الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                فصل وأهل السنة والجماعة المتبعون لإبراهيم وموسى ومحمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين يثبتون ما أثبتوه من تكليم الله ومحبته ورحمته وسائر ما له من الأسماء الحسنى والمثل الأعلى .

                وينزهونه عن مشابهة الأجساد التي لا حياة فيها . فإن الله قال : { وألقينا على كرسيه جسدا ثم أناب } وقال : { وما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام } . وقال : { عجلا جسدا له خوار } فوصف الجسد بعدم الحياة فإن الموتان لا يسمع ولا يبصر ولا ينطق ولا يغني شيئا .

                وأما أهل البدع والضلالة من الجهمية ونحوهم فإنهم سلكوا [ ص: 210 ] سبيل أعداء إبراهيم وموسى ومحمد الذين أنكروا أن يكون الله كلم موسى تكليما واتخذ إبراهيم خليلا . وقد كلم الله محمدا واتخذه خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا ورفعه فوق ذلك درجات : وتابعوا فرعون الذي قال : { يا هامان ابن لي صرحا لعلي أبلغ الأسباب } { أسباب السماوات فأطلع إلى إله موسى وإني لأظنه كاذبا } وتابعوا المشركين الذين { وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن أنسجد لما تأمرنا } واتبعوا الذين ألحدوا في أسماء الله .

                فهم يجحدون حقيقة كونه الرحمن أو أنه يرحم أو يكلم أو يود عباده أو يودونه أو أنه فوق السموات . ويزعمون أن من أثبت له هذه الصفات فقد شبهه بالأجسام الحسية وهي الحيوان كالإنسان وأن هذا تشبيه لله بخلقه .

                فهم قد شبهوه بالأجساد الميتة فيما هو نقص وعيب وتشبيه دلت الكتب الإلهية والفطرة العقلية أنه عيب ونقص بل يقتضي عدمه .

                وأما أهل الإثبات فلو فرض أن فيما قالوه تشبيها ما فليس هو تشبيها بمنقوص معيب ولا هو في صفة نقص أو عيب بل في غاية ما يعلم أنه الكمال وأن لصاحبه الجلال والإكرام .

                [ ص: 211 ] فصار أهل السنة يصفونه بالوجود وكمال الوجود وأولئك يصفونه بعدم كمال الوجود أو بعدم الوجود بالكلية . فهم ممثلة معطلة ممثلة في العقل والشرع معطلة في العقل والشرع .

                أما في العقل فلأنهم مثلوه بالعدم والأجساد الموتان .

                وأما في الشرع فإنهم مثلوا ما جاءت به الرسل من صفاته بنفس صفات المخلوقات وإن كان هذا التمثيل الذي ادعوا أنه معنى النصوص أقل تمثيلا من تمثيلهم الذي ادعوه .

                وأما تعطيلهم في العقل فإنه تعطيل للصفات تعطيل مستلزم لعدم الذات . ولهذا ألجئ كثير منهم إلى نفي الذات بالكلية وصاروا على طريقة فرعون لا يقرون إلا بوجود المخلوقات وإن كانوا قد ينافقون فيقرون بألفاظ لا معنى لها أو بعبادات لا معبود لها .

                وأما تعطيلهم للشرع فإنهم جحدوا ما في كتب الله من المعاني وحرفوا الكلم عن مواضعه أو قالوا : نحن كالأميين لا نعلم الكتاب إلا أماني أو : قلوبنا غلف .

                وقالوا لما جاء به الرسول من الكتاب والسنة نظير ما قالته الكفار [ ص: 212 ] ( { قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب } و ( { قالوا يا شعيب ما نفقه كثيرا مما تقول } .

                وهكذا قال هؤلاء : لا نفقه كثيرا مما يقول الرسول وقالوا كما قال الذين يستمعون للرسول فإذا خرجوا من عنده ( { قالوا للذين أوتوا العلم ماذا قال آنفا } .

                وصاروا كالذين قيل فيهم : { وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا } { وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولوا على أدبارهم نفورا } .

                فتدبر ما ذكره الله عن أعداء الرسل من نفي فقههم وتكذيبهم تجد بعض ذلك فيمن أعرض عن ذكر الله وعن تدبر كتابه واتبع ما تتلوه الشياطين وما توحيه إلى أوليائها والله يهدينا صراطا مستقيما .

                ولهذا كانت هذه الجهمية المعطلة المشابهون للكفار والمشركين من الصابئة وغيرهم الجاحدة لوجود الصانع أو صفاته ترمي أهل العلم والإيمان والكتاب والسنة تارة بأنهم يشبهون اليهود لما في التوراة [ ص: 213 ] وكتب الأنبياء من الصفات ولما ابتدعه بعض اليهود من التشبيه المنفي عن الله ; وتارة بأنهم يشبهون النصارى لما أثبتته النصارى من صفة الحياة والعلم ولما ابتدعته من أن الأقانيم جواهر وأن أقنوم الكلمة اتحد بالناسوت .

                وهذا الرمي موجود في كلامهم قبل الإمام أحمد بن حنبل وفي زمنه وهو موجود في كلامه وكلام أصحابه حكاية ذلك . ذكره في كتاب " الرد على الجهمية والزنادقة " وأنهم قالوا " إذا أثبتم الصفات فقد قلتم بقول النصارى " ورد ذلك . وفي " مسائله " : أن طائفة قالوا له : من قال " القرآن غير مخلوق أو هو في الصدور " فقد قال بقول النصارى .

                وهكذا الجهمية ترمي الصفاتية بأنهم يهود هذه الأمة . وهذا موجود في كلام متقدمي الجهمية ومتأخريهم مثل ما ذكره أبو عبد الله محمد بن عمر الرازي الجهمي الجبري وإن كان قد يخرج إلى حقيقة الشرك وعبادة الكواكب والأوثان في بعض الأوقات . وصنف في ذلك كتابه المعروف في السحر وعبادة الكواكب والأوثان . مع أنه كثيرا ما يحرم ذلك وينهى عنه متبعا للمسلمين وأهل الكتب والرسالة .

                وينصر الإسلام وأهله في مواضع كثيرة كما يشكك أهله ويشكك غير [ ص: 214 ] أهله في أكثر المواضع . وقد ينصر غير أهله في بعض المواضع . فإن الغالب عليه التشكيك والحيرة أكثر من الجزم والبيان .

                وهؤلاء لهم أجوبة .

                أحدها : أن مشابهة اليهود والنصارى ليست محذورا إلا فيما خالف دين الإسلام ونصوص الكتاب والسنة والإجماع . وإلا فمعلوم أن دين المرسلين واحد وأن التوراة والقرآن خرجا من مشكاة واحدة .

                وقد استشهد الله بأهل الكتاب في غير موضع حتى قال : { قل أرأيتم إن كان من عند الله وكفرتم به وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله فآمن واستكبرتم } .

                فإذا أشهد أهل الكتاب على مثل قول المسلمين كان هذا حجة ودليلا وهو من حكمة إقرارهم بالجزية . فيفرح بموافقة المقالة المأخوذة من الكتاب والسنة لما يأثره أهل الكتاب عن المرسلين قبلهم . ويكون هذا من أعلام النبوة ومن حجج الرسالة ومن الدليل على اتفاق الرسل .

                الثاني : أن المشابهة التي يدعونها ليست صحيحة . فإن أهل السنة [ ص: 215 ] لا يوافقون اليهود والنصارى فيما ابتدعوه من الدين والاعتقاد . ولهذا قلت في بيان فساد قول ابن الخطيب : إنه لم يفهم مقالة أهل الحديث والسنة من الحنبلية وغيرهم ولم يفهم مقالة النصارى . وأوضحت ذلك في موضعه كما بين الإمام أحمد الفرق بين مقالة أهل السنة وبين مقالة النصارى المبتدعة وكما يبين الفرق بين مقالة أهل السنة ومقالة اليهود المبتدعة .

                الثالث : أنه إذا فرض مشابهة أهل الإثبات لليهود أو النصارى فأهل النفي والتعطيل مشابهون للكفار والمشركين من النصارى وغيرهم . ومعلوم قطعا أن مشابهة أهل الكتابين خير من مشابهة من ليس من أهل الكتاب من الكفار بالربوبية والنبوات ونحوهم . ولهذا قيل : المشبه أعشى والمعطل أعمى .

                ولهذا فرح المؤمنون على عهد النبي صلى الله عليه وسلم بانتصار النصارى على المجوس كما فرح المشركون بانتصار المجوس على النصارى . فتدبر هذا فإنه نافع في مواضع والله أعلم .

                ولهذا كان المعتزلة ونحوهم من القدرية مجوس هذه الأمة .

                وهم يجعلون الصفاتية نصارى الأمة ويميلون إلى اليهود لموافقتهم [ ص: 216 ] لهم في أمور كثيرة أكثر من النصارى كما يميل طائفة من المتصوفة والمتفقرة إلى النصارى أكثر من اليهود .

                فإذا كان الصفاتية إلى النصارى أقرب وضدهم إلى المجوس والمشركين أقرب تبين أن الصفاتية أتباع النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الذين فرحوا بانتصار الروم النصارى على فارس المجوس وأن المعطلة هم إلى المشركين أقرب الذين فرحوا بانتصار المجوس على النصارى .

                التالي السابق


                الخدمات العلمية