الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 552 ] القول في تأويل قوله ( أو تحرير رقبة )

قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بذلك : أو فك عبد من أسر العبودة وذلها .

وأصل "التحرير " ، الفك من الأسر ، ومنه قول الفرزدق بن غالب :


أبني غدانة ، إنني حررتكم فوهبتكم لعطية بن جعال



يعني بقوله : "حررتكم " ، فككت رقابكم من ذل الهجاء ولزوم العار .

وقيل : "تحرير رقبة " ، والمحرر ذو الرقبة ، لأن العرب كان من شأنها إذا أسرت أسيرا أن تجمع يديه إلى عنقه بقد أو حبل أو غير ذلك ، وإذا أطلقته من الأسر أطلقت يديه وحلتهما مما كانتا به مشدودتين إلى الرقبة . فجرى الكلام [ ص: 553 ] عند إطلاقهم الأسير ، بالخبر عن فك يديه عن رقبته ، وهم يريدون الخبر عن إطلاقه من أسره ، كما يقال : "قبض فلان يده عن فلان " ، إذا أمسك يده عن نواله "وبسط فيه لسانه " ، إذا قال فيه سوءا فيضاف الفعل إلى الجارحة التي يكون بها ذلك الفعل دون فاعله ، لاستعمال الناس ذلك بينهم ، وعلمهم بمعنى ذلك . فكذلك ذلك في قول الله تعالى ذكره : "أو تحرير رقبة " ، أضيف "التحرير " إلى "الرقبة " ، وإن لم يكن هناك غل في رقبته ولا شد يد إليها ، وكان المراد بالتحرير نفس العبد ، بما وصفنا ، من جراء استعمال الناس ذلك بينهم لمعرفتهم بمعناه .

فإن قال قائل : أفكل الرقاب معني بذلك أو بعضه؟

قيل : بل معني بذلك كل رقبة كانت سليمة من الإقعاد ، والعمى والخرس ، وقطع اليدين أو شللهما والجنون المطبق ، ونظائر ذلك . فإن من كان به ذلك أو شيء منه من الرقاب ، فلا خلاف بين الجميع من الحجة أنه لا يجزئ في كفارة اليمين . فكان معلوما بذلك أن الله تعالى ذكره لم يعنه بالتحرير في هذه الآية . فأما الصغير والكبير والمسلم والكافر ، فإنهم معنيون به .

[ ص: 554 ] وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل العلم .

ذكر من قال ذلك :

12482 - حدثنا هناد . . . قال ، حدثنا مغيرة ، عن إبراهيم : أنه كان يقول : من كانت عليه رقبة واجبة فاشترى نسمة ، قال : إذا أنقذها من عمل أجزأته ، ولا يجوز عتق من لا يعمل . فأما الذي يعمل ، كالأعور ونحوه . وأما الذي لا يعمل فلا يجزئ ، الأعمى والمقعد .

12483 - حدثنا هناد قال ، حدثنا هشيم ، عن يونس ، عن الحسن قال : كان يكره عتق المخبل في شيء من الكفارات .

12484 - حدثنا هناد قال ، حدثنا هشيم ، عن مغيرة ، عن إبراهيم : أنه كان لا يرى عتق المغلوب على عقله يجزئ في شيء من الكفارات .

وقال بعضهم : لا يجزئ في الكفارة من الرقاب إلا صحيح ، ويجزئ الصغير فيها .

ذكر من قال ذلك :

12485 - حدثنا هناد قال ، حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن ابن جريج ، عن عطاء قال : لا يجزئ في الرقبة إلا صحيح .

12486 - حدثنا هناد قال ، حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن ابن جريج ، عن عطاء قال : يجزئ المولود في الإسلام من رقبة .

12487 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا وكيع ، عن الأعمش ، عن إبراهيم قال : ما كان في القرآن من "رقبة مؤمنة " ، فلا يجزئ إلا ما صام وصلى . وما كان ليس بمؤمنة ، فالصبي يجزئ .

[ ص: 555 ] وقال بعضهم : لا يقال للمولود"رقبة " ، إلا بعد مدة تأتي عليه .

ذكر من قال ذلك :

12488 - حدثني محمد بن يزيد الرفاعي قال ، حدثنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة ، عن محمد بن شعيب بن شابور ، عن النعمان بن المنذر ، عن سليمان قال : إذا ولد الصبي فهو نسمة ، وإذا انقلب ظهرا لبطن فهو رقبة ، وإذا صلى فهو مؤمنة .

قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال ، إن الله تعالى عم بذكر "الرقبة " كل رقبة ، فأي رقبة حررها المكفر يمينه في كفارته ، فقد أدى ما كلف ، إلا ما ذكرنا أن الحجة مجمعة على أن الله تعالى ذكره ، لم يعنه بالتحرير ، فذلك خارج من حكم الآية ، وما عدا ذلك فجائز تحريره في الكفارة بظاهر التنزيل .

والمكفر مخير في تكفير يمينه التي حنث فيها بإحدى هذه الحالات الثلاث التي سماها الله في كتابه ، وذلك : إطعام عشرة مساكين من أوسط ما يطعم أهله ، أو كسوتهم ، أو تحرير رقبة بإجماع من الجميع ، لا خلاف بينهم في ذلك . فإن ظن ظان أن ما قلنا من أن ذلك إجماع من الجميع ، ليس كما قلنا ، لما : -

12489 - حدثنا محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب قال ، حدثنا عبد الواحد بن زياد قال ، حدثنا سليمان الشيباني قال ، حدثنا أبو الضحى ، عن مسروق ، قال : جاء معقل بن مقرن إلى عبد الله فقال : إني آليت من النساء والفراش! فقرأ عبد الله هذه الآية : ( لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين ) [ سورة المائدة : 87 ] . قال فقال معقل : إنما سألتك أن أتيت [ ص: 556 ] على هذه الآية الليلة؟ فقال عبد الله : ائت النساء ونم ، وأعتق رقبة ، فإنك موسر .

12490 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، حدثني جرير بن حازم : أن سليمان الأعمش حدثه ، عن إبراهيم بن يزيد النخعي ، عن همام بن الحارث : أن نعمان بن مقرن سأل عبد الله بن مسعود فقال : إني حلفت أن لا أنام على فراشي سنة؟ فقال ابن مسعود : " يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم " ، كفر عن يمينك ، ونم على فراشك ! قال : بم أكفر عن يميني؟ قال : أعتق رقبة ، فإنك موسر .

ونحو هذا من الأخبار التي رويت عن ابن مسعود وابن عمر وغيرهما ، فإن ذلك منهم كان على وجه الاستحباب لمن أمروه بالتكفير بما أمروه به بالتكفير من [ ص: 557 ] الرقاب ، لا على أنه كان لا يجزئ عندهم التكفير للموسر إلا بالرقبة ، لأنه لم ينقل أحد عن أحد منهم أنه قال : لا يجزئ الموسر التكفير إلا بالرقبة . والجميع من علماء الأمصار ، قديمهم وحديثهم ، مجمعون على أن التكفير بغير الرقاب جائز للموسر . ففي ذلك مكتفى عن الاستشهاد على صحة ما قلنا في ذلك بغيره .

التالي السابق


الخدمات العلمية