الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 82 ] سورة الأعلى قال الشيخ رحمه الله فصل قال ابن فورك في كتابه الذي كتبه إلى أبي إسحاق الإسفراييني يحكي ما جرى له قال : وجرى في كلام السلطان : أليس تقول : إنه يرى لا في جهة ؟ فقلت : " نعم يرى لا في جهة كما أنه لم يزل يرى نفسه لا في جهة ولا من جهة ويراه غيره على ما يرى ورأى نفسه والجهة ليست بشرط في الرؤية . وقلت أيضا : " المرئيات المعقولة فيما بيننا هكذا نراها في جهة ومحل . والقضاء بمجرد المعهود لا يمكن دون السير والبحث لأنا كما لا نرى إلا في جهة ومحل كذلك لم نر إلا متلونا ذا قدر وحجم يحتمل المساحة والثقل ولا يخلو من [ ص: 83 ] حرارة ورطوبة أو يبوسة إذا لم يكن عرضا لا يقبل التثنية والتأليف وغير ذلك . ومع هذا فلا عبرة بشيء من هذا " .

                قال : ثم بلغني أن السلطان ذلك اليوم والليلة وثاني يوم يكرر على نفسه في مجلسه : " كيف يعقل شيء لا في جهة ؟ " . وما شغل القلب في أول الأمر وتربى عليه فإن قلعه صعب والله المعين . غير أنه فرحت الكرامية بما كان منه في ذلك . فلما رجعت إلى البيت فإذا أنا برقعة فيها مكتوب : " الأستاذ أدام الله سلامته على مذهبه إن الباري ليس في جهة فكيف يرى لا في جهة ؟ " فكتبت : " خبر الرؤية صحيح وهي واجبة كما بشرهم النبي صلى الله عليه وسلم وفيه دلالة على أن الله يرى لا في جهة لأنه صلى الله عليه وسلم قال { لا تضامون في رؤيته } ومعناه : لا تضمكم جهة واحدة في رؤيته فإنه لا في جهة " وكلاما طويلا من كل وجه ملأت ظهر الرقعة وبطنها منه .

                فلما ردت إليه أنفذها إلى حاكم البلد وهو أبو محمد الناصحي واستفتاه فيما قلته . فجمع قوما من الحنفية والكرامية فكتب هو أعزك الله بأن من قال بأن الله لا يرى في جهة مبتدع ضال وكتب أبو حامد المعتزلي مثله وكتب إنسان بسطامي مؤدب في دار [ ص: 84 ] صاحب الجيش مثله فردوا عليه . فأنفذ إلي ما في ذلك المحضر الذي فيه خطوطهم وكتب إلي رقعة وقال فيها : " إنهم كتبوا هكذا فما تقول في هذه الفتاوى ؟ " فقلت : إن هؤلاء القوم يجب أن يسألوا عن مسائل الفقه التي يقال فيها بتقليد العامي للعالم . فأما معرفة الأصول والفتاوى فيها فليس من شأنهم وهم يقولون : إنا لا نحسن ذلك .

                ( قلت : قول هؤلاء : " إن الله يرى من غير معاينة ومواجهة " قول انفردوا به دون سائر طوائف الأمة وجمهور العقلاء على أن فساد هذا معلوم بالضرورة .

                والأخبار المتواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم ترد عليهم كقوله في الأحاديث الصحيحة : { إنكم سترون ربكم كما ترون الشمس والقمر لا تضارون في رؤيته } { وقوله لما سأله الناس : هل نرى ربنا يوم القيامة ؟ قال : هل ترون الشمس صحوا ليس دونها سحاب ؟ . قالوا : نعم . وهل ترون القمر صحوا ليس دونه سحاب ؟ قالوا نعم . قال : فإنكم ترون ربكم كما ترون الشمس والقمر } .

                فشبه الرؤية بالرؤية ولم يشبه المرئي بالمرئي ; فإن الكاف - حرف [ ص: 85 ] التشبيه - دخل على الرؤية . وفي لفظ للبخاري { يرونه عيانا } . ومعلوم أنا نرى الشمس والقمر عيانا مواجهة فيجب أن نراه كذلك . وأما رؤية ما لا نعاين ولا نواجهه فهذه غير متصورة في العقل فضلا عن أن تكون كرؤية الشمس والقمر .

                ولهذا صار حذاقهم إلى إنكار الرؤية وقالوا : قولنا هو قول المعتزلة في الباطن ; فإنهم فسروا الرؤية بزيادة انكشاف ونحو ذلك مما لا ننازع فيه المعتزلة .

                وأما قوله : إن الخبر يدل على أنهم يرونه لا في جهة وقوله : " لا تضامون " معناه لا تضمكم جهة واحدة في رؤيته فإنه لا في جهة فهذا تفسير للحديث بما لا يدل عليه ولا قاله أحد من أئمة العلم ; بل هو تفسير منكر عقلا وشرعا ولغة .

                فإن قوله " لا تضامون " يروى بالتخفيف . أي : لا يلحقكم ضيم في رؤيته كما يلحق الناس عند رؤية الشيء الحسن كالهلال فإنه قد يلحقهم ضيم في طلب رؤيته حين يرى ; وهو سبحانه يتجلى تجليا ظاهرا فيرونه كما ترى الشمس والقمر بلا ضيم يلحقكم في رؤيته . وهذه الرواية المشهورة .

                وقيل " لا تضامون " بالتشديد أي : لا ينضم بعضكم إلى بعض [ ص: 86 ] كما يتضام الناس عند رؤية الشيء الخفي كالهلال . وكذلك " تضارون " و " تضارون " .

                فإما أن يروى بالتشديد ويقال : " لا تضامون " أي لا تضمكم جهة واحدة فهذا باطل لأن التضام انضمام بعضهم إلى بعض . فهو " تفاعل " كالتماس والتراد ونحو ذلك . وقد يروى " لا تضامون " بالضم والتشديد أي لا يضام بعضكم بعضا .

                وبكل حال فهو من " التضام " الذي هو مضامة بعضهم بعضا ليس هو أن شيئا آخر لا يضمكم فإن هذا المعنى لا يقال فيه " لا تضامون " فإنه لم يقل " لا يضمكم شيء " ثم يقال : الراءون كلهم في جهة واحدة على الأرض . وإن قدر أن المرئي ليس في جهة فكيف يجوز أن يقال : " لا تضمكم جهة واحدة " وهم كلهم على الأرض أرض القيامة أو في الجنة وكل ذلك جهة ووجودهم نفسهم لا في جهة ومكان ممتنع حسا وعقلا .

                وأما قوله : " هو يرى لا في جهة فكذلك يراه غيره فهذا تمثيل باطل . فإن الإنسان [ يمكن أن يرى ] بدنه ولا يمكن أن يرى غيره إلا أن يكون بجهة منه وهو أن يكون أمامه سواء كان عاليا أو سافلا .

                [ ص: 87 ] وقد تخرق له العادة فيرى من خلفه . كما قال النبي صلى الله عليه وسلم { إني لأراكم من بعدي } وفي رواية { من بعد ظهري } وفي لفظ للبخاري { إني لأراكم من ورائي } وفي لفظ في الصحيحين { إني والله لأبصر من ورائي كما أبصر من بين يدي } . لكن هم بجهة منه وهم خلفه . فكيف تقاس رؤية الرائي لغيره على رؤيته لنفسه ؟ ثم تشبيه رؤيته هو برؤيتنا نحن تشبيه باطل . فإن بصره يحيط بما رآه بخلاف أبصارنا .

                وهؤلاء القوم أثبتوا ما لا يمكن رؤيته وأحبوا نصر مذهب أهل السنة والجماعة والحديث فجمعوا بين أمرين متناقضين . فإن ما لا يكون داخل العالم ولا خارجه ولا يشار إليه يمتنع أن يرى بالعين لو كان وجوده في الخارج ممكنا فكيف وهو ممتنع ؟ وإنما يقدر في الأذهان من غير أن يكون له وجود في الأعيان فهو من باب الوهم والخيال الباطل .

                ولهذا فسروا " الإدراك " بالرؤية في قوله : { لا تدركه الأبصار } كما فسرتها المعتزلة . لكن عند المعتزلة هذا خرج مخرج المدح فلا يرى بحال وهؤلاء قالوا : لا يرى في الدنيا دون الآخرة .

                والآية تنفي الإدراك مطلقا [ دون الرؤية كما قال ] ابن كلاب [ ص: 88 ] وهذا أصح . وحينئذ فتكون الآية دالة على إثبات الرؤية وهو أنه يرى ولا يدرك فيرى من غير إحاطة ولا حصر . وبهذا يحصل المدح فإنه وصف لعظمته أنه لا تدركه أبصار العباد وإن رأته وهو يدرك أبصارهم . قال ابن عباس وعكرمة بحضرته لمن عارض بهذه الآية : " ألست ترى السماء ؟ " . قال : " بلى " قال : " أفكلها ترى ؟ " وكذلك قال : { ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء } وهؤلاء يقولون : علمه شيء واحد لا يمكن أن يحاط بشيء منه دون شيء فقالوا : ولا يحيطون بشيء من معلومه . وليس الأمر كذلك بل نفس العلم جنس يحيطون منه بما شاء وسائره لا يحيطون به .

