الإمام مالك في إحدى الروايتين ، ومنهم من يقول : يتفاضل كالإمام عبد الله بن المبارك .

قال شيخ الإسلام : وقد ثبت لفظ الزيادة والنقصان فيه عن الصحابة ، ولم يعرف فيه مخالف منهم فروى الناس من وجوه كثيرة مشهورة عن حماد بن سلمة عن أبي جعفر عن جده عمير بن حبيب الخطمي وهو من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : الإيمان يزيد وينقص ، قيل له وما زيادته ونقصانه ، قال : إذا ذكرنا الله ووحدناه وسبحناه فتلك زيادته ، وإذا غفلنا ونسيناه فذاك نقصانه .

وروى إسماعيل بن عياش عن حريز بن عثمان عن الحارث بن محمد عن أبي الدرداء - رضي الله عنه - قال : الإيمان يزيد وينقص . وقال الإمام أحمد : حدثنا يزيد حدثنا حريز بن عثمان قال : سمعت أشياخنا ، أو بعض أشياخنا أن أبا الدرداء قال : إن من فقه العبد أن يتعاهد إيمانه ، وما نقص منه ، ومن فقه العبد أن يعلم أيزداد إيمانه أم ينقص ، وإن من فقه الرجل أن يعلم نزغات الشيطان أنى يأتيه . وروى إسماعيل بن عياش [ ص: 412 ] عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال : الإيمان يزيد وينقص . وروى الإمام أحمد عن أبي ذر - رضي الله عنه - كان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يقول لأصحابه هلموا نزدد إيمانا - فيذكرون الله - عز وجل . وقال أبو عبيد في الغريب في حديث علي - رضي الله عنه - : إن الإيمان يبدو لمظة في القلب ، كلما ازداد إيمانا ازدادت اللمظة . قال الأصمعي : اللمظة مثل النكتة ، أو نحوها . وفي نهاية ابن الأثير في حديث علي الإيمان يبدو في القلوب لمظة - اللمظة بالضم مثل النكتة من البياض ، ومنه فرس ألمظ إذا كان بجحفلته بياض يسير ، والجحفلة بتقديم الجيم على الحاء بمنزلة الشفة للخيل ، والبغال ، والحمير . وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن عكيم قال : سمعت ابن مسعود - رضي الله عنه - يقول في دعائه : اللهم زدنا إيمانا ويقينا وفقها . وصح عن عمار بن ياسر - رضي الله عنه - أنه قال : ثلاث من كن فيه فقد استكمل الإيمان إنصاف من نفسه ، والإنفاق من الإقتار ، وبذل السلام للعالم . وذكره البخاري في صحيحه . وقال جندب بن عبد الله وابن عمر وغيرهما : تعلمنا الإيمان ، ثم تعلمنا القرآن فازددنا إيمانا . وقال شيخ الإسلام : والآثار في هذا كثيرة جدا ، رواها المصنفون في هذا الباب لآثار الصحابة ، والتابعين من كتب كثيرة .

والزيادة قد نطق بها القرآن في عدة آيات كقوله : إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون قال شيخ الإسلام : وهذا أمر يجده المؤمن إذا تليت عليه الآيات ازداد قلبه بفهم القرآن ومعرفة معانيه من علم الإيمان ، ما لم يكن حتى كأنه لم يسمع الآية إلا حينئذ ويحصل في قلبه من الرغبة في الخير ، والرهبة من الشر ما لم يكن ، فيزداد علمه بالله ومحبته لطاعته ، وهذا زيادة الإيمان وقال - تعالى - : الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل فهذه الزيادة عند تخويفهم بالعدو لم تكن عند آية نزلت فازدادوا يقينا وتوكلا على الله ، وثباتا على الجهاد ، وتوحيدا بأن لا يخافوا المخلوق بل يخافون الله الخالق وحده ، وقال - تعالى - : وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا وهذه الزيادة ليست مجرد التصديق بأن الله أنزلها ، بل زادتهم بحسب مقتضاها ، فإن كانت أمرا بالجهاد [ ص: 413 ] ، أو غيره ازدادوا رغبة فيه ، وإن كانت نهيا عن شيء انتهوا عنه فكرهوه ; ولهذا قال : وهم يستبشرون ، والاستبشار غير مجرد التصديق . وقال - تعالى - : وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا ليستيقن الذين أوتوا الكتاب ويزداد الذين آمنوا إيمانا الآية . وهذه نزلت لما رجع النبي - صلى الله عليه وسلم - من الحديبية وأصحابه فجعل السكينة موجبة لزيادة الإيمان ، والسكينة هي طمأنينة في القلب ، وقوله - تعالى - : يهد قلبه هداه لقلبه زيادة في إيمانه كما قال - تعالى - : والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم وقال : إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى .

التالي السابق


الخدمات العلمية