الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في تأويل قوله ( وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين ( 83 ) )

قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : وإذا سمع هؤلاء الذين قالوا : "إنا نصارى " الذين وصفت لك ، يا محمد ، صفتهم أنك تجدهم أقرب الناس مودة للذين آمنوا ما أنزل إليك من الكتاب يتلى"ترى أعينهم تفيض من الدمع" .

[ ص: 507 ] و"فيض العين من الدمع " ، امتلاؤها منه ، ثم سيلانه منها ، كفيض النهر من الماء ، وفيض الإناء ، وذلك سيلانه عن شدة امتلائه ، ومنه قول الأعشى :


ففاضت دموعي ، فظل الشئون : إما وكيفا ، وإما انحدارا



وقوله : "مما عرفوا من الحق " ، يقول : فيض دموعهم ، لمعرفتهم بأن الذي يتلى عليهم من كتاب الله الذي أنزله إلى رسول الله حق ، كما : -

12325 - حدثنا هناد بن السري قال ، حدثنا يونس بن بكير قال ، حدثنا أسباط بن نصر الهمداني ، عن إسماعيل بن عبد الرحمن السدي قال : بعث النجاشي إلى النبي صلى الله عليه وسلم اثنى عشر رجلا يسألونه ويأتونه بخبره ، فقرأ عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن ، فبكوا . وكان منهم سبعة رهبان وخمسة [ ص: 508 ] قسيسين أو : خمسة رهبان ، وسبعة قسيسين فأنزل الله فيهم : " وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع " ، إلى آخر الآية .

12326 - حدثنا عمرو بن علي قال ، حدثنا عمر بن علي بن مقدم قال ، سمعت هشام بن عروة يحدث ، عن أبيه ، عن عبد الله بن الزبير قال : نزلت في النجاشي وأصحابه : " وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع " .

12327 - حدثنا هناد قال ، حدثنا عبدة بن سليمان ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه في قوله : " ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق " ، قال : ذلك في النجاشي .

12328 - حدثنا هناد وابن وكيع قالا : حدثنا أبو معاوية ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه قال : كانوا يرون أن هذه الآية أنزلت في النجاشي : " وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع " .

12329 - حدثنا هناد قال ، حدثنا يونس بن بكير قال ، قال ابن إسحاق : سألت الزهري عن الآيات : " ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع " الآية ، وقوله : ( وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما ) [ سورة الفرقان : 63 ] . قال : ما زلت أسمع علماءنا يقولون : نزلت في النجاشي وأصحابه . [ ص: 509 ]

وأما قوله : "يقولون " ، فإنه لو كان بلفظ اسم ، كان نصبا على الحال ، لأن معنى الكلام : وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق ، قائلين : "ربنا آمنا" .

ويعني بقوله تعالى ذكره : "يقولون ربنا آمنا " ، أنهم يقولون : يا ربنا ، صدقنا لما سمعنا ما أنزلته إلى نبيك محمد صلى الله عليه وسلم من كتابك ، وأقررنا به أنه من عندك ، وأنه الحق لا شك فيه .

وأما قوله : "فاكتبنا مع الشاهدين " ، فإنه روي عن ابن عباس وغيره في تأويله ، ما : -

12330 - حدثنا به هناد قال ، حدثنا وكيع وحدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي وابن نمير جميعا ، عن إسرائيل ، عن سماك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس في قوله : " اكتبنا مع

الشاهدين " ، قال : أمة محمد صلى الله عليه وسلم .

12331 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج : "فاكتبنا مع الشاهدين " ، مع أمة محمد صلى الله عليه وسلم .

12332 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : "فاكتبنا مع الشاهدين " ، يعنون ب"الشاهدين " ، محمدا صلى الله عليه وسلم وأمته .

12333 - حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا إسرائيل ، عن سماك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس في قوله : " فاكتبنا مع الشاهدين " ، قال : محمد صلى الله عليه وسلم وأمته ، إنهم شهدوا أنه قد بلغ ، وشهدوا أن الرسل قد بلغت .

[ ص: 510 ] 12334 - حدثنا الربيع قال ، حدثنا أسد بن موسى قال ، حدثنا يحيى بن زكريا قال ، حدثني إسرائيل ، عن سماك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، مثل حديث الحارث بن عبد العزيز غير أنه قال : وشهدوا للرسل أنهم قد بلغوا .

قال أبو جعفر : فكأن متأول هذا التأويل ، قصد بتأويله هذا إلى معنى قول الله تعالى ذكره : ( وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا ) [ سورة البقرة : 143 ] . فذهب ابن عباس إلى أن "الشاهدين " ، هم"الشهداء " في قوله : " لتكونوا شهداء على الناس " ، وهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم .

وإذا كان التأويل ذلك ، كان معنى الكلام : " يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين " ، الذين يشهدون لأنبيائك يوم القيامة ، أنهم قد بلغوا أممهم رسالاتك .

ولو قال قائل : معنى ذلك : " فاكتبنا مع الشاهدين " ، الذين يشهدون أن ما أنزلته إلى رسولك من الكتب حق كان صوابا . لأن ذلك خاتمة قوله : " وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين " ، وذلك صفة من الله تعالى ذكره لهم بإيمانهم لما سمعوا من كتاب الله ، فتكون مسألتهم أيضا الله أن يجعلهم ممن صحت عنده [ ص: 511 ] شهادتهم بذلك ، ويلحقهم في الثواب والجزاء منازلهم .

ومعنى"الكتاب ، " في هذا الموضع : الجعل .

يقول : فاجعلنا مع الشاهدين ، وأثبتنا معهم في عدادهم .

التالي السابق


الخدمات العلمية