الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            باب النهي أن يبيع حاضر لباد 2201 - ( عن ابن عمر قال { : نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يبيع حاضر لباد . } رواه البخاري والنسائي ) .

                                                                                                                                            2202 - ( وعن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { لا يبيع حاضر لباد دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض . } رواه الجماعة إلا البخاري ) .

                                                                                                                                            2203 - ( وعن أنس قال { : نهينا أن يبيع حاضر لباد وإن كان أخاه لأبيه وأمه } متفق عليه ، ولأبي داود والنسائي أن النبي صلى الله عليه وسلم { نهى أن يبيع حاضر لباد وإن كان أباه أو أخاه } ) [ ص: 195 ]

                                                                                                                                            2204 - ( وعن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { لا تلقوا الركبان ولا يبع حاضر لباد فقيل لابن عباس : ما قوله : لا يبع حاضر لباد ؟ قال : لا يكون له سمسارا . } رواه الجماعة إلا الترمذي )

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            قوله : ( حاضر لباد ) الحاضر : ساكن الحضر ، والبادي : ساكن البادية . قال في القاموس : الحضر ، والحاضرة والحضارة وتفتح خلاف البادية ، والحضارة : الإقامة في الحضر ، ثم قال : والحاضر خلاف البادي ، وقال البدر : والبادية والبادات والبداوة خلاف الحضر ، وتبدى : أقام بها ، وتبادى : تشبه بأهلها ، والنسبة بداوي وبدوي وبدا القوم : خرجوا إلى البادية انتهى . قوله : ( دعوا الناس ) . . . إلخ ، في مسند أحمد من طريق عطاء بن السائب عن حكيم بن أبي يزيد عن أبيه ، حدثني أبي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض ، فإذا استنصح الرجل فلينصح له } ورواه البيهقي من حديث جابر مثله .

                                                                                                                                            قوله : ( لا تلقوا الركبان ) سيأتي الكلام عليه . قوله : ( سمسارا ) بسينين مهملتين . قال في الفتح : وهو في الأصل القيم بالأمر والحافظ ، ثم استعمل في متولي البيع والشراء لغيره ، وأحاديث الباب تدل على أنه لا يجوز للحاضر أن يبيع للبادي من غير فرق بين أن يكون البادي قريبا له أو أجنبيا ، وسواء كان في زمن الغلاء أو لا ، وسواء كان يحتاج إليه أهل البلد أم لا ، وسواء باعه له على التدريج أم دفعة واحدة وقالت الحنفية : إنه يختص المنع من ذلك بزمن الغلاء وبما يحتاج إليه أهل المصر .

                                                                                                                                            وقالت الشافعية والحنابلة : إن الممنوع إنما هو أن يجيء البلد بسلعة يريد بيعها بسعر الوقت في الحال ، فيأتيه الحاضر فيقول : ضعه عندي لأبيعه لك على التدريج بأغلى من هذا السعر قال في الفتح : فجعلوا الحكم منوطا بالبادي ومن شاركه في معناه ، قالوا : وإنما ذكر البادي في الحديث لكونه الغالب ، فألحق به من شاركه في عدم معرفة السعر من الحاضرين ، وجعلت المالكية البداوة قيدا ، وعن مالك : لا يلتحق بالبدوي في ذلك إلا من كان يشبهه . فأما أهل القرى الذين يعرفون أثمان السلع والأسواق فليسوا داخلين في ذلك ، وحكى ابن المنذر عن الجمهور أن النهي للتحريم إذا كان البائع عالما والمبتاع مما تعم الحاجة إليه ولم يعرضه البدوي على الحضري ، ولا يخفى أن تخصيص العموم بمثل هذه الأمور من التخصيص بمجرد الاستنباط وقد ذكر ابن دقيق العيد فيه تفصيلا حاصله أنه يجوز التخصيص به حيث يظهر المعنى ، لا حيث يكون خفيا ، فاتباع اللفظ أولى ، [ ص: 196 ] ولكنه لا يطمئن الخاطر إلى التخصيص به مطلقا ، فالبقاء على ظواهر النصوص هو الأولى ، فيكون بيع الحاضر للبادي محرما على العموم ، وسواء كان بأجرة أم لا ؟ وروي عن البخاري أنه حمل النهي على البيع بأجرة لا بغير أجرة فإنه من باب النصيحة

                                                                                                                                            وروي عن عطاء ومجاهد وأبي حنيفة أنه يجوز بيع الحاضر للبادي مطلقا ، وتمسكوا بأحاديث النصيحة وروي مثل ذلك عن الهادي ، وقالوا : إن أحاديث الباب منسوخة ، واستظهروا على الجواز بالقياس على توكيل البادي للحاضر فإنه جائز ، ويجاب عن تمسكهم بأحاديث النصيحة بأنها عامة مخصصة بأحاديث الباب . فإن قيل : إن أحاديث النصيحة وأحاديث الباب بينها عموم وخصوص من وجه ; لأن بيع الحاضر للبادي قد يكون على غير وجه النصيحة ، فيحتاج حينئذ إلى الترجيح من خارج كما هو شأن الترجيح بين العمومين المتعارضين ، فيقال : المراد بيع الحاضر للبادي الذي جعلناه أخص مطلقا هو البيع الشرعي ، بيع المسلم للمسلم الذي بينه الشارع للأمة ، وليس بيع الغش والخداع داخلا في مسمى هذا البيع الشرعي ، كما أنه لا يدخل فيه بيع الربا وغيره مما لا يحل شرعا ، فلا يكون البيع باعتبار ما ليس بيعا شرعيا أعم من وجه حتى يحتاج إلى طلب مرجح بين العمومين ; لأن ذلك ليس هو البيع الشرعي

                                                                                                                                            ويجاب عن دعوى النسخ بأنها إنما تصح عند العلم بتأخر الناسخ ولم ينقل ذلك ، وعن القياس بأنه فاسد الاعتبار لمصادمته النص ، على أن أحاديث الباب أخص من الأدلة القاضية بجواز التوكيل مطلقا ، فيبنى العام على الخاص واعلم أنه كما لا يجوز أن يبيع الحاضر للبادي ، كذلك لا يجوز أن يشتري له ، وبه قال ابن سيرين والنخعي ، وعن مالك روايتان ، ويدل لذلك ما أخرجه أبو داود عن أنس بن مالك أنه قال : كان يقال : { لا يبع حاضر لباد } . وهي كلمة جامعة لا يبيع له شيئا ولا يبتاع له شيئا ، ولكن في إسناده أبو هلال محمد بن سليم الراسبي ، وقد تكلم فيه غير واحد ، وأخرج أبو عوانة في صحيحه عن ابن سيرين قال : لقيت أنس بن مالك فقلت : لا يبع حاضر لباد ، أنهيتم أن تبيعوا أو تبتاعوا لهم ؟ قال : نعم ، قال محمد : صدق إنها كلمة جامعة ، ويقوي ذلك العلة التي نبه عليها صلى الله عليه وسلم بقوله : { دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض }

                                                                                                                                            فإن ذلك يحصل بشراء من لا خبرة له بالأثمان كما يحصل ببيعه ، وعلى فرض عدم ورود نص يقضي بأن الشراء حكمه حكم البيع ، فقد تقرر أن لفظ البيع يطلق على الشراء وأنه مشترك بينهما ، كما أن لفظ الشراء يطلق على البيع لكونه مشتركا بينهما ، والخلاف في جواز استعمال المشترك في معنييه أو معانيه معروف في الأصول ، والحق الجواز إن لم يتناقضا .




                                                                                                                                            الخدمات العلمية