الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            ( 2014 ) مسألة : قال : ( وإذا سافر ما يقصر فيه الصلاة ، فلا يفطر حتى يترك البيوت وراء ظهره ) وجملته أن للمسافر أن يفطر في رمضان وغيره ، بدلالة الكتاب والسنة والإجماع ; أما الكتاب فقول الله تعالى : { فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر } ، وأما السنة فقول النبي صلى الله عليه وسلم { : إن الله وضع عن المسافر الصوم } . رواه النسائي ، والترمذي ، وقال : حديث حسن . في أخبار كثيرة سواه . وأجمع المسلمون على إباحة الفطر للمسافر في الجملة ، وإنما يباح الفطر في السفر الطويل ، الذي يبيح القصر ، وقد ذكرنا قدره في الصلاة . ثم لا يخلو المسافر من ثلاثة أحوال : أحدها ، أن يدخل عليه شهر رمضان في السفر ، فلا نعلم بين أهل العلم خلافا في إباحة الفطر له .

                                                                                                                                            الثاني ، أن يسافر في أثناء الشهر ليلا ، فله الفطر في صبيحة الليلة التي يخرج فيها ، وما بعدها ، في قول عامة أهل العلم . وقال عبيدة السلماني ، وأبو مجلز ، وسويد بن غفلة : لا يفطر من سافر بعد دخول الشهر ; لقول الله تعالى : { فمن شهد منكم الشهر فليصمه } . وهذا قد شهده . [ ص: 13 ]

                                                                                                                                            ولنا قول الله تعالى : { فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر } . وروى ابن عباس ، قال { : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح في شهر رمضان ، فصام حتى بلغ الكديد ، ثم أفطر وأفطر الناس } . متفق عليه . ولأنه مسافر فأبيح له الفطر ، كما لو سافر قبل الشهر ، والآية تناولت الأمر بالصوم لمن شهد الشهر كله ، وهذا لم يشهده كله . الثالث ، أن يسافر في أثناء يوم من رمضان ، فحكمه في اليوم الثاني كمن سافر ليلا ، وفي إباحة فطر اليوم الذي سافر فيه ، عن أحمد روايتان ; إحداهما ، له أن يفطر .

                                                                                                                                            وهو قول عمرو بن شرحبيل ، والشعبي ، وإسحاق ، وداود ، وابن المنذر ; لما روى عبيد بن جبير ، قال : ركبت مع أبي بصرة الغفاري في سفينة من الفسطاط في شهر رمضان ، فدفع ، ثم قرب غداءه ، فلم يجاوز البيوت حتى دعا بالسفرة ، ثم قال : اقترب ، قلت : ألست ترى البيوت ؟ قال أبو بصرة { أترغب عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فأكل } . رواه أبو داود . ولأن السفر معنى لو وجد ليلا واستمر في النهار لأباح الفطر ، فإذا وجد في أثنائه أباحه كالمرض ، ولأنه أحد الأمرين المنصوص عليهما في إباحة الفطر بهما ، فأباحه في أثناء النهار كالآخر . والرواية الثانية ، لا يباح له الفطر ذلك اليوم ، وهو قول مكحول ، والزهري ، ويحيى الأنصاري ، ومالك ، والأوزاعي ، والشافعي ، وأصحاب الرأي ; لأن الصوم عبادة تختلف بالسفر والحضر ، فإذا اجتمعا فيها غلب حكم الحضر ، كالصلاة ، والأول أصح ; للخبر ، ولأن الصوم يفارق الصلاة فإن الصلاة يلزم إتمامها بنيته ، بخلاف الصوم .

                                                                                                                                            إذا ثبت هذا فإنه لا يباح له الفطر حتى يخلف البيوت وراء ظهره ، يعني أنه يجاوزها ويخرج من بين بنيانها . وقال الحسن : يفطر في بيته ، إن شاء ، يوم يريد أن يخرج . وروي نحوه عن عطاء . قال ابن عبد البر : قول الحسن قول شاذ ، وليس الفطر لأحد في الحضر في نظر ولا أثر . وقد روي عن الحسن خلافه . وقد روى محمد بن كعب ، قال : { أتيت أنس بن مالك في رمضان ، وهو يريد السفر ، وقد رحلت له راحلته ، ولبس ثياب السفر ، فدعا بطعام فأكل ، فقلت له : سنة ؟ فقال : سنة . ثم ركب . } قال الترمذي : هذا حديث حسن .

                                                                                                                                            ولنا قول الله تعالى : { فمن شهد منكم الشهر فليصمه } . وهذا شاهد ، ولا يوصف بكونه مسافرا حتى يخرج من البلد ، ومهما كان في البلد فله أحكام الحاضرين ، ولذلك لا يقصر الصلاة . فأما أنس فيحتمل أنه قد كان برز من البلد خارجا منه ، فأتاه محمد بن كعب في منزله ذلك .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية