الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فصل

[ حكمة تحريم المرأة بعد الطلاق الثلاث ]

وأما تحريم المرأة على الزوج بعد الطلاق الثلاث وإباحتها له بعد نكاحها للثاني فلا يعرف حكمته إلا من له معرفة بأسرار الشريعة وما اشتملت عليه من الحكم والمصالح الكلية ; فنقول وبالله التوفيق : لما كان إباحة فرج المرأة للرجل بعد تحريمه عليه ومنعه منه من أعظم نعم الله عليه وإحسانه إليه كان جديرا بشكر هذه النعمة ، ومراعاتها ، والقيام بحقوقها ، وعدم تعريضها للزوال ، وتنوعت الشرائع في ذلك بحسب المصالح التي علمها الله في كل زمان ولكل أمة ، فجاءت شريعة التوراة بإباحتها له بعد الطلاق ما لم تتزوج ، فإذا تزوجت حرمت عليه ، ولم يبق له سبيل إليها .

وفي ذلك من الحكمة والمصلحة ما لا يخفى ; فإن الزوج إذا علم أنه إذا طلق المرأة وصار أمرها بيدها ، وأن لها أن تنكح غيره ، وأنها إذا نكحت غيره حرمت عليه أبدا ، كان تمسكه بها أشد ، وحذره من مفارقتها أعظم ، وشريعة التوراة جاءت بحسب الأمة الموسوية فيها من الشدة والإصر ما يناسب حالها ، ثم جاءت شريعة الإنجيل بالمنع من [ ص: 57 ] الطلاق بعد التزوج ألبتة ، فإذا تزوج بامرأة فليس له أن يطلقها ، ثم جاءت الشريعة الكاملة الفاضلة المحمدية التي هي أكمل شريعة نزلت من السماء على الإطلاق وأجلها وأفضلها وأعلاها وأقومها بمصالح العباد في المعاش والمعاد بأحسن من ذلك كله وأكمله وأوفقه للعقل والمصلحة ; فإن الله سبحانه أكمل لهذه الأمة دينها ، وأتم عليها نعمته ، وأباح لها من الطيبات ما لم يبحه لأمة غيرها ، فأباح للرجل أن ينكح من أطايب النساء أربعا ، وأن يتسرى من الإماء بما شاء ، وليس التسري في شريعة أخرى غيرها ، ثم أكمل لعبده شرعه ، وأتم عليه نعمته ، بأن ملكه أن يفارق امرأته ويأخذ غيرها ; إذ لعل الأولى لا تصلح له ولا توافقه ، فلم يجعلها غلا في عنقه ، وقيدا في رجله ، وإصرا على ظهره ، وشرع له فراقها على أكمل الوجوه لها وله ، بأن يفارقها واحدة ثم تتربص ثلاثة قروء .

والغالب أنها في ثلاثة أشهر ، فإن تاقت نفسه إليها ، وكان له فيها رغبة ، وصرف مقلب القلوب قلبه إلى محبتها ، وجد السبيل إلى ردها ممكنا ، والباب مفتوحا ، فراجع حبيبته ، واستقبل أمره ، وعاد إلى يده ما أخرجته يد الغضب ونزغات الشيطان منها ، ثم لا يأمن غلبات الطباع ونزغات الشيطان من المعاودة ، فمكن من ذلك أيضا مرة ثانية ، ولعلها أن تذوق من مرارة الطلاق وخراب البيت ما يمنعها من معاودة ما يغضبه ، ويذوق هو من ألم فراقها ما يمنعه من التسرع إلى الطلاق ، فإذا جاءت الثالثة جاء ما لا مرد له من أمر الله ، وقيل له : قد اندفعت حاجتك بالمرة الأولى والثانية ; ولم يبق لك عليها بعد الثالثة سبيل ، فإذا علم أن الثالثة فراق بينه وبينها وأنها القاضية أمسك عن إيقاعها ، فإنه إذا علم أنها بعد الثالثة لا تحل له إلا بعد تربص ثلاثة قروء وتزوج بزوج راغب في نكاحها وإمساكها ، وأن الأول لا سبيل له إليها حتى يدخل بها الثاني دخولا كاملا يذوق فيه كل واحد منهما عسيلة صاحبه بحيث يمنعهما ذلك من تعجيل الفراق ثم يفارقها بموت أو طلاق أو خلع ثم تعتد من ذلك عدة كاملة تبين له حينئذ يأسه بهذا الطلاق الذي هو من أبغض الحلال إلى الله ، وعلم كل واحد منهما أنه لا سبيل له إلى العود بعد الثالثة ، لا باختياره ولا باختيارها ، وأكد هذا المقصود بأن لعن الزوج الثاني إذا لم ينكح نكاح رغبة يقصد فيه الإمساك ، بل نكح نكاح تحليل ، ولعن الزوج الأول إذ ردها بهذا النكاح ، بل ينكحها الثاني كما نكحها الأول ، ويطلقها كما طلقها الأول ، وحينئذ فتباح للأول كما تباح لغيره من الأزواج .

وأنت إذا وازنت بين هذا وبين الشريعتين المنسوختين ، ووازنت بينه وبين الشريعة المبدلة المبيحة ما لعن الله ورسوله فاعله ، تبين لك عظمة هذه الشريعة ، وجلالتها ، وهيمنتها على سائر الشرائع ، وأنها جاءت على أكمل الوجوه وأتمها وأحسنها وأنفعها [ ص: 58 ] للخلق ، وأن الشريعتين المنسوختين خير من الشريعة المبدلة ، فإن الله سبحانه شرعهما في وقت ، ولم يشرع المبدلة أصلا .

وهذه الدقائق ونحوها مما يختص الله سبحانه بفهمه من يشاء ; فمن وصل إليها فليحمد الله ، ومن لم يصل إليها فليسلم لأحكم الحاكمين وأعلم العالمين .

وليعلم أن شريعته فوق عقول العقلاء وفق فطر الألباء :

وقل للعيون الرمد لا تتقدمي إلى الشمس واستغشي ظلام اللياليا     وسامح ولا تنكر عليها وخلها
وإن أنكرت حقا فقل خل ذا ليا

غيره :

عاب التفقه قوم لا عقول لهم     وما عليه إذا عابوه من ضرر
ما ضر شمس الضحى والشمس طالعة     أن لا يرى ضوءها من ليس ذا بصر

.

التالي السابق


الخدمات العلمية