الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما وسخرنا مع داود الجبال يسبحن والطير وكنا فاعلين وعلمناه صنعة لبوس لكم لتحصنكم من بأسكم فهل أنتم شاكرون ولسليمان الريح عاصفة تجري بأمره إلى الأرض التي باركنا فيها وكنا بكل شيء عالمين ومن الشياطين من يغوصون له ويعملون عملا دون ذلك وكنا لهم حافظين .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى : " وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث " وفيه قولان : [ ص: 371 ]

                                                                                                                                                                                                                                      أحدهما : أنه كان عنبا ، قاله ابن مسعود ، ومسروق ، وشريح .

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني : كان زرعا ، قاله قتادة .

                                                                                                                                                                                                                                      " إذ نفشت فيه غنم القوم " قال ابن قتيبة ; أي : رعت ليلا ، يقال : نفشت الغنم بالليل ، وهي إبل نفش ونفاش ونفاش ، والواحد نافش ، وسرحت وسربت بالنهار . قال قتادة : النفش بالليل ، والهمل بالنهار . وقال ابن السكيت : النفش : أن تنتشر الغنم بالليل ترعى بلا راع .

                                                                                                                                                                                                                                      الإشارة إلى القصة

                                                                                                                                                                                                                                      ذكر أهل التفسير أن رجلين كانا على عهد داود عليه السلام ، أحدهما صاحب حرث ، والآخر صاحب غنم ، فتفلتت الغنم فوقعت في الحرث ، فلم تبق منه شيئا ، فاختصما إلى داود ، فقال لصاحب الحرث : لك رقاب الغنم ، فقال سليمان : أوغير ذلك ؟ قال : ما هو ؟ قال : ينطلق أصحاب الحرث بالغنم فيصيبون من ألبانها ومنافعها ، ويقبل أصحاب الغنم على الكرم ، حتى إذا كان كليلة نفشت فيه الغنم ، دفع هؤلاء إلى هؤلاء غنمهم ، ودفع هؤلاء إلى هؤلاء كرمهم ، فقال داود : قد أصبت القضاء ، ثم حكم بذلك ، فذلك قوله : " وكنا لحكمهم شاهدين " ، وفي المشار إليهم قولان :

                                                                                                                                                                                                                                      أحدهما : داود وسليمان ، فذكرهما بلفظ الجمع ; لأن الاثنين جمع ، هذا قول الفراء .

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني : أنهم داود وسليمان والخصوم ، قاله أبو سليمان الدمشقي . وقرأ ابن مسعود ، وابن عباس ، وابن أبي عبلة : " وكنا لحكمهما " على التثنية . ومعنى [ ص: 372 ] " شاهدين " : أنه لم يغب عنا من أمرهم شيء . " ففهمناها سليمان " يعني : القضية والحكومة . وإنما كني عنها ; لأنه قد سبق ما يدل عليها من ذكر الحكم ، " وكلا " منهما " آتينا حكما " وقد سبق بيانه . قال الحسن : لولا هذه الآية لرأيت أن القضاة قد هلكوا ، ولكنه أثنى على سليمان لصوابه ، وعذر داود باجتهاده .

                                                                                                                                                                                                                                      فصل

                                                                                                                                                                                                                                      قال أبو سليمان الدمشقي : كان قضاء داود وسليمان جميعا من طريق الاجتهاد ، ولم يكن نصا ; إذ لو كان نصا ما اختلفا . قال القاضي أبو يعلى : وقد اختلف الناس في الغنم إذا نفشت ليلا في زرع رجل فأفسدته ، فمذهب أصحابنا أن عليه الضمان ، وهو قول الشافعي ، وقال أبو حنيفة وأصحابه : لا ضمان عليه ليلا ونهارا ، إلا أن يكون صاحبها هو الذي أرسلها ، فظاهر الآية يدل على قول أصحابنا ; لأن داود حكم بالضمان ، وشرع من قبلنا شرع لنا ما لم يثبت نسخه . فإن قيل : فقد ثبت نسخ هذا الحكم ; لأن داود حكم بدفع الغنم إلى صاحب الحرث ، وحكم سليمان له بأولادها وأصوافها ، ولا خلاف أنه لا يجب على من نفشت غنمه في حرث رجل شيء من ذلك . قيل : الآية تضمنت أحكاما ؛ منها : وجوب الضمان وكيفيته ، فالنسخ حصل على كيفيته ، ولم يحصل على أصله ، فوجب التعلق به . وقد روى حرام بن محيصة عن أبيه : أن ناقة للبراء دخلت حائط رجل فأفسدت ، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهل الأموال حفظها بالنهار ، وعلى أهل المواشي حفظها بالليل . [ ص: 373 ]

