الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم وإن الظالمