الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 230 ] باب الحج عن الغير

ولا يجوز إلا عن الميت أو عن العاجز بنفسه عجزا مستمرا إلى الموت ، ومن حج عن غيره ينوي الحج عنه .

ويقول : لبيك بحجة عن فلان ، ويجوز حج الصرورة والمرأة والعبد ، ودم المتعة والقران والجنايات على المأمور ، ودم الإحصار على الآمر ، وإن جامع قبل الوقوف ضمن النفقة وعليه الدم ، وما فضل من النفقة يرده إلى الوصي أو الورثة أو الآمر ، ومن أوصى أن يحج عنه فهو على الوسط وهو ركوب الزاملة ، ويحجون عن الميت من منزله ، فإن لم تبلغ النفقة فمن حيث تبلغ .

[ ص: 230 ]

التالي السابق


[ ص: 230 ] باب الحج عن الغير

الأصل فيه حديث الخثعمية ، وهو ما روي أن امرأة من خثعم جاءت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت : يا رسول الله ، إن فريضة الحج أدركت أبي شيخا كبيرا لا يستطيع أن يستمسك على الراحلة أفيجزيني أن أحج عنه ؟ فقال - عليه الصلاة والسلام - : " أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيتيه أما كان يقبل منك ؟ " قالت : نعم ، قال : " فالله أحق أن يقبل " فدل ذلك على جواز الحج عن الغير عند العجز ، وأنه يقع عن المحجوج عنه .

قال : ( ولا يجوز إلا عن الميت ، أو عن العاجز بنفسه عجزا مستمرا إلى الموت ) ولا يجوز عن القادر ؛ لأن الحج عبادة بدنية وجبت للابتلاء ، فلا تجري فيها النيابة ؛ لأن الابتلاء بإتعاب البدن وتحمل المشقة ، فيقع الفعل عن الفاعل إلا أنه يسقط الحج عن الآمر فيما ذكرنا ؛ لأنه سبب لحصول الحج بالاتفاق ، فأقام الشرع السبب مقام المباشرة في حق المأيوس نظرا له كالفدية في باب الصوم في حق الشيخ الفاني ، ويشترط دوام العجز إلى الموت كالفدية أيضا ؛ لأنه متى قدر وجب عليه بنفسه . وعن محمد : يقع عن الحاج لأنها عبادة بدنية ، وللآمر ثواب النفقة . وقال في المحيط : يسقط عن الآمر حجه ويقع عن المأمور تطوعا ، والمذهب المعتمد عليه وقوعه عن المحجوج عنه لما روينا .

قال : ( ومن حج عن غيره ينوي الحج عنه ) لأن الأعمال بالنيات ، والأصل أن كل عامل يعمل لنفسه ، فلا بد من النية لامتثال الأمر ، ولأنه عبادة تجري فيها النيابة وهي غير موقتة ، فجاز أن تقع عن غير من وجب عليه فينوي عنه ليقع عن الآمر .

( ويقول : لبيك بحجة عن فلان ) ولو لم ينو جاز لأنه تعالى مطلع على السرائر .

قال : ( ويجوز حج الصرورة والمرأة والعبد ) لوجود أفعال الحج والنية عن الآمر كغيرهم ، والصرورة : الذي لم يحج عن نفسه ، والنبي - عليه الصلاة والسلام - جوز حج الخثعمية عن أبيها من غير أن يسألها هل حجت عن نفسها أم لا ، ولو كان لسأله تعليما وبيانا ; والأولى أن يختار رجلا حرا عاقلا بالغا قد حج ، عالما بطريق الحج وأفعاله ، ليقع حجه على أكمل الوجوه ويخرج به عن الخلاف .

قال : ( ودم المتعة والقران والجنايات على المأمور ) أما دم المتعة والقران فلأنه وجب شكرا حيث وفق لأداء النسكين ، وهو الذي حصلت له هذه النعمة ; وأما دم الجنايات فلأنه هو الجاني .

[ ص: 231 ] ( ودم الإحصار على الآمر ) لأنه هو الذي ورطه فيه فيجب عليه خلاصه منه ، وإن حج عن ميت ففي مال الميت . ويعتبر من جميع المال لأنه يجب عليه خلاصه فصار دينا عليه . وعن أبي يوسف أنه على الحاج لأنه وجب ليتحلل فيخلص عن ضرر امتداد الإحرام . وجوابه ما ذكرنا من أنه هو الذي أوقعه فيه .

قال : ( وإن جامع قبل الوقوف ضمن النفقة ) لأنه مأمور بالحج الصحيح ، وهذا فاسد فقد خالف الأمر .

( وعليه الدم ) لأن الجماع فعله ، وإن فاته الحج لمرض أو حبس أو هرب المكاري أو ماتت الدابة ، فله أن ينفق من مال الميت حتى يرجع إلى أهله . وعن محمد في نوادر ابن سماعة أن له نفقة ذهابه دون إيابه .

وفي قاضيخان : لو قطع الطريق على المأمور وقد أنفق بعض المال فمضى في الحج وأنفق من مال نفسه وقع الحج عن نفسه ، وإن بقي في يده شيء من مال الميت فأنفق منه وقع عن الميت ، وإن رجع وأنفق على نفسه من مال الميت لم يضمن إذا رجع الناس .

قال : ( وما فضل من النفقة يرده إلى الوصي أو الورثة أو الآمر ) لأنه لم يملكه ذلك وإنما أعطاه ليقضي الحج فما فضل يرده إلى مالكه ، ولأنه لم يستأجره على ذلك ليملك الأجرة لأنه لا يصح الإجارة عليه ، وسيأتيك في الإجارات إن شاء الله تعالى .

قال : ( ومن أوصى أن يحج عنه فهو على الوسط وهو ركوب الزاملة ) لأنه أعدل الأمور ; ومن مات وعليه حجة الإسلام ولم يوص لا يجب على الوارث أن يحج عنه ؛ لأن الحج عبادة فلا تتأدى إلا بنفسه حقيقة أو حكما بالاستخلاف ، وقضية هذا أنه لا يسقط عنه لو حج عنه غيره بغير أمره ، إلا أنا قلنا : لو حج الوارث عنه أو أحج سقط عنه استحسانا لحديث الخثعمية . ولما روي أن رجلا قال : يا رسول الله ، إن أمي ماتت ولم تحج أفأحج عنها ؟ قال : " نعم " .

[ ص: 232 ] قال : ( ويحجون عن الميت من منزله ) لأنه المتعارف ، وكما لو كان حيا فحج ، وكذلك إذا مات في طريق الحج فأوصى . وقالا : يحج عنه من حيث مات ، وكذلك لو مات المأمور يحج عنه من منزله وعندهما حيث بلغ . لهما أن خروجه من بلده معتد به غير ساقط بالاعتبار ، قال تعالى : ( ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله ) " وقال - عليه الصلاة والسلام - : ( من مات في طريق الحج كتبت له حجة مبرورة في كل سنة " ولأبي حنيفة قوله - عليه الصلاة والسلام - : " وإذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث " الحديث ، ولأن الحج لما لم يتصل بالخروج لم يبق وسيلة إليه فلا يعتد به عن حجته ، وإن حصل الثواب بوعد الله ورسوله .

( فإن لم تبلغ النفقة فمن حيث تبلغ ) استحسانا ؛ لأن قصده سقوط الفرض ، فإذا لم يمكن على الكمال فبقدر الإمكان ، وإذا بلغت الوصية أن يحج راكبا فليس لهم أن يحجوا مشاة ، وإن بلغت ماشيا من بلده وراكبا من الطريق قال محمد : يحج راكبا من حيث تبلغ ؛ لأن الله تعالى إنما أوجب الحج راكبا . وروى الحسن عن أبي حنيفة : أيهما شاء فعل ؛ لأن في كل واحد منهما قصورا من وجه فيتخير ، فإن رجع المأمور وقال : منعت ، وقد أنفق في رجوعه من مال الميت وكذبه الورثة أو الوصي ضمن ، إلا أن يشهد له الظاهر بأن يكون مشهورا ، وإن ادعى الحج وكذباه فالقول قوله ، وإن أقاما البينة أنه كان يوم النحر بالكوفة لم تقبل ، فإن قامت على إقراره أنه لم يحج قبلت وإن كان للميت غريم فأمر أن يحج عن الميت بماله عليه ، فادعى أنه حج لم تقبل إلا ببينة .




الخدمات العلمية