الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
باب الإحرام بالحج قبل أشهر الحج قال أبو بكر : قد اختلف السلف في جواز الإحرام قبل أشهر الحج ، فروى مقسم عن ابن عباس قال : " من سنة الحج أن لا يحرم بالحج قبل أشهر الحج " وأبو الزبير عن جابر قال : " لا يحرم الرجل بالحج قبل أشهر الحج " وروى مثله عن طاوس وعطاء ومجاهد وعمرو بن ميمون وعكرمة .

وقال عطاء : " من أحرم بالحج قبل أشهر الحج فليجعلها عمرة وقال علي رضي الله عنه في قوله تعالى : وأتموا الحج والعمرة لله " إن إتمامهما أن تحرم بهما من دويرة أهلك " ولم يفرق بين من كان بين دويرة أهله وبين مكة مسافة بعيدة أو قريبة . فدل ذلك على أنه كان من مذهبه جواز الإحرام بالحج قبل أشهر الحج وما رواه مقسم عن ابن عباس أن من سنة الحج أن لا تحرم بالحج قبل أشهر الحج يدل ظاهره على أنه لم يرد بذلك حتما واجبا . وروي عن إبراهيم النخعي وأبي نعيم جواز الإحرام بالحج قبل أشهر الحج ، وهو قول أصحابنا جميعا ومالك والثوري والليث بن سعد . وقال الحسن بن صالح بن حي : " إذا أحرم بالحج قبل أشهر الحج جعله عمرة ، فإذا أدركته أشهر الحج قبل أن يجعلها عمرة مضى في الحج وأجزأه " . وقال الأوزاعي : " يجعلها عمرة " . وقال الشافعي : " يكون عمرة " . قال أبو بكر : قد قدمنا فيما سلف ذكر وجه الدلالة على جواز ذلك من قوله تعالى : يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج وأن ذلك عموم في كون الأهلة كلها وقتا للحج .

ولما كان معلوما أنها ليست ميقاتا لأفعال الحج ، وجب أن يكون حكم اللفظ مستعملا في إحرام الحج ، فاقتضى ذلك جوازه عند سائر الأهلة ؛ وغير جائز الاقتصار على بعضها [ ص: 375 ] دون بعض ؛ لاتفاق الجميع على أن إرادة الله تعالى عموم جميع الأهلة فيما جعله مواقيت للناس ، وأنه لم يرد به بعض الأهلة دون بعض .

فمن حيث انتظم فيما جعله مواقيت للناس جميعا ، وجب أن يكون ذلك حكمها فيما جعله للحج منها ؛ إذ هما جميعا قد انطويا تحت لفظ واحد . .

فإن قيل : لما جعلها مواقيت للحج والحج في الحقيقة هو الأفعال الموجبة بالإحرام ولم يكن الإحرام هو الحج ، وجب أن يحمل على حقيقته ، فتكون الأهلة التي هي مواقيت للحج شوالا وذا القعدة وذا الحجة ؛ لأن هذه الأشهر هي التي تصح فيها أفعال الحج ؛ لأنه لو طاف وسعى للحج قبل أشهر الحج لم يصح عند الجميع ، فيكون لفظ الحج مستعملا على حقيقته . قيل له : هذا غلط لما فيه من إسقاط حكم اللفظ رأسا ؛ وذلك لأن قوله : يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج يقتضي أن تكون الأهلة نفسها ميقاتا للحج ، وفروض الحج ثلاثة : الإحرام والوقوف بعرفة وطواف الزيارة ، ومعلوم أن الأهلة ليست ميقاتا للوقوف ولا لطواف الزيارة ؛ إذ هما غير مفعولين في وقت الهلال ، فلم تبق الأهلة ميقاتا إلا للإحرام دون غيره من فروضه ؛ ولو حملناه على ما ذكرت لم يكن شيء من هذه الفروض متعلقا بالأهلة ولا كانت الأهلة ميقاتا لها ، فيؤدي ذلك إلى إسقاط ذكر الأهلة وزوال فائدته .

فإن قيل : إذا كانت معرفة وقت الوقوف متعلقة بالهلال جاز أن يقال إن الهلال ميقات له . قيل له : ليس ذلك كما ظننت ؛ لأن الهلال له وقت معلوم على ما قدمنا فيما سلف ، ولا يسمى بعد مضي ذلك الوقت هلالا ، ألا ترى أنه لا يقال للقمر ليلة الوقوف هلالا ؟ والله تعالى إنما جعل الهلال نفسه ميقاتا للحج ، وأنت إنما تجعل غير الهلال ميقاتا ، وفي ذلك إسقاط حكم اللفظ ودلالته ، ألا ترى أنه إذا جعل محل الدين هلال شهر كذا كان الهلال نفسه وقتا لثبوت حق المطالبة ووجوب أدائه إليه لا ما بعده من الأيام ؟ وكذلك الإجارات إذا عقدت على الأهلة فإنما يعتبر فيها وقت رؤية الهلال ، وذلك مفهوم من اللفظ لا يشكل مثله على ذي فهم .

وأما قوله : " إن الحج هو اسم للأفعال الموجبة بالإحرام وإن الإحرام لا يسمى حجا " فإن الإحرام إذا كان سببا لتلك الأفعال ولا يصح حكمها إلا به ، فجائز أن يسمى باسمه ، على ما بينا في أول الكتاب من تسمية الشيء باسم غيره إذا كان سببا أو مجاورا ؛ فسمي الإحرام حجا على هذا الوجه . وأيضا فإنه إذا كان جائزا إضمار الإحرام حتى يكون في معنى قل هي مواقيت للناس [ ص: 376 ] ولإحرام الحج " على نحو قوله : واسأل القرية ومعناه : أهل القرية .

وقوله : ولكن البر من اتقى ومعناه : ولكن البر من اتقى ؛ وجب استعماله على هذا المعنى ليصح إثبات حكم اللفظ في جعله الأهلة مواقيت الحج . وأيضا لما كان الحج في اللغة اسما للقصد وإن كان في الشرع قد علق به أفعال أخر يصح إطلاق الاسم عليه ، لم يمتنع أن يسمى الإحرام حجا ؛ لأن أول قصد يتعلق به حكم هو الإحرام ، وقبل الإحرام لا يتعلق بذلك القصد حكم ، فجائز من أجل ذلك أن يسمى الإحرام حجا ؛ إذ هو أوله ، فيكون قوله : يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج منتظما للإحرام وغيره من أفعال الحج ومناسكه لو خلينا وظاهره . فلما خصت الأفعال بأوقات محصورة خصصناها من الجملة وبقي حكم اللفظ في الإحرام . ويدل على أن الحج في اللغة هو القصد قول الشاعر :

يحج مأمومة في قعرها لجف

يعني يقصدها ليعرف مقدارها . وليس يجب من حيث علق بالقصد أفعال أخر لا يستحق القصد اسم الحج في الشرع إلا بها إسقاط اعتبار القصد فيه ألا ترى أن الصوم في أصل اللغة اسم للإمساك وهو في الشرع اسم لمعان أخر معه ولم يسقط مع ذلك اعتبار الإمساك في صحته ؟ وكذلك الاعتكاف اسم اللبث وهو في الشرع اسم لمعان أخر مع اللبث ؟ فكان معنى الاسم الموضوع له معتبرا ، وإن ألحقت به في الشرع معان أخر لا يثبت حكم الاسم في الشرع إلا بوجودها .

وكذلك الحج لما كان اسما في اللغة للقصد ثم كان حكم ذلك القصد متعلقا بالإحرام وما قبله لا حكم له ، جاز أن يكون الإحرام مسمى بهذا الاسم كما سمي به الطواف والوقوف بعرفة وأفعال المناسك ، فوجب بحق العموم كون الأهلة كلها ميقاتا للإحرام . وقد اقتضى العموم ذلك لسائر أفعال الحج لولا قيام الدلالة على تخصيصها بأوقات محصورة دليل آخر ، وهو قوله : الحج أشهر معلومات وقد قدمنا ذكر أقاويل السلف في الأشهر ، وأن منهم من قال شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة " وقال آخرون شوال وذو القعدة وذو الحجة " فحصل من اتفاقهم أن يوم النحر من أشهر الحج ، فوجب بعموم قوله : أشهر معلومات جواز الإحرام بالحج يوم النحر ؛ وإذا صح يوم النحر جاز في سائر السنة ؛ لأن أحدا لم يفرق في جوازه بين يوم النحر وبين سائر أيام السنة .

فإن قيل : إن من قال : " عشر من ذي الحجة " إنما أراد به عشر ليال لم يجعل يوم النحر منها ؛ لأنه يكون الحج فائتا بطلوع [ ص: 377 ] الفجر من يوم النحر قيل له : قول من قال عشرا إن كان مراده عشر ليال فإن ذكر الليالي يقتضي دخول ما بإزائها من الأيام ، كقوله في موضع : ثلاث ليال سويا وقد أراد الأيام ؛ ألا ترى إلى قوله في موضع آخر عند ذكر هذه القصة بعينها : ثلاثة أيام إلا رمزا

وقال تعالى : والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا وهي أربعة أشهر وعشرة أيام . وقد روي عن علي بن أبي طالب وعبد الله بن شداد وعبد الله بن أبي أوفى في آخرين : أن يوم الحج الأكبر هو يوم النحر . ويستحيل أن يكون يوم النحر يوم الحج الأكبر ولا يكون من أشهر الحج ، ومع ذلك فإن قوله : الحج أشهر معلومات يقتضي ظاهره استيعاب الشهور الثلاثة ولا ينقص شيء منه إلا بدلالة ؛ فثبت بذلك أن يوم النحر من أشهر الحج ، وقد أباح الله الإحرام فيه بقوله : الحج أشهر معلومات فوجب أن يصح ابتداء الإحرام فيه ، وإذا صح فيه صح في سائر أيام السنة بالاتفاق . وفي هذه الآية دلالة من وجه آخر على جواز الإحرام قبل دخول أشهر الحج ، وهو قوله في سياق الخطاب : فمن فرض فيهن الحج ومعنى فرض الحج فيهن إيجابه فيهن ؛ لأن سائر الأفعال موجبة به ، ولم يوقت للفرض وقتا وإنما وقته للفعل ؛ لأن الفرض المذكور في هذا الموضع هو لا محالة غير الحج الذي علقه به ، وإذا كان كذلك كان الوقت وقتا لأفعال المناسك وألزمه إياها بفرض غير موقت وجب أن يصح فعل إحرام الحج قبل أشهر الحج يوجب أفعال المناسك .

ويدلك على ما ذكرنا أنه يصح أن يبدأ حجا بنذر قبل أشهر الحج ، فيكون موجبا للحج في وقته المشروط وإن كان إيجابه قبله . ومن قال : " لله علي أن أصوم غدا " كان في هذا الوقت موجبا لصوم غد قبل وجوده ، فكذلك جائز أن يقال لمن أحرم بالحج قبل أشهر الحج : إنه موجب للحج في أشهر الحج ، وإن كان فرضه وابتداء إحرامه في غيره ، فاقتضى ظاهر قوله تعالى : فمن فرض فيهن الحج إيجاب فعل الحج بفرض قبلهن أو فيهن ؛ إذ كان ظاهر اللفظ يتناول الفروض في الوقتين ويدل عليه من جهة السنة حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : من أراد الحج فليتعجل وذلك على الإحرام وأفعاله إلا ما قام دليله مما لا يجوز تقديمه على وقته . ويدل عليه أيضا قوله في ذكر المواقيت : هن لأهلهن ولمن مر عليهن من غير أهلهن ممن أراد الحج والعمرة وذلك عموم في جواز الإحرام بالحج في أي وقت مر عليهن من السنة . ويدل عليه من جهة [ ص: 378 ] النظر اتفاق الجميع على بقاء إحرام الحج بكماله بعد طلوع الفجر يوم النحر قبل رمي الجمار ، ولو كان الإحرام بالحج لا يجوز قبل أشهر الحج لوجب أن لا يبقى بكماله في الوقت الذي لا يصح فيه ابتداء الإحرام .

وفي بقاء إحرامه يوم النحر قبل رمي الجمار دليل على جواز ابتدائه ؛ وذلك لأن مناسك الحج محصورة بأوقات غير جائز تقديمها عليها ، فلو لم يكن يوم النحر وقتا للإحرام لما جاز بقاؤه فيه ؛ ألا ترى أن الجمعة لما كانت محصورة بوقت لا يجوز تقديمها عليه لم يجز أن تبقى الجمعة بعد الدخول فيها في وقت لا يصح ابتداؤها فيه ؟ نحو أن يدخل في الجمعة ثم يدخل وقت العصر قبل الفراغ منها ، فتبطل ولا يبقى حكمها بعد خروج الوقت كما لا يصح ابتداؤها فيه ؛ فكذلك إحرام الحج ، لو كان محصورا بأشهر الحج لما صح بقاؤه بكماله بعد انقضائه كما لا يصح عند مخالفينا ابتداؤه ، فلما صح بقاؤه في يوم النحر صح ابتداؤه . ويدل على ذلك اتفاق الجميع على جواز الإحرام بالحج في وقت يتراخى عنه أفعاله ولا يصح إيقاعها فيه ، فوجب أن يجوز تقديمه على أشهر الحج كما صح فعله فيها ؛ لأن موجبه من الأفعال متراخ عنه . وأيضا لو كان الإحرام موقتا لوجب أن يتصل به موجب أفعاله ، كما أن إحرام الصلاة لما كان موقتا كان موجبه من فرضه متصلا به ولم يجز تراخيه عنه . ويحتج لذلك أيضا باتفاق الجميع على أن المتمتع هو الجامع بين أفعال العمرة والحج في سفر واحد ممن ليس من حاضري المسجد الحرام ، ولا يختلف حكم إحرام العمرة بأن يكون في أشهر الحج أو قبله فيما يقتضيه حكم المتمتع ، كذلك يجب أن لا يختلف حكم إحرام الحج في كونه في أشهر الحج أو قبله .

والمعنى الجامع بينهما أن حكم كل واحد من موجب الإحرامين من الأفعال متعلق بوقوعه في أشهر الحج ، فوجب استواء حكم الإحرامين في الوجه الذي ذكرنا كما استوى حكم أفعالهما في صحة وقوعهما في أشهر الحج . واحتج من أبى تجويز الإحرام بالحج قبل أشهر الحج بظاهر قوله تعالى : الحج أشهر معلومات وقد ذكرنا وجه الدلالة منه على جوازه قبل أشهر الحج ؛ ومع ذلك فإن قوله : الحج أشهر معلومات حكمه متعلق بضمير لا يستغني عنه الكلام ، وذلك أنه معلوم أن الحج لا يكون أشهرا ؛ لأن الحج هو فعل الحاج والأشهر هي فعل الله تعالى ، وغير جائز أن يكون فعل الله هو فعل العبد ، فثبت أن فيه ضميرا ، ويحتمل أن يكون الضمير فعل الحج في أشهر معلومات ، وليس في شيء منه نفي لجواز إحرامه قبل أشهر الحج ، إنما يفيد أن [ ص: 379 ] فعل الحج في هذه الأشهر وأن الإحرام جائز فيها ، وليس في تجويز الإحرام فيها نفي لجوازه في غيرها .

فإن قيل : قد تضمن ذلك الأمر بإحرام الحج أو أفعاله فيها ، فغير جائز فعلها في غيرها . قيل له : هذا غلط ؛ لأنه ليس في اللفظ دلالة على الأمر ، وإنما فيه الدلالة على جوازه فيها ، فأما الإيجاب فلا دلالة عليه من اللفظ ؛ وإذا كان كذلك فأكثر ما فيه تجويز إحرام الحج وأفعاله في هذه الأشهر ، وليس فيه نفي لجوازه في غيرها .

فإن قيل : فإذا كان الإحرام جائزا في سائر السنة فلا معنى لتوقيت الأشهر له .

وهذا المذهب يؤدي إلى إسقاط فائدة التوقيت . قيل له : ليس كذلك ، بل فيه عدة فوائد ، منها : أنه أفاد أن أفعال الحج مخصوصة بهذه الأشهر ، ألا ترى أنا نقول إنه لو كان طاف وسعى قبل أشهر الحج أنه لا يعتد به ويعيده ؟ ومنها : أن التمتع إنما يتعلق حكمه بفعل العمرة مع الحج في هذه الأشهر ، حتى لو قدم طواف العمرة على أشهر الحج وحج من عامه لم يكن متمتعا ، ولذلك قال أصحابنا فيمن قرن ودخل مكة قبل أشهر الحج وطاف للعمرة وسعى ومضى على قرانه " إنه ليس بمتمتع وليس عليه دم القران " فأفادت الآية أن هذه الأشهر هي التي يتعلق بها حكم التمتع إذا جمع بين العمرة والحج فيها . ومع ذلك فلو كان قوله تعالى : الحج أشهر معلومات يوجب الاقتصار به عليها دون غيرها من الشهور ، لوجب أن نصرفه إلى أفعال الحج دون إحرامه ليسلم لنا عموم قوله : يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج في جواز الإحرام في سائر الأهلة ، ولو حملناه على الإحرام لأدى ذلك إلى إسقاط فائدة قوله : قل هي مواقيت للناس والحج والاقتصار به على معنى قوله : الحج أشهر معلومات ومع ذلك فلا نكون مستعملين له ؛ لأن الله قد أخبر أنه جعل الأهلة وقتا للحج ، ومتى قصرناه على أشهر الحج لم يتعلق حكمه بالأهلة وكان متعلقا بأوقات أخر غيرها ، مثل يوم عرفة للوقوف ويوم النحر للطواف والرمي ونحوه .

وأيضا فغير جائز أن يريد الإحرام وأفعاله ، ومتى أراد الأفعال انتفى الإحرام لامتناع إرادتهما بلفظ واحد ؛ لأن أحدهما هو المقصود بعينه وهو أفعال المناسك والآخر سبب له سمي باسمه على طريق المجاز ، فغير جائز أن يرادا جميعا بلفظ واحد ؛ ألا ترى أن من أحرم ولم يقف فجائز أن يقال إنه لم يحج ومتى وقف أطلق عليه اسم الحاج ؟ وأيضا لما قال تعالى : الحج أشهر معلومات وقال النبي صلى الله عليه وسلم : الحج عرفة وجب أن يكون ذلك تعريفا للحج المذكور في قوله : الحج أشهر معلومات فتكون [ ص: 380 ] الألف واللام لتعريف المعهود ، فيصير حينئذ تقدير الآية مع الخبر : " الحج الذي هو الوقوف بعرفة في أشهر معلومات " ويكون فائدة ذكر الأشهر ما قدمنا . وأيضا لو صح إرادة الوقت للإحرام وجب استعماله في الأشهر على الندب , وقوله : مواقيت للناس والحج على الجواز ، حتى يوفى كل واحد من اللفظين حظه من الفائدة وقسطه من الحكم . فإن قيل : إذا أراد به الإحرام لم يجز تقديمه على وقته ، ويصير بمنزلة قوله : أقم الصلاة لدلوك الشمس وقوله : وأقم الصلاة طرفي النهار ونحو ذلك من الآي التي فيها توقيت العبادات .

قيل له : قد بينا أن قوله : الحج أشهر معلومات لا دلالة فيه على الوجوب ؛ لأنه ليس بأمر ، وفيه ضمير يحتاج في إثباته إلى دلالة من غيره لاحتماله أن يكون المراد جواز الحج ، ويحتمل أن يريد به فضيلة الحج ؛ فليس في ظاهر اللفظ دليل على أن المراد بالتوقيت المذكور فيه لماذا هو ، فلذلك لم يصح الاستدلال على توقيت الإحرام بالأشهر على جهة الإيجاب . وأما الصلاة فإن الله تعالى نص فيها على الأوقات المذكورة بلفظ يقتضي الإيجاب فيها من غير احتمال لغيرها بقوله : أقم الصلاة لدلوك الشمس وما جرى مجراه من الأوامر الموقتة . ووجه آخر : وهو أنا سلمنا لهم أن ذلك وقت الإحرام لم تلزم الصلاة عليه ، من قبل أن تقديم إحرام الصلاة على وقتها إنما لم يجز من حيث اتصلت فروضها وأركانها بالإحرام وسائر فروضها غير جائزة متراخية عن تحريمتها ، فلذلك كان حكم تحريمتها حكم سائر أفعالها ، ولا خلاف في جواز إحرام الحج في وقت يتراخى عنه سائر أفعاله ، وغير جائز شيء من فروضه عقيب إحرامه ، فلذلك اختلفا . ومن جهة أخرى : وهو أن كونه منهيا عن فعل الإحرام لا يمنع صحة لزومه ، وكون الصلاة منهيا عنها يمنع صحة الدخول فيها . والدليل على ذلك أن من تحرم بالصلاة محدثا أو غير مستقبل القبلة عامدا أو عاريا وهو يجد ثوبا ، لم يصح دخوله فيها ، ولو أحرم بالحج وهو مخالط لامرأته أو لابس ثيابا ، كان إحرامه واقعا ولزمه حكمه مع مقارنة ما يفسده ؛ فلم يجز اعتبار أحكام إحرام الحج بالصلاة .

