الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                              2547 [ ص: 168 ] باب تزويج الصغيرة

                                                                                                                              وقال النووي: (باب جواز تزويج الأب: البكر الصغيرة ).

                                                                                                                              حديث الباب

                                                                                                                              وهو بصحيح مسلم \ النووي ص206-208 ج9 المطبعة المصرية

                                                                                                                              [عن عائشة. قالت: تزوجني رسول الله صلى الله عليه وسلم لست سنين. وبنى بي وأنا بنت تسع سنين.

                                                                                                                              قالت: فقدمنا المدينة، فوعكت شهرا. فوفى شعري جميمة. فأتتني أم رومان، وأنا على أرجوحة، ومعي صواحبي. فصرخت بي فأتيتها، وما أدري ما تريد بي. فأخذت بيدي، فأوقفتني على الباب، فقلت: هه هه. حتى ذهب نفسي. فأدخلتني بيتا، فإذا نسوة من الأنصار، فقلن: على الخير والبركة، وعلى خير طائر. فأسلمتني إليهن، فغسلن رأسي، وأصلحنني. فلم يرعني إلا ورسول الله صلى الله عليه وسلم ضحى. فأسلمنني إليه
                                                                                                                              . ].

                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                              (الشرح)

                                                                                                                              (عن عائشة ) رضي الله عنها ; (قالت: تزوجني رسول الله صلى الله عليه وسلم لست سنين، وبنى بي وأنا بنت تسع سنين ).

                                                                                                                              وفي رواية: (تزوجها وهي بنت سبع سنين ).

                                                                                                                              [ ص: 169 ] وهذا صريح في جواز تزويج الأب: الصغيرة، بغير إذنها. لأنه لا إذن لها.

                                                                                                                              والجد كالأب، عند الشافعية.

                                                                                                                              واختلف أهل العلم في اشتراط الولي، في صحة النكاح ;

                                                                                                                              فقال مالك، والشافعي: يشترط، ولا يصح النكاح إلا بولي.

                                                                                                                              وقال أبو حنيفة: لا يشترط في الثيب، ولا في البكر.

                                                                                                                              وقال أبو ثور: يجوز أن تزوج نفسها بإذن وليها، ولا يجوز بغير إذنه.

                                                                                                                              وقال داود: يشترط الولي في البكر، دون الثيب.

                                                                                                                              وحجة مالك والشافعي، حديث: "لا نكاح إلا بولي". وهذا يقتضي: نفي الصحة.

                                                                                                                              وحجة داود: أن حديث مسلم صريح في الفرق بين البكر والثيب، وأن الثيب أحق بنفسها، والبكر تستأذن.

                                                                                                                              والجواب: أنها أحق. أي شريكة في الحق. بمعنى: أنها لا تجبر. وهي أيضا أحق، في تعيين الزوج.

                                                                                                                              [ ص: 170 ] وحمل أبو حنيفة الأحاديث الواردة في اشتراط الولي: على الأمة، والصغيرة.

                                                                                                                              واحتج أبو ثور بالحديث المشهور: "أيما أمرأة، نكحت بغير إذن وليها: فنكاحها باطل". ولأن الولي، إنما يراد، ليختار كفؤا لدفع العار، وذلك يحصل بإذنه.

                                                                                                                              قال العلماء: ناقض داود مذهبه، في شرط الولي في البكر دون الثيب ; لأنه إحداث قول في مسألة مختلف فيها، ولم يسبق إليه. ومذهبه: أنه لا يجوز إحداث مثل هذا.

                                                                                                                              هذا حاصل كلام النووي.

                                                                                                                              وأقول: الأحاديث الواردة في اعتبار الولي، قد سردها الحاكم: من طريق ثلاثين صحابيا، وفيها التصريح بالنفي ; كحديث أبي موسى: عند أحمد، وأبي داود، والترمذي، وابن ماجه، وابن حبان، والحاكم وصححه ; بلفظ: "لا نكاح إلا بولي". فأفاد انتفاء النكاح الشرعي، بانتفاء الولي. وما أفاد هذا المفاد: اقتضى أن ذلك شرط لصحة النكاح. لأن الشرط: ما يلزم من عدمه عدم المشروط. كما تقرر في الأصول.

                                                                                                                              [ ص: 171 ] وفي حديث عائشة: "أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها، فنكاحها باطل". أخرجه أحمد، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه.

                                                                                                                              وفي حديث أبي هريرة: "إن المرأة لا تزوج المرأة، ولا تزوج المرأة نفسها".

                                                                                                                              فالولي شرط من شروط النكاح، التي لا يصح إلا بها، إذا كان موجودا. وإلا فولايته إلى السلطان.

                                                                                                                              قال ابن المنذر: إنه لا يعرف عن أحد من الصحابة خلاف في اعتبار الولي.

                                                                                                                              قال في السيل الجرار: لما أمر الله سبحانه بإنكاح النساء، وقال: وأنكحوا الأيامى . وقال: فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن : كان أولياء المرأة، ممن دخل في هذا الخطاب دخولا أوليا، فكانوا أحق بإنكاحها من هذه الحيثية.

                                                                                                                              ثم جاءت السنة الصحيحة: بأنه "لا نكاح إلا بولي"، وأن النكاح بغير ولي باطل. وثبت عنه صلى الله عليه وآله وسلم: "بأن الأولياء إذا اشتجروا، فالسلطان ولي من لا ولي له"

                                                                                                                              فتبين بذلك: أن المراد بما في القرآن: هم خصوص الأولياء. ومعلوم: [ ص: 172 ] أن الأقرب إليها، أخص من الأبعد، من جهة كون ولايته على المرأة، لها مزيد خصوصية بالقرب.

                                                                                                                              وقد ذهب إلى اعتبار الولي: جمهور السلف والخلف. انتهى.

                                                                                                                              قال النووي: وأجمع المسلمون، على جواز تزويجه: بنته البكر الصغيرة، لهذا الحديث. "يعني: حديث الباب". وإذا بلغت، فلا خيار لها في فسخه عند مالك، والشافعي، وسائر فقهاء الحجاز.

                                                                                                                              وقال أهل العراق: لها الخيار إذا بلغت.

                                                                                                                              أما غير الأب والجد، من الأولياء: فلا يجوز أن يزوجها عند الشافعي، والثوري، ومالك، وابن أبي ليلى، وأحمد، وأبي ثور، وأبي عبيد، والجمهور.

                                                                                                                              قالوا: فإن زوجها لم يصح.

                                                                                                                              وقال الأوزاعي، وأبو حنيفة، وآخرون من السلف: يجوز لجميع الأولياء، ويصح. ولها الخيار إذا بلغت. "إلا أبا يوسف" فقال: لا خيار لها.

                                                                                                                              واتفق الجماهير: على أن الوصي الأجنبي، لا يزوجها.

                                                                                                                              وجوز شريح، وعروة، وحماد، له تزويجها قبل البلوغ. وحكاه الخطابي عن مالك أيضا.

                                                                                                                              [ ص: 173 ] قال: إن الشافعي، وأصحابه، قالوا: يستحب أن لا يزوج الأب والجد: البكر، حتى تبلغ، ويستأذنها، لئلا يوقعها في أسر الزوج وهي كارهة.

                                                                                                                              وهذا الذي قالوه، لا يخالف حديث عائشة. لأن مرادهم: أنه لا يزوجها قبل البلوغ، إذا لم تكن مصلحة ظاهرة يخاف فوتها بالتأخير كحديث عائشة ; فيستحب تحصيل ذلك الزوج. لأن الأب مأمور بمصلحة ولده، فلا يفوتها.

                                                                                                                              قال: وأما وقت زفاف الصغيرة المزوجة، والدخول بها، فإن اتفق الزوج والولي على شيء لا ضرر فيه على الصغيرة: عمل به.

                                                                                                                              وإن اختلفا، فقال أحمد وأبو عبيد: تجبر على ذلك بنت تسع سنين، دون غيرها.

                                                                                                                              وقال مالك والشافعي، وأبو حنيفة: حد ذلك: أن تطيق الجماع. ويختلف ذلك باختلافهن، ولا يضبط بسن. وهذا هو الصحيح.

                                                                                                                              وليس في حديث عائشة تحديد، ولا منع من ذلك فيمن أطاقته قبل تسع. ولا إذن فيه، لمن لم تطقه وقد بلغت تسعا.

                                                                                                                              [ ص: 174 ] قال الداودي: وكانت عائشة، قد شبت شبابا حسنا، "رضي الله عنها".

                                                                                                                              وأما قولها في رواية: "تزوجني وأنا بنت سبع"، وفي أكثر الروايات: "بنت ست"، فالجمع بينهما: أنه كان لها ست وكسر. ففي رواية: اقتصرت على السنين. وفي رواية: عدت السنة التي دخلت فيها. والله أعلم.

                                                                                                                              (قالت: فقدمنا المدينة، فوعكت شهرا ). الوعك: ألم الحمى.

                                                                                                                              (فوفى ). أي: كمل (شعري، جميمة ): تصغير "جمة"، وهي الشعر النازل إلى الأذنين، ونحوهما. أي: صار إلى هذا الحد، بعد أن كان قد ذهب بالمرض.

                                                                                                                              (فأتتني أم رومان ). هي أم عائشة، وهي بضم الراء وإسكان الواو. وهذا هو المشهور، ولم يذكر الجمهور غيره.

                                                                                                                              وحكى ابن عبد البر في "الاستيعاب": ضم الراء وفتحها. ورجح الفتح.

                                                                                                                              قال النووي: وليس هو براجح.

                                                                                                                              (وأنا على أرجوحة )، بضم الهمزة: هي خشبة يلعب عليها الصبيان، والجواري الصغار، يكون وسطها على مكان مرتفع، ويجلسون على طرفيها، ويحركونها فيرتفع جانب منها وينزل جانب.

                                                                                                                              (ومعي صواحبي. فصرخت بي فأتيتها، وما أدري ما تريد بي.

                                                                                                                              [ ص: 175 ] فأخذت بيدي، فأوقفتني على الباب، فقلت: هه هه )، بفتح الهاء الأولى، وإسكان الهاء الثانية. فهي هاء السكت.

                                                                                                                              وهذه كلمة، يقولها المبهور، حتى يتراجع إلى حال سكونه.

                                                                                                                              (حتى ذهب نفسي. فأدخلتني بيتا، فإذا نسوة من الأنصار ) بكسر النون وضمها، لغتان، والكسر أفصح وأشهر.

                                                                                                                              (فقلن: على الخير والبركة، وعلى خير طائر ).

                                                                                                                              الطائر: يطلق على الحظ من الخير والشر. والمراد هنا: على أفضل خير وحظ وبركة.

                                                                                                                              وفيه: استحباب الدعاء بالخير والبركة، لكل واحد من الزوجين. ومثله في حديث عبد الرحمن بن عوف: "بارك الله لك".

                                                                                                                              (فأسلمتني إليهن، فغسلن رأسي وأصلحنني ).

                                                                                                                              فيه: استحباب تنظيف العروس، وتزيينها لزوجها، واستحباب اجتماع النساء لذلك. ولأنه يتضمن إعلان النكاح. ولأنهن يؤانسنها، ويؤدبنها، ويعلمنها آدابها حال الزفاف، وحال لقائها الزوج.

                                                                                                                              (فلم يرعني إلا ورسول الله صلى الله عليه وسلم ضحى. فأسلمنني إليه ) أي: لم يفجأني ويأتي بغتة، إلا هذا.

                                                                                                                              [ ص: 176 ] وهذا فيه: جواز الزفاف والدخول بالعروس نهارا. وهو جائز ليلا ونهارا.

                                                                                                                              واحتج به البخاري في الدخول نهارا. وترجم عليه بابا.

                                                                                                                              وفي رواية أخرى: "وزفت إليه وهي بنت تسع سنين، ولعبها معها".

                                                                                                                              قال النووي: والمراد: هذه اللعب، المسماة بالبنات، التي تلعب بها الجواري الصغار. ومعناه: التنبيه على صغر سنها.

                                                                                                                              قال عياض: وفيه جواز اتخاذ اللعب، وإباحة لعب الجواري بهن. وقد جاء في الحديث الآخر: "أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم رأى ذلك، فلم ينكره".

                                                                                                                              قالوا: وسببه: تدريبهن لتربية الأولاد، وإصلاح شأنهن وبيوتهن. انتهى.

                                                                                                                              ويحتمل: أن يكون مخصوصا، من أحاديث النهي عن اتخاذ الصور، لما ذكره من المصلحة.

                                                                                                                              ويحتمل: أن يكون هذا منهيا عنه، وكانت قصة عائشة هذه ولعبها في أول الهجرة، قبل تحريم الصور.

                                                                                                                              [ ص: 177 ] هذا آخر كلام النووي.

                                                                                                                              وزاد في رواية: "ومات عنها، وهي بنت ثمان عشرة".




                                                                                                                              الخدمات العلمية