الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قال شيخ الإسلام - قدس الله روحه - : زيادة الإيمان الذي أمر الله به ، والذي يكون من عباده المؤمنين من وجوه أحدها الإجمال ، والتفصيل فيما أمروا به ، فإنه وجب على جميع الخلق الإيمان بالله ورسوله ، ووجب على كل أمة التزام ما يأمر به رسولهم مجملا ، فمعلوم أنه لا يجب في أول الأمر ما وجب بعد نزول القرآن كله ، ولا يجب على كل عبد من الإيمان المفصل ما أخبر به الرسول ما يجب على من بلغه خبره ، فمن عرف القرآن ، والسنن ومعانيها لزمه من الإيمان المفصل بذلك ما لم يلزم غيره ، ولو آمن الرجل بالله وبالرسول باطنا وظاهرا ، ثم مات قبل أن يعرف شرائع الدين مات مؤمنا بما وجب عليه من الإيمان ، وليس ما وجب عليه ولا ما وقع منه مثل إيمان من عرف الشرائع ، فآمن بها وعمل بها بل إيمان هذا أكمل وقوله - تعالى - : اليوم أكملت لكم دينكم أي في التشريع بالأمر ، والنهي لا أن كل واحد من الأمة وجب عليه ما يجب على سائر الأمة ، وأنه فعل ذلك بل الناس متفاضلون في الإيمان أعظم تفاضل .

الثاني : الإجمال ، والتفصيل في ما وقع منهم ، فمن طلب علم التفصيل وعمل به ، فإيمانه أكمل ممن عرف ما يجب عليه ، والتزمه وأقر به ولم يعمل بذلك كله ، وهذا المقر المقصر في العمل إن اعترف بذنبه وكان خائفا من عقوبة ربه على ترك العمل أكمل إيمانا ممن لم يطلب معرفة ما أمر به الرسول [ ص: 414 ] ولا عمل بذلك ولا هو خائف أن يعاقب ، بل هو في غفلة عن تفصيل ما جاء به الرسول مع أنه مقر بنبوته باطنا وظاهرا ، فكل ما عمل القلب بما أخبر به الرسول فصدقه ، وما أمر به فالتزمه كان ذلك زيادة في إيمانه على من لم يحصل له ذلك ، وإن كان معه إقرار عام ، والتزام ، وكذلك من عرف أسماء الله - تعالى - وصفاته وآياته كان إيمانه أكمل .

الثالث :

أن العلم والتصديق يكون بعضه أقوى من بعض وأثبت ، وأبعد عن الشك ، والريب وهذا أمر يشهده كل واحد من نفسه ، كما أن الحس الظاهر بالشيء الواحد مثل رؤية الناس للهلال ، وإن اشتركوا فيها فبعضهم تكون رؤيته أتم من بعض ، وكذلك سماع الصوت وشم الرائحة الواحدة وذوق النوع الواحد من الطعام ، فكذلك معرفة القلب وتصديقه يتفاضل أعظم من ذلك من وجوه متعددة للمعاني التي يؤمن بها من معاني أسماء الله - تعالى - وكلامه ، ويتفاضل الناس في معرفتها أعظم من تفاضلهم في معرفة غيرها .

الرابع :

أن التصديق المستلزم لعمل القلب أكمل من التصديق الذي لا يستلزم عمله ، فالعلم الذي يعمل به صاحبه أكمل من العلم الذي لا يعمل به ، وإذا كان شخصان يعلمان أن الله حق ، والرسول حق ، والجنة حق ، والنار حق ، وهذا عمله أوجب له محبة الله وخشيته ، والرغبة في الجنة ، والهرب من النار ، والآخر علمه لم يوجب له ذلك ، فعلم الأول أكمل ، فإن قوة المسبب تدل على قوة السبب ، وقد نشأت هذه الأمور عن العلم ، فالعلم بالمحبوب يستلزم طلبه ، والعلم بالمخوف يستلزم الهرب منه ، فإذا لم يحصل اللازم دل على ضعف الملزوم ; ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " ليس الخبر كالمعاينة " فإن موسى - عليه السلام - لما أخبره ربه أن قومه عبدوا العجل لم يلق الألواح فلما رآهم قد عبدوا ألقاها ، وليس ذلك لشك موسى في خبر [ ص: 415 ] الله ، لكن المخبر وإن جزم بصدق المخبر فقد لا يتصور المخبر به في نفسه كما يتصوره إذا عاينه ، بل قد يكون قلبه مشغولا عن تصور المخبر به ، وإن كان مصدقا به ، ومعلوم أنه عند المعاينة يحصل له من تصور المخبر به ما لم يكن عند الخبر فهذا التصديق أكمل من ذلك التصديق .

الخامس :

أن أعمال القلوب مثل محبة الله ورسوله وخشية الله - تعالى - ورجائه ونحو ذلك ، هي كلها من الإيمان كما دل على ذلك الكتاب ، والسنة واتفاق السلف ، وهذا يتفاضل الناس فيه تفاضلا ظاهرا .

السادس :

الأعمال الظاهرة مع الباطنة هي أيضا من الإيمان ، والناس يتفاضلون بها .

السابع :

ذكر الإنسان بقلبه ما أمر به واستحضاره بحيث لا يكون غافلا عنه أكمل ممن صدق به وغفل عنه ، فإن الغفلة تنقصه ، وكمال العلم والتصديق والذكر والاستحضار يكمل العلم واليقين ; ولهذا قال عمير بن حبيب - رضي الله عنه - : إذا ذكرنا الله وحمدناه وسبحناه فتلك زيادته ، وإذا غفلنا ونسينا وضيعنا فتلك نقصانه .

الثامن :

قد يكون الإنسان مكذبا ومنكرا لأمور لا يعلم أن الرسول أخبر بها وأمر بها ، ولو علم ذلك لم يكذب ولم ينكر بل قلبه جازم بأنه لا يخبر إلا بصدق ، ولا يأمر إلا بحق ، ثم يسمع الآية ، والحديث ، أو يتدبر ذلك ، أو يفسر له معناه ، أو يظهر له ذلك بوجه من الوجوه فيصدق بما كان مكذبا به ، ويعرف ما كان منكرا له ، وهذا تصديق جديد وإيمان جديد ازداد به إيمانه ولم يكن قبل ذلك كافرا بل جاهلا ، وهذا وإن أشبه المجمل والمفصل لكن صاحب المجمل قد يكون قلبه سليما عن تكذيب وتصديق شيء من [ ص: 416 ] التفاصيل وعن معرفة وإنكار شيء من ذلك ، فيأتيه التفصيل بعد الإجمال على قلب ساذج ، وأما كثير من الناس بل من أهل العلم ، والعبادة فيقوم بقلوبهم من التفصيل أمور كثيرة تخالف ما جاء به الرسول ، وهم لا يعرفون أنها تخالف ، فإذا عرفوا رجعوا ، وكل من ابتدع في الدين قولا أخطأ فيه وهو مؤمن بالرسول ، أو عمل عملا أخطأ فيه وهو مؤمن بالرسول ، لو عرف ما قاله وآمن به لم يعدل عنه هو من هذا الباب ، وكل مبتدع قصده متابعة الرسول فهو من هذا الباب ، فمن علم ما جاء به الرسول وعمل به أكمل ممن أخطأ ذلك ، ومن علم الصواب بعد الخطأ وعمل به فهو أكمل ممن لم يكن كذلك .

التالي السابق


الخدمات العلمية