ووجه آخر : وهو أن ترك بعض فروض الصلاة يفسدها ، مثل الحدث والكلام والمشي وما جرى ومجرى ذلك . وترك بعض فروض الإحرام لا يفسده ؛ لأنه لو تطيب أو لبس أو اصطاد لم يفسده مع كون ترك هذه الأمور فرضا فيه . وأيضا وجدنا من فروض الحج ما يفعل بعد أشهر الحج ويكون مفعولا في وقته وهو طواف الزيارة ، ولم نجد شيئا من [ ص: 381 ] فروض الصلاة يفعل بعد خروج وقتها إلا على وجه القضاء ، فلم يجز أن تكون الصلاة أصلا للإحرام . ويمكن أن يجعل ذلك دليلا في أصل المسألة بأن يقال : لما كان بعض فروض الحج مفعولا بعد أشهر الحج ويكون ذلك وقتا له ، كذلك جائز أن يكون إحرامه قبل أشهر الحج ويكون ذلك وقتا ؛ لأنه لو لم يجز تقديمه على أشهر الحج لما جاز تأخير شيء من فروضه عنه كالصلاة .

فإن قيل : لما اتفق الجميع على أن من فاته الحج لا يجوز أن يفعل بإحرامه ذلك حجا في القابل وكان عليه أن يتحلل بعمل عمرة ، دل ذلك على أن الإحرام بالحج في غير أشهر الحج يوجب عمرة وأنه غير جائز أن يفعل به حجا . قيل له : فقد جاز أن يبقى إحرامه كاملا بعد أشهر الحج وهو يوم النحر قبل رمي الجمار ، حتى زعم الشافعي أنه إن جامع يوم النحر قبل رمي الجمار فسد حجه . وقد ذكرنا فيما سلف وجه الاستدلال من ذلك على جواز الإحرام بالحج قبل أشهر الحج ؛ إذ لم يكن يوم النحر عنده من أشهر الحج وقد جاز إبقاء إحرامه بكماله فيه ، فدل على معنيين :

أحدهما : سقوط سؤال السائل لنا واعتراضه بما ذكره ؛ إذ قد جاز وجود إحرام صحيح بالحج قبل أشهر الحج والمعنى الثاني : أنه دل على جواز ابتداء إحرام الحج قبل أشهر الحج ؛ إذ قد جاز بقاؤه فيه على ما بيناه فيما سلف . وأما قول الشافعي في أن المحرم بالحج قبل أشهر الحج يكون محرما بعمرة ، فإنه قول ظاهر الاختلال والفساد ؛ لأنه لا يخلو من أن يلزمه إحرام الحج على ما عقده على نفسه أو لا يلزمه ، فإن لم يلزمه كان كمن لم يحرم وبمنزلة من أحرم بالظهر قبل دخول وقتها فلا يلزمه شيء ولا يكون داخلا فيها ولا في غيرها ؛ وإن يلزمه الحج فقد جاز أداء الإحرام بالحج قبل أشهر الحج ، وإذا صح إحرامه وأمكنه المضي فيه لم يجز له أن يتحلل منه بعمرة .

فإن قيل : هو بمنزلة من فاته الحج فيلزمه أن يتحلل بعمرة . قيل له : ليس ذلك بعمرة وإنما هو عمل عمرة يتحلل به من إحرام الحج ، ألا ترى أن من فاته الحج وهو بمكة أنه غير مأمور بالخروج منها إلى الحل لأجل ما لزمه من عمل العمرة ؟ إذ كان وقت العمرة لمن كان بمكة الحل ، ولو أراد أن يبتدئ عمرة لأمر بالخروج إلى الحل ؛ فدل ذلك على أن ما يفعله بعد الفوات ليس بعمرة وإنما هو عمل عمرة يتحلل به من إحرام الحج وإحرام الحج باق مع الفوات . وأيضا فالذي فاته قد لزمه إحرام الحج ، وإنما احتاج إلى الإحلال منه بعمل عمرة فهل يقول الشافعي إن المحرم بالحج قبل أشهر الحج قد لزمه الحج ويتحلل منه بعمل عمرة [ ص: 382 ] ويوجب عليه قضاء الحج ؟ فإذا لم يكن عنده محرما بالحج فقد لزمه في ذلك شيئان :

أحدهما : أنه لزمه عمرة لم يعقدها على نفسه ولم ينوها ، والثاني : أنه جعله بمنزلة الذي يفوته الحج بعد الإحرام ، وهذا لم يحرم قط به ، فألزمه عمرة لا سبب لها ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : الأعمال بالنيات وإنما لامرئ ما نوى فإذا أحرم ونوى الحج فواجب أن يلزمه ما نوى بقضية قوله صلى الله عليه وسلم : وإنما لكل امرئ ما نوى .

التالي السابق


الخدمات العلمية