الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            ( وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم ولا تأكلوها إسرافا وبدارا أن يكبروا ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم وكفى بالله حسيبا ) .

                                                                                                                                                                                                                                            قوله تعالى : ( وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم ولا تأكلوها إسرافا وبدارا أن يكبروا ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم وكفى بالله حسيبا ) .

                                                                                                                                                                                                                                            واعلم أنه تعالى لما أمر من قبل بدفع مال اليتيم إليه بقوله : ( وآتوا اليتامى أموالهم ) بين بهذه الآية متى يؤتيهم أموالهم ، فذكر هذه الآية وشرط في دفع أموالهم إليهم شرطين : أحدهما : بلوغ النكاح ، والثاني : إيناس الرشد ، ولا بد من ثبوتهما حتى يجوز دفع مالهم إليهم ، وفي الآية مسائل :

                                                                                                                                                                                                                                            [ ص: 153 ] المسألة الأولى : قال أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه : تصرفات الصبي العاقل المميز بإذن الولي صحيحة ، وقال الشافعي رضي الله تعالى عنه : غير صحيحة ، احتج أبو حنيفة على قوله بهذه الآية ، وذلك لأن قوله : ( وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح ) يقتضي أن هذا الابتلاء إنما يحصل قبل البلوغ ، والمراد من هذا الابتلاء اختبار حاله في أنه هل له تصرف صالح للبيع والشراء ، وهذا الاختبار إنما يحصل إذا أذن له في البيع والشراء ، وإن لم يكن هذا المعنى نفس الاختبار ، فهو داخل في الاختبار بدليل أنه يصح الاستثناء ، يقال : وابتلوا اليتامى إلا في البيع والشراء ، وحكم الاستثناء إخراج ما لولاه لدخل ، فثبت أن قوله : ( وابتلوا اليتامى ) أمر للأولياء بأن يأذنوا لهم في البيع والشراء قبل البلوغ ، وذلك يقتضي صحة تصرفاتهم .

                                                                                                                                                                                                                                            أجاب الشافعي رضي الله عنه بأن قال : ليس المراد بقوله : ( وابتلوا اليتامى ) الإذن لهم في التصرف حال الصغر بدليل قوله تعالى بعد ذلك : ( فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم ) فإنما أمر بدفع المال إليهم بعد البلوغ وإيناس الرشد ، وإذا ثبت بموجب هذه الآية أنه لا يجوز دفع المال إليه حال الصغر ، وجب أن لا يجوز تصرفه حال الصغر ، لأنه لا قائل بالفرق ، فثبت بما ذكرنا دلالة هذه الآية على قول الشافعي ، وأما الذي احتجوا به ، فجوابه : أن المراد من الابتلاء اختبار عقله واستبراء حاله ، في أنه هل له فهم وعقل وقدرة في معرفة المصالح والمفاسد ، وذلك إذا باع الولي واشترى بحضور الصبي ، ثم يستكشف من الصبي أحوال ذلك البيع والشراء وما فيهما من المصالح والمفاسد ولا شك أن بهذا القدر يحصل الاختبار والابتلاء ، وأيضا : هب أنا سلمنا أنه يدفع إليه شيئا ليبيع أو يشتري ، فلم قلت إن هذا القدر يدل على صحة ذلك البيع والشراء ، بل إذا باع واشترى وحصل به اختبار عقله ، فالولي بعد ذلك يتمم البيع وذلك الشراء ، وهذا محتمل والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : المراد من بلوغ النكاح هو الاحتلام المذكور في قوله : ( وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم ) وهو في قول عامة الفقهاء عبارة عن البلوغ مبلغ الرجال الذي عنده يجري على صاحبه القلم ويلزمه الحدود والأحكام ، وإنما سمي الاحتلام بلوغ النكاح لأنه إنزال الماء الدافق الذي يكون في الجماع .

                                                                                                                                                                                                                                            واعلم أن للبلوغ علامات خمسة : منها ثلاثة مشتركة بين الذكور والإناث ، وهو الاحتلام والسن المخصوص ، ونبات الشعر الخشن على العانة ، واثنان مختصان بالنساء ، وهما : الحيض والحبل .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثالثة : أما إيناس الرشد فلا بد فيه من تفسير الإيناس ومن تفسير الرشد ، أما الإيناس فقوله : ( آنستم ) أي عرفتم وقيل : رأيتم ، وأصل الإيناس في اللغة الإبصار ، ومنه قوله : ( آنس من جانب الطور نارا قال ) [ القصص : 29 ] وأما الرشد فمعلوم أنه ليس المراد الرشد الذي لا تعلق له بصلاح ماله ، بل لا بد وأن يكون هذا مرادا ، وهو أن يعلم أنه مصلح لما له حتى لا يقع منه إسراف ولا يكون بحيث يقدر الغير على خديعته ، ثم اختلفوا في أنه هل يضم إليه الصلاح في الدين ؟ فعند الشافعي رضي الله عنه لا بد منه ، وعند أبي حنيفة رضي الله عنه هو غير معتبر ، والأول أولى ، ويدل عليه وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدها : أن أهل اللغة قالوا : الرشد هو إصابة الخير ، والمفسد في دينه لا يكون مصيبا للخير .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيها : أن الرشد نقيض الغي قال تعالى : ( قد تبين الرشد من الغي ) [ البقرة : 256 ] والغي هو الضلال والفساد وقال تعالى : ( وعصى آدم ربه فغوى ) [ طه : 121 ] فجعل العاصي غويا ، وهذا يدل على أن الرشد لا يتحقق إلا مع الصلاح في الدين .

                                                                                                                                                                                                                                            وثالثها : أنه تعالى قال : [ ص: 154 ] ( وما أمر فرعون برشيد ) [ هود : 97 ] نفي الرشد عنه لأنه ما كان يراعي مصالح الدين . والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                            إذا عرفت هذا فنقول : فائدة هذا الاختلاف أن الشافعي رحمه الله يرى الحجر على الفاسق ، وأبو حنيفة رضي الله عنه لا يراه .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الرابعة : اتفقوا على أنه إذا بلغ غير رشيد فإنه لا يدفع إليه ماله ، ثم عند أبي حنيفة لا يدفع إليه ماله حتى يبلغ خمسا وعشرين سنة ، فإذا بلغ ذلك دفع إليه ماله على كل حال ، وإنما اعتبر هذا السن ؛ لأن مدة بلوغ الذكر عنده بالسن ثماني عشرة سنة ، فإذا زاد عليه سبع سنين وهي مدة معتبرة في تغير أحوال الإنسان لقوله عليه الصلاة والسلام : " مروهم بالصلاة لسبع " فعند ذلك تمت المدة التي يمكن فيها حصول تغير الأحوال ، فعندها يدفع إليه ماله ، أونس منه الرشد أو لم يؤنس وقال الشافعي رضي الله عنه : لا يدفع إليه أبدا إلا بإيناس الرشد ، وهو قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله .

                                                                                                                                                                                                                                            احتج أبو بكر الرازي لأبي حنيفة بهذه الآية فقال : لا شك أن اسم الرشد واقع على العقل في الجملة ، والله تعالى شرط رشدا منكرا ولم يشترط سائر ضروب الرشد ، فاقتضى ظاهر الآية أنه لما حصل العقل فقد حصل ما هو الشرط المذكور في هذه الآية ، فيلزم جواز دفع المال إليه ترك العمل به فيما دون خمس وعشرين سنة ، فوجب العمل بمقتضى الآية فيما زاد على خمس وعشرين سنة ويمكن أن يجاب عنه بأنه تعالى قال : ( وابتلوا اليتامى ) ولا شك أن المراد ابتلاؤهم فيما يتعلق بمصالح حفظ المال ، ثم قال : ( فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا ) ويجب أن يكون المراد : فإن آنستم منهم رشدا في حفظ المال وضبط مصالحه ، فإنه إن لم يكن المراد ذلك تفكك النظم ولم يبق للبعض تعلق بالبعض ، وإذا ثبت هذا علمنا أن الشرط المعتبر في الآية هو حصول الرشد في رعاية مصالح المال ، وعند هذا سقط استدلال أبي بكر الرازي ، بل تنقلب هذه الآية دليلا عليه ؛ لأنه جعل رعاية مصالح المال شرطا في جواز دفع المال إليه ، فإذا كان هذا الشرط مفقودا بعد خمس وعشرين سنة ، وجب أن لا يجوز دفع المال إليه ، والقياس الجلي أيضا يقوي الاستدلال بهذا النص ؛ لأن الصبي إنما منع منه المال لفقدان العقل الهادي إلى كيفية حفظ المال وكيفية الانتفاع به ، فإذا كان هذا المعنى حاصلا في الشباب والشيخ كان في حكم الصبي ، فثبت أنه لا وجه لقول من يقول : إنه إذا بلغ خمسا وعشرين سنة دفع إليه ماله وإن لم يؤنس منه الرشد .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الخامسة : إذا بلغ رشيدا ثم تغير وصار سفيها حجر عليه عند الشافعي ولا يحجر عليه عند أبي حنيفة وقد مرت هذه المسألة عند قوله تعالى : ( ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما ) والقياس الجلي أيضا يدل عليه ؛ لأن هذه الآية دالة على أنه إذا بلغ غير رشيد لم يدفع إليه ماله ، وإنما لم يدفع إليه ماله لئلا يصير المال ضائعا فيكون باقيا مرصدا ليوم حاجته ، وهذا المعنى قائم في السفه الطارئ ، فوجب اعتباره . والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة السادسة : قال صاحب " الكشاف " : الفائدة في تنكير الرشد التنبيه على أن المعتبر هو الرشد في التصرف والتجارة ، أو على أن المعتبر هو حصول طرف من الرشد وظهور أثر من آثاره حتى لا ينتظر به تمام الرشد .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة السابعة : قال صاحب " الكشاف " : قرأ ابن مسعود : فإن أحستم ، بمعنى أحسستم قال :

                                                                                                                                                                                                                                            [ ص: 155 ]

                                                                                                                                                                                                                                            أحسن به فهن إليه شوس

                                                                                                                                                                                                                                            وقرئ : رشدا بفتحتين ورشدا بضمتين .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية