الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          ( الفصل الثالث )

                          ( في فضله - صلى الله عليه وسلم - على أمته ، وحقوقه الواجبة عليها ، وحكم إخلالها بها وتقصيرها فيها )

                          ( وهي ثلاثة أقسام )

                          ( القسم الأول في صفاته الخاصة وفيه بضع مزايا وفضائل )

                          ( الأول ) وصف الله تعالى إياه بأنه صلوات الله وسلامه عليه في الآية : ( أذن خير ) ( 9 : 61 ) في الرد الحكيم على قول بعض المنافقين ( هو أذن ) ( 9 : 61 ) يعنون أنه يصدق كل ما يقال له فيسهل عليهم خداعه ، وقد فسر وصفه بأنه أذن خير بقوله تعالى : ( يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين ) ( 9 : 61 ) ووجه الرد عليهم بهذا أنه - صلى الله عليه وسلم - إنما يؤمن بالله : ويصدق ما يوجبه إليه في شأن المنافقين وغيرهم ، وهو التصديق القطعي اليقيني ، ويليه أنه يصدق المؤمنين بالله تعالى وبرسالته تصديق ثقة بهم وائتمان لهم فيما هو خير في نفسه ، وخير للناس حتى المنافقين منهم ; لأنه لا يسمع سماع قبول إلا ما كان حقا وخيرا ، دون الكذب والغيبة والنميمة . راجع تفسيرها في ص 445 وما بعدها ج 10 ط الهيئة ) .

                          ( الثانية ) وصفه تعالى إياه بعد ما ذكر بقوله ( ورحمة للذين آمنوا منكم ) ( 9 : 61 ) أي بما كان سببا لهدايتهم وإسباغ الله عليهم سعادة الدنيا والآخرة ، بإيمانهم به وعملهم بما دعاهم إليه من أسبابها ، دون المنافقين المكذبين أو المرتابين فيها ، وأما قوله تعالى في سورة الأنبياء : ( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ) ( 21 : 107 ) فهو في معنى إرساله للناس كافة بما هو سبب الرحمة والسعادة . وما يأتي قريبا من وصفه بأنه رحيم بالمؤمنين فهو معنى آخر وستعرف الفرق بينهما .

                          ( الثالثة ) وصفه في آية ( 103 ) بتطهير المؤمنين وتزكيتهم بما يأخذه منهم من الصدقات ، [ ص: 91 ] وذلك أنه صلوات الله وسلامه عليه لم يكن مثله في تبليغه لفرض الصدقات والنفقات ، وفي أخذه لها وقسمتها على مستحقيها - كمثل الملوك والحكام الذين يجعلون المفروض على الناس من الأموال إتاوات وضرائب قهرية يؤدونها كما يؤدون سائر المغارم ، ويعتقدون أنها تنفق بحسب أهواء الملوك والحكام ، ويكون لهم منها أكبر نصيب بغير استحقاق ، وإنما كان - صلى الله عليه وسلم - يبين للمؤمنين حكمة ما فرضه الله تعالى ، وأن فيه خير الدنيا وسعادة الآخرة في أفرادهم وجماعتهم ، وكان يقسمه بين مستحقيه بالعدل ، ويحرم بإذن الله على نفسه وعلى أهل بيته أخذ شيء منه ، فبهذا وذاك أسند الله تعالى إليه فعل التطهير والتزكية لهم ، وهو داخل في حكمة بعثته في قوله : ( يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة ) ( 62 : 2 ) وتجد التفصيل في تفسير الآية ( بأول هذا الجزء ) .

                          ( الرابعة ) وصف دعائه للمتصدقين بعد ما ذكر بأنه : ( سكن لهم ) ( 9 : 103 ) تطمئن به قلوبهم ، وترتاح إليه أنفسهم ، ويثقون بقبول الله لصدقاتهم ، ونقول : إن كل مؤمن متصدق مخلص يناله حظ من دعائه - صلى الله عليه وسلم - للمتصدقين إلى يوم القيامة ، ولكن لم يرد في القرآن ولا في السنة ولا في سيرة الصحابة والتابعين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يطلب منه بعد وفاته الدعاء لأحد .

                          ( الخامسة ) وصفه تعالى إياه بما امتن به على قومه من قوله في خاتمة السورة ( لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم ) ( 9 : 128 ) فأثبت له شدة الحب لهم والحرص على هدايتهم وسعادتهم ، وأنه يعز ويشق عليه أن يصيبهم العنت والإرهاق في دينهم أو دنياهم .

                          ( السادسة ) وصفه بعد ما تقدم بقوله : ( بالمؤمنين رءوف رحيم ) ( 9 : 128 ) وهاتان الصفتان من أعظم صفات الربوبية غير الخاصة بالله عز وجل إلا في كمالهما . ورأفته ورحمته - صلى الله عليه وسلم - بالمؤمنين غير إرسال الله تعالى إياه رحمة لهم خاصة ، وغير إرساله رحمة للناس كافة ، فإن رحمته بهم من صفات نفسه الشريفة القدسية التي ظهر أثرها في سياسته ومعاشرته لهم ، وتأديبه إياهم ، وتنفيذ حكم الله تعالى فيهم ، كما ترى في هذه السورة كغيرها ، وشواهد سيرته - صلى الله عليه وسلم - في تفسيرها ، فتأمل خطبته - صلى الله عليه وسلم - في الأنصار في أثر إنكار بعض شبانهم وعوامهم حرمانه إياهم من غنائم حنين ( ص 229 وما بعدها ج 10 ط الهيئة ) فهي العجب العجاب ، والكمال الذي لم يتم لبشر كما تم له - عليه الصلاة والسلام - .

                          وأما إرساله رحمة للعالمين وللمؤمنين فهو بيان لحكمة رسالته وفوائدها فيما اشتملت عليه [ ص: 92 ] من الحق والعدل والخير التي هي أسباب رحمة الله ومثوبته ورضوانه لمن اهتدى بها كما تقدم بيانه في محله .

                          ( القسم الثاني فيما يجب له على أمته وفيه خمس واجبات )

                          ( الأول ) وجوب حبه - صلى الله عليه وسلم - بالتبع لحب الله تعالى وفي الدرجة التي تلي درجته في ثمرة الإيمان ، وتفضيل نوع حبها على كل ما يجب بمقتضى الفطرة ومصالح الدنيا ، فراجع بيان ذلك في تفسير الآية ( 24 ) تجد فيه ما لا تجد مثله في تفسير آخر ( ص 202 وما بعدها ج 10 ط الهيئة ) .

                          ( الثاني ) وجوب تحري مرضاته بالتبع لمرضاة الله عز وجل في الآية ( 62 ) .

                          ( الثالث ) وجوب طاعته بالتبع لطاعة الله في صفات المؤمنين من الآية ( 71 ) .

                          ( الرابع ) وجوب النصح له بالتبع للنصح لله عز وجل في صفات المعذورين في التخلف عن القتال من الآية ( 91 ) .

                          وهذه الواجبات له قد ذكرت في الفصل الأول من هذا الباب في سياق آخر .

                          ( الخامس ) وجوب نصره كما يؤخذ من آية ( إلا تنصروه فقد نصره الله ) ( 9 : 40 ) ويؤيدها ما يأتي في القسم الثالث من حظر التخلف عنه .

                          ( القسم الثالث فيما يحظر عليهم من إيذاء وتقصير في حقه وهو خمسة محظورات ) :

                          ( الأول ) حظر إيذائه - فداؤه أبي وأمي ونفسي - والوعيد عليه في الآية ( 61 ) .

                          ( الثاني ) حظر محادته أي معاداته ، والوعيد عليها في الآية ( 63 ) .

                          ( الثالث ) الكفر الصريح بالاستهزاء به في الآية ( 65 ) .

                          ( الرابع ) حظر القعود عن الخروج معه للجهاد في الآيتين ( 81 و 90 ) .

                          ( الخامس ) حظر تخلفهم عنه والرغبة بأنفسهم عن نفسه في الآية ( 120 ) . وهذا تعبير بليغ جدا يتضمن أن كل من يصون نفسه عن جهاد وعمل ، بذل الرسول - صلى الله عليه وسلم - نفسه فيه ، فهو مفضل لنفسه على نفسه الكريمة في عهده ، ويمكن أن يقال ذلك فيمن بعده وإن كان الفرق بين الحالين ظاهرا من ناحية ملاحظة ذلك وعدمها ، ومن ناحية قيام الحجة على من كان معه بما لا تقوم به على من لم يكن معه فضلا عمن بعده ، وإنما نعني بالإمكان أنه ينبغي لكل مؤمن أن يتأسى به - صلى الله عليه وسلم - في بذله ماله ونفسه لله والجهاد في سبيل الله بقدر إمكانه ( لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا ) ( 33 : 21 ) فراجع تفسير الآية ( في أول هذا الجزء ) .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية