الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                فصل وقوله : { سيذكر من يخشى } يقتضي أن كل من يخشى يتذكر . والخشية قد تحصل عقب الذكر وقد تحصل قبل الذكر وقوله : { من يخشى } مطلق .

                ومن الناس من يظن أن ذلك يقتضي أنه لا بد أن يكون قد خشي أولا حتى يذكر وليس كذلك . بل هذا كقوله : { هدى للمتقين } وقوله : { إنما أنت منذر من يخشاها } وقوله : { فذكر بالقرآن من يخاف وعيد } وقوله : { إنما تنذر من اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب } وهو إنما خاف الوعيد بعد أن سمعه لم يكن وعيد قبل سماع القرآن وكذلك قوله : { إنما تنذر من اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب } وهو إنما اتبع الذكر وخشي الرحمن بعد أن أنذره الرسول .

                وقد لا يكونون خافوها قبل الإنذار ولا كانوا متقين قبل سماع [ ص: 172 ] القرآن بل به صاروا متقين .

                وهذا كما يقول القائل : ما يسمع هذا إلا سعيد وإلا مفلح وإلا من رضي الله عنه . وما يدخل في الإسلام إلا من هداه الله ونحو ذلك . وإن كانت هذه الحسنات والنعم تحصل بعد الإسلام وسماع القرآن .

                ومثل هذا قوله : { هذا بصائر للناس وهدى ورحمة لقوم يوقنون } وقد قال في نظيره { ويتجنبها الأشقى } وإنما يشقى بتجنبها .

                وهذا كما يقال : إنما يحذر من يقبل وإنما ينتفع بالعلم من عمل به .

                فمن استمع القرآن فآمن به وعمل به صار من المتقين الذين هو هدى لهم . ومن لم يؤمن به ولم يعمل به لم يكن من المتقين ; ولم يكن ممن اهتدى به .

                بل هو كما قال الله تعالى : { قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى } ولم يرد أنهم كانوا مؤمنين . فلما سمعوه صار هدى وشفاء ; بل إذا سمعه الكافر فآمن به صار في حقه هدى وشفاء وكان من المؤمنين به بعد سماعه .

                [ ص: 173 ] وهذا كقوله في النوع المذموم : { يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا وما يضل به إلا الفاسقين } { الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل } ولا يجب أن يكونوا فاسقين قبل ضلالهم ; بل من سمعه فكذب به صار فاسقا وضل .

                وسعد بن أبي وقاص وغيره أدخلوا في هذه الآية أهل الأهواء كالخوارج . وكان سعد يقول : هم من { الفاسقين } { الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل } ولم يكن علي وسعد وغيرهما من الصحابة يكفرونهم .

                وسعد أدخلهم في هذه الآية لقوله : { وما يضل به إلا الفاسقين } وهم ضلوا به بسبب تحريفهم الكلم عن مواضعه وتأويله على غير ما أراد الله . فتمسكوا بمتشابهه وأعرضوا عن محكمه وعن السنة الثابتة التي تبين مراد الله بكتابه . فخالفوا السنة وإجماع الصحابة مع ما خالفوه من محكم كتاب الله تعالى .

                ولهذا أدخلهم كثير من السلف في الذين { يتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله } { الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا } وبسط هذا له موضع آخر .

                والمقصود الآية وقد دلت على أن كل من يخشى فلا بد أن [ ص: 174 ] يتذكر . فقد يتذكر فتحصل له بالتذكر خشية وقد يخشى فتدعوه الخشية إلى التذكر .

                وهذا المعنى ذكره قتادة : فقال : والله ما خشي الله عبد قط إلا ذكره .

                { ويتجنبها الأشقى } قال قتادة : فلا والله لا يتنكب عبد هذا الذكر زهدا فيه وبغضا له ولأهله إلا شقيا بين الشقاء .

                والخشية في القرآن مطلقة تتناول خشية الله وخشية عذابه في الدنيا والآخرة .

                قال الله تعالى : { يسألونك عن الساعة أيان مرساها } { فيم أنت من ذكراها } { إلى ربك منتهاها } { إنما أنت منذر من يخشاها } وقال تعالى : { فذكر بالقرآن من يخاف وعيد } وقال تعالى : { الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان وما يدريك لعل الساعة قريب } { يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها والذين آمنوا مشفقون منها ويعلمون أنها الحق } وقال : { قالوا إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين } { فمن الله علينا ووقانا عذاب السموم }

                التالي السابق


                الخدمات العلمية