الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 450 ] بسم الله الرحمن الرحيم

تفسير سورة المدثر

وهي مكية بإجماع من أهل التأويل.

قوله عز وجل:

يا أيها المدثر قم فأنذر وربك فكبر وثيابك فطهر والرجز فاهجر ولا تمنن تستكثر ولربك فاصبر فإذا نقر في الناقور فذلك يومئذ يوم عسير على الكافرين غير يسير

اختلف القراء في "المدثر" على نحو ما ذكرناه في [المزمل]، وفي حرف أبي بن كعب : [المدثر] ومعناه: المتدثر بثيابه، والدثار: ما يتغطى الإنسان به من الثياب.

واختلف الناس، لم ناداه بالمدثر؟ فقال جمهور المفسرين بما ورد في البخاري من أنه صلى الله عليه وسلم لما فرغ من رؤية جبريل عليه السلام على كرسي بين السماء والأرض فرعب منه ورجع إلى خديجة ، قال: زملوني زملوني، فنزلت "يا أيها المدثر"، وقالت عائشة ، [ ص: 451 ] وقال النخعي وقتادة : نودي وهو في حال تدثر فدعي بحال من أحواله، وروي أنه كان يدثر في قطيفة، وقال آخرون: معناه: أيها النائم، وقال عكرمة : معناه: يا أيها المدثر للنبوة وأثقالها.

واختلف الناس في أول ما نزل من كتاب الله تعالى، فقال جابر بن عبد الله ، وأبو سلمة ، والنخعي ، وجماعة: هو "يا أيها المدثر" الآيات، وقال الزهري والجمهور: "هو اقرأ باسم ربك الذي خلق"، وهذا هو الأصح، وحديث صدر البخاري نص في ذلك.

وقوله تعالى: "قم فأنذر" بعثة إلى جميع الخلق، قال قتادة ، المعنى: أنذر عذاب الله ووقائعه بالأمم، وقوله تعالى: "وربك فكبر" معناه: عظمه بالعبادة وبث شرعه، وروي عن أبي هريرة أن بعض المؤمنين قال: بم نفتتح صلاتنا؟ فنزلت: "وربك فكبر".

[ ص: 452 ] واختلف المتأولون في معنى قوله "وثيابك فطهر"، فقال ابن سيرين ، وابن زيد بن أسلم ، والشافعي ، وجماعة: هو أمر بتطهير الثياب حقيقة، وذهب الشافعي وغيره من هذه الآية إلى وجوب غسل النجاسات من الثياب، وقال الجمهور: هذه الألفاظ استعارة في تنقية الأفعال والنفس وأعرض وهذا كما تقول: فلان طاهر الثوب، ويقال للفاجر: دنس الثوب، ومنه قول الشاعر :


وإني بحمد الله لا ثوب فاجر .. لبست ولا من غدرة أتقنع



وقال الآخر:


لا هم إن عامر ابن جهم ...     أوذم حجا في ثياب دهم



أي: دنسه، وقال ابن عباس ، والضحاك ، وغيرهما: المعنى: ولا تلبسها على غدرة ولا فجور، وقال ابن عباس رضي الله عنهما أيضا : المعنى: لا تلبسها من مكسب خبيث، وقال النخعي : المعنى: طهرها من الذنوب، وهذا كله معنى قريب بعضه من بعض، وقال طاوس : المعنى: قصرها وشمرها، فذلك طهرة للثياب.

وقرأ جمهور الناس "والرجز فاهجر" بكسر الراء، وقرأ حفص عن عاصم ، والحسن ، ومجاهد ، وأبو جعفر ، وشيبة ، وأبو عبد الرحمن والنخعي ، وابن وثاب ، وقتادة ، وابن أبي إسحاق ، والأعرج : و"الرجز فاهجر" بضم الراء، فقيل: هما بمعنى يراد بهما الأصنام والأوثان، وقيل: للأصنام عموما، قاله عكرمة ومجاهد والزهري ، وقال ابن عباس : "الرجز": السخط، فالمعنى: اهجر ما يؤدي إليه ويوجبه، [ ص: 453 ] وقال الحسن: كل معصية رجز، وروى جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم فسر هذه الآية بالأوثان. واختلف المتأولون في معنى قوله تعالى: ولا تمنن تستكثر ، فقال ابن عباس وجماعة: معناه: لا تعط عطاء لتعطى أكثر منه، فكأنه من قولهم: "من إذا أعطى"، قال الضحاك : وهذا خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم ومباح لأمته لكن لا أجر لهم فيه، قال مكي : وهذا معنى قوله تعالى: وما آتيتم من ربا ليربو في أموال الناس فلا يربو عند الله .

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

وهذا معنى أجنبي من معنى هذه السورة.

وحكى النقاش عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: "ولا تمنن تستكثر": لا تقل: دعوت فلم أجب وروى قتادة أن المعنى: لا تدل بعملك، ففي هذا التأويل تحريض على الجد وتخويف، وقال ابن زيد : معناه: ولا تمنن على الناس بنبوءتك تستكثر بأجر أو بكسب تطلبه منهم، وقال الحسن بن أبي الحسن: معناه: على الله تعالى بجدك تستكثر أعمالك ويقع لك بها إعجاب، فهذه كلها من المن الذي هو تعديد اليد وذكرها، وقال مجاهد : معناه: ولا تضعف تستكثر ما حملناك من أعباء الرسالة وتستكثر من الخير، فهذه من قولهم: "حبل منين" أي: ضعيف. وفي قراءة ابن مسعود : "ولا تمنن أن تستكثر"، وقرأ الأعمش : "تستكثر" بنصب الراء على تقدير "أن" مضمرة، وضعف أبو حاتم الجزم، وقرأ ابن أبي عبلة : "ولا تمنن فتستكثر" بالفاء العاطفة والجزم، وقرأ أبو السمال: "ولا تمن" بنون واحدة مشددة.

[ ص: 454 ] "ولربك فاصبر"، أي لوجه ربك وطلب رضاه، كما تقول: فعلت لله تعالى، والمعنى: على الأدنى من الكفار، وعلى العبادة، وعن الشهوات، وعلى تكاليف النبوة، قال ابن زيد : وعلى حرب الأحمر والأسود، لقد حمل صلى الله عليه وسلم أمرا عظيما.

و"الناقور": الذي ينفخ فيه، وهو الصور، قاله ابن عباس وعكرمة ، وقال خفاف بن ندبة:


إذا ناقورهم يوما تبدى     أجاب الناس من شرق وغرب



وهو" فاعول" من النقر، وقال أبو حباب: أمنا زرارة بن أوفى فلما بلغ " فإذا نقر في الناقور" خر ميتا، وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: "كيف أنعم وصاحب القرن قد التقمه وحنى جبهته ينتظر متى يؤمر بالنفخ"؟ ففزع فقالوا: كيف نقول يا رسول الله؟ قال: "قولوا: حسبنا الله ونعم الوكيل، على الله توكلنا".

ويوم عسير معناه: في عسر في الأمور الجارية على الكفار، فوصف الله تعالى اليوم بالعسر لكونه ظرف زمان له، وكذلك تجيء صفته باليسر، وقرأ الحسن "عسر" بغير ياء.

التالي السابق


الخدمات العلمية