                وقال : { يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علما } والراجح من القولين أن الضمير عائد إلى { ما بين أيديهم وما خلفهم } وإذا لم يحيطوا بهذا علما وهو بعض مخلوقات الرب فأن لا يحيطوا علما بالخالق أولى وأحرى . قال تعالى : { وما يعلم جنود ربك إلا هو } وقال : { ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله جاءتهم رسلهم بالبينات فردوا أيديهم في أفواههم } - الآية فإذا قيل { لا تدركه الأبصار } . أي لا تحيط به دل على أنه [ ص: 89 ] يوصف بنفي الإحاطة به مع إثبات الرؤية . وهذا ممتنع على قول هؤلاء فإن هذا إنما يكون بزعمهم فيما ينقسم فيرى بعضه من بعض . فتكون هناك رؤية بلا إدراك وإحاطة وعندهم لا يتصور أن يرى إلا رؤية واحدة متماثلة كما يقولونه في كلامه : إنه شيء واحد لا يتبعض ولا يتعدد . وفي الإيمان به . إنه شيء واحد لا يقبل الزيادة والنقصان .

                وأما الإدراك والإحاطة الزائد على مطلق الرؤية فليس انتفاؤه لعظمة الرب عندهم بل لأن ذاته لا تقبل ذاك كما قالت المعتزلة : إنها لا تقبل الرؤية .

                وأيضا فهم والمعتزلة لا يريدون أن يجعلوا للأبصار إدراكا غير الرؤية . سواء أثبتت الرؤية أو نفيت . فإن هذا يبطل قول المعتزلة بنفي الرؤية ويبطل قول هؤلاء بإثبات رؤية بلا معاينة ومواجهة .

                فصل هذا مع أن ابن فورك هو ممن يثبت الصفات الخبرية كالوجه واليدين وكذلك المجيء والإتيان . موافقة لأبي الحسن فإن هذا قوله وقول متقدمي أصحابه .

                [ ص: 90 ] فقال ابن فورك فيما صنف في أصول الدين : فإن سألت الجهمية عن الدلالة على أن القديم سميع بصير قيل لهم : قد اتفقنا على أنه حي تستحيل عليه الآفات والحي إذا لم يكن مأووفا بآفات تمنعه من إدراك المسموعات والمبصرات كان سميعا بصيرا .

                وإن سألت فقلت : " أين هو ؟ " فجوابنا " إنه في السماء " كما أخبر في التنزيل عن نفسه بذلك فقال عز من قائل { أأمنتم من في السماء } وإشارة المسلمين بأيديهم عند الدعاء في رفعها إليه . وأنك لو سألت صغيرهم وكبيرهم فقلت : " أين الله ؟ " لقالوا : " إنه في السماء " ولم ينكروا لفظ السؤال بـ " أين " . { لأن النبي صلى الله عليه وسلم سأل الجارية التي عرضت للعتق فقال أين الله ؟ فقالت في السماء مشيرة بها . فقال النبي صلى الله عليه وسلم أعتقها فإنها مؤمنة } ولو كان ذلك قولا منكرا لم يحكم بإيمانها ولأنكره عليها . ومعنى ذلك أنه فوق السماء لأن " في " بمعنى فوق . قال الله تعالى { فسيحوا في الأرض } أي فوقها .

                قال : وإن سألت " كيف هو ؟ " قلنا له : " كيف " سؤال عن صفته . وهو ذو الصفات العلى هو العالم الذي له العلم والقادر [ ص: 91 ] الذي له القدرة والحي الذي له الحياة الذي لم يزل منفردا بهذه الصفات لا يشبه شيئا ولا يشبهه شيء .

                ( قلت : فهذا الكلام هو موافق لما ذكره الأشعري في كتاب " الإبانة " ولما ذكره ابن كلاب كما حكاه عنه ابن فورك . لكن ابن كلاب يقول : إن العلو والمباينة من الصفات العقلية . وأما هؤلاء فيقولون : كونه في السماء صفة خبرية كالمجيء والإتيان ويطلقون القول بأنه بذاته فوق العرش وذلك صفة ذاتية عندهم .

                والأشعري يبطل تأويل من تأول الاستواء بمعنى الاستيلاء والقهر بأنه لم يزل مستوليا على العرش وعلى كل شيء والاستواء مختص بالعرش . فلو كان بمعنى الاستيلاء لجاز أن يقال : " هو مستو على كل شيء وعلى الأرض وغيرها " كما يقال " إنه مستول عليها " ولما اتفق المسلمون على أن الاستواء مختص بالعرش . فهذا الاستواء الخاص ليس بمعنى الاستيلاء العام . وأين للسلطان جعل الاستواء بمعنى القهر والغلبة وهو الاستيلاء ؟ .

                فيشبه والله أعلم أن يكون اجتهاده مختلفا في هذه المسائل كما اختلف اجتهاد غيره . فأبو المعالي كان يقول بالتأويل ثم حرمه وحكى إجماع السلف على تحريمه . وابن عقيل له أقوال مختلفة وكذلك [ ص: 92 ] لأبي حامد والرازي وغيرهم .

                ومما يبين اختلاف كلام ابن فورك أنه في مصنف آخر قال ; فإن قال قائل : " أين هو ؟ " قيل : ليس بذي كيفية فنخبر عنها إلا أن يقول " كيف صنعه ؟ " فمن صنعه أنه يعز من يشاء ويذل من يشاء وهو الصانع للأشياء كلها .

                فهنا أبطل السؤال عن الكيفية وهناك جوزه وقال ; الكيفية هي الصفة وهو ذو الصفات وكذلك السؤال عن الماهية قال في ذلك المصنف : وإن سألت الجهمية فقالت " ما هو ؟ " يقال لهم : " ما " يكون استفهاما عن جنس أو صفة في ذات المستفهم . فإن أردت بذلك سؤالا عن صفته فهو العلم والقدرة والكلام والعزة والعظمة .

                وقال في الآخر : فإن [ قال ] قائل " حدثونا عن الواحد الذي تعبدونه ما هو ؟ " قيل : إن أردت بقولك " ما جنسه ؟ " . فليس بذي جنس . وإن أردت بقولك " ما هو ؟ " أي : أشيروا إليه حتى أدركه بحواسي فليس بحاضر للحواس . وإن أردت بقولك : " ما هو ؟ " أي دلوني عليه بعجائب صنعته وآثار حكمته فالدلالة عليه قائمة . وإن أردت بقولك " ما اسمه ؟ " فنقول : هو الله الرحمن الرحيم القادر السميع البصير .

                [ ص: 93 ] [ وهو ] في هذا المصنف أثبت أنه على العرش بخلاف ما كان عليه قبل العرش . فقال : فإن قال " فحدثونا عنه أين كان قبل أن يخلق ؟ " قيل " أين ؟ " تقتضي مكانا والأمكنة مخلوقات وهو سبحانه لم يزل قبل الخلق والأماكن لا في مكان ولا يجري عليه وقت ولا زمان .

                فإن قال : " فعلى ما هو اليوم ؟ " قيل له : مستو على العرش كما قال سبحانه : { الرحمن على العرش استوى } .

                وقال : فإن قال قائل : " لم يزل الباري قادرا عالما حيا سميعا بصيرا ؟ " قيل : نعم . فإن قال فلم أنكرتم أن يكون لم يزل خالقا ؟ " قيل له : إن أردت بقولك " لم يزل خالقا أي لم يزل الخلق معه في قدمه فهذا خطأ لأن معنى الخلق أنه لم يكن ثم كان . فكيف يكون ما لم يكن ثم كان لم يزل موجودا وإن أردت بقولك أن الخالق لم يزل وكان قادرا على أن يخلق الخلق فكذلك نقول لأن الخالق لم يزل والخلق لم يكن ثم كان وقد كان لم يزل قادرا على أن يخلق الخلق فهذا الجواب .

                قال : فإن قيل " إذا قلتم إنه الآن خالق فما أنكرتم أن يكون لم يزل خالقا " ؟ قيل له : لا يلزم ذلك . وذلك أنه الآن مستو على [ ص: 94 ] عرشه فلا يجب أن يكون لم يزل مستويا على عرشه . فكذلك ما قلناه يناسبه .

                فإن قيل " الاستواء منه فعل ويستحيل أن يكون الفعل لم يزل " قال قيل : والخلق منه فعل ويستحيل أن يكون الخلق لم يزل .

                فهذا الكلام [ ليس ] إلا ببيان الذين يقولون : إنه استوى على العرش بعد أن لم يكن ويقولون بقدم صفة التكوين والخلق وأنه لم يزل خالقا . فألزمهم : " أنا نقول في الخلق ما نقوله نحن وأنتم في الاستواء " . وهذا جواب ضعيف من وجوه : ( أحدها : أنه في الحقيقة ليس عنده أنه استوى بعد أن لم يكن كما قد بحثه مع السلطان بل هو الآن كما كان . فلا يصح القياس عليه .

                ( الثاني : أنه قد سلم أنه لم يزل قادرا على أن يخلق الخلق وهذا يقتضي إمكان وجود المقدور في الأزل . فإنه إذا كان المقدور ممتنعا لم تكن هناك قدرة فكيف يجعله لم يزل قادرا مع امتناع أن يكون المقدور لم يزل ممكنا ؟ بل المقدور عنده كان ممتنعا ثم صار ممكنا بلا سبب حادث اقتضى ذلك .

                [ ص: 95 ] ( الثالث : أن قوله : " لأن معنى الخلق أنه لم يكن ثم كان فكيف يكون ما لم يكن ثم كان لم يزل موجودا ؟ " فيقال : بل كل مخلوق فهو محدث مسبوق بعدم نفسه وما ثم قديم أزلي إلا الله وحده . وإذا قيل : " لم يزل خالقا " فإنما يقتضي قدم نوع الخلق و " دوام خالقيته " لا يقتضي قدم شيء من المخلوقات . فيجب الفرق بين أعيان المخلوقات الحادثة بعد أن لم تكن فإن هذه لا يقول عاقل إن منها شيئا أزليا . ومن قال بقدم شيء من العالم - كالفلك أو مادته - فإنه يجعله مخلوقا بمعنى أنه كان بعد أن لم يكن ; ولكن إذ أوجده القديم .

                ولكن لم يزل فعالا خالقا [ ودوام خالقيته ] من لوازم وجوده . فهذا ليس قولا بقدم شيء من المخلوقات بل هذا متضمن لحدوث كل ما سواه . وهذا مقتضى سؤال السائل له .

                ( الوجه الرابع أن يقال : العرش حادث كائن بعد أن لم يكن لم يزل مستويا عليه بعد وجوده . وأما الخلق فالكلام في نوعه ودليله على امتناع حوادث لا أول لها قد عرف ضعفه والله أعلم .

                وكان ابن فورك في مخاطبة السلطان قصد إظهار مخالفة الكرامية كما قصد بنيسابور القيام على المعتزلة في استتابتهم وكما كفرهم عند [ ص: 96 ] السلطان . ومن لم يعدل في خصومه ومنازعيه ويعذرهم بالخطأ في الاجتهاد بل ابتدع بدعة وعادى من خالفه فيها أو كفره فإنه هو ظلم نفسه .

                وأهل السنة والعلم والإيمان يعلمون الحق ويرحمون الخلق ; يتبعون الرسول فلا يبتدعون . ومن اجتهد فأخطأ خطأ يعذره فيه الرسول عذروه . وأهل البدع مثل الخوارج يبتدعون بدعة ويكفرون من خالفهم ويستحلون دمه . وهؤلاء كل منهم يرد بدعة الآخرين ولكن هو أيضا مبتدع فيرد بدعة ببدعة وباطلا بباطل .

                وكذلك ما حكاه من مناظراتهم له عند الوزير مجلسا بعد مجلس هو من هذا الباب . فإن المعتزلة والكرامية يقولون حقا وباطلا وسنة وبدعة [ كما أنه هو ] أيضا كذلك يقول حقا وباطلا [ موافقة ] لأبي الحسن . وأبو الحسن سلك في مسألة الأسماء والأحكام والقدر مسلك الجهم بن صفوان - مسلك المجبرة ومسلك غلاة المرجئة . فهؤلاء قدرية مجبرة والمعتزلة قدرية نافية . فوقع بينهم غاية التضاد في مسائل التعديل والتجويز ونحوها .

                والله يحب الكلام بعلم وعدل ويكره الكلام بجهل وظلم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم { القضاة ثلاثة : قاضيان في النار وقاض [ ص: 97 ] في الجنة - رجل قضى للناس على جهل فهو في النار ورجل علم الحق وقضى بخلافه فهو في النار . ورجل علم الحق وقضى به فهو في الجنة } .

                وقد حرم سبحانه الكلام بلا علم مطلقا وخص القول عليه بلا علم بالنهي فقال تعالى : { ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا } وقال تعالى : { قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون } .

                وأمر بالعدل على أعداء المسلمين . فقال : { كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى } .

                التالي السابق


                الخدمات العلمية