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى : " وسخرنا مع داود الجبال يسبحن " تقدير الكلام : وسخرنا الجبال يسبحن مع داود . قال أبو هريرة : كان إذا سبح أجابته الجبال والطير بالتسبيح والذكر . وقال غيره : كان إذا وجد فترة ، أمر الجبال فسبحت حتى يشتاق هو فيسبح .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى : " وكنا فاعلين " ; أي : لذلك . قال الزجاج : المعنى : وكنا نقدر على ما نريده .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى : " وعلمناه صنعة لبوس لكم " في المراد باللبوس قولان :

                                                                                                                                                                                                                                      أحدهما : الدروع ، وكانت قبل ذلك صفائح ، وكان داود أول من صنع هذه الحلق وسرد ، قاله قتادة .

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني : أن اللبوس : السلاح كله من درع إلى رمح ، قاله أبو عبيدة . وقرأ أبو المتوكل وابن السميفع : " لبوس " بضم اللام .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى : " لتحصنكم " قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وحمزة ، والكسائي : ( ليحصنكم ) بالياء . وقرأ ابن عامر وحفص عن عاصم : ( لتحصنكم ) بالتاء . وروى أبو بكر عن عاصم : ( لنحصنكم ) بالنون خفيفة . وقرأ أبو الدرداء ، وأبو عمران الجوني ، وأبو حيوة : ( لتحصنكم ) بتاء مرفوعة وفتح الحاء وتشديد الصاد . وقرأ ابن مسعود ، وأبو الجوزاء ، وحميد بن قيس : ( لتحصنكم ) بتاء مفتوحة مع فتح الحاء وتشديد الصاد مع ضمها . وقرأ أبو رزين العقيلي ، وأبو المتوكل ، ومجاهد : ( لنحصنكم ) بنون مرفوعة وفتح الحاء وكسر الصاد مع تشديدها . وقرأ معاذ القارئ ، وعكرمة ، وابن يعمر ، وعاصم الجحدري ، وابن السميفع : ( ليحصنكم ) بياء مرفوعة وسكون الحاء وكسر الصاد مشددة النون . [ ص: 374 ]

                                                                                                                                                                                                                                      فمن قرأ بالياء ، ففيه أربعة أوجه ; قال أبو علي الفارسي : أن يكون الفاعل اسم الله لتقدم معناه ، ويجوز أن يكون اللباس ; لأن اللبوس بمعنى اللباس من حيث كان ضربا منه ، ويجوز أن يكون داود ، ويجوز أن يكون التعليم ، وقد دل عليه " علمناه " .

                                                                                                                                                                                                                                      ومن قرأ بالتاء حمله على المعنى ; لأنه الدرع .

                                                                                                                                                                                                                                      ومن قرأ بالنون فلتقدم قوله : " وعلمناه " .

                                                                                                                                                                                                                                      ومعنى " لتحصنكم " : لتحرزكم وتمنعكم ، " من بأسكم " يعني : الحرب .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى : " ولسليمان الريح " وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي ، وأبو عمران الجوني ، وأبو حيوة الحضرمي : ( الرياح ) بألف مع رفع الحاء . وقرأ الحسن ، وأبو المتوكل ، وأبو الجوزاء بالألف ونصب الحاء ، والمعنى : وسخرنا لسليمان الريح ، " عاصفة " ; أي : شديدة الهبوب ، " تجري بأمره " يعني : بأمر سليمان ، " إلى الأرض التي باركنا فيها " وهي أرض الشام ، وقد مر بيان بركتها في هذه السورة [ الأنبياء : 72 ] ، والمعنى : أنها كانت تسير به إلى حيث شاء ، ثم تعود به إلى منزله بالشام .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى : " وكنا بكل شيء عالمين " علمنا أن ما نعطي سليمان يدعوه إلى الخضوع لربه .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى : " ومن الشياطين من يغوصون له " قال أبو عبيدة : " من " تقع على الواحد والاثنين والجمع ، من المذكر والمؤنث . قال المفسرون : كانوا يغوصون في البحر فيستخرجون الجواهر ، " ويعملون عملا دون ذلك " قال الزجاج : معناه : سوى ذلك . " وكنا لهم حافظين " أن يفسدوا ما عملوا . وقال غيره : أن يخرجوا عن أمره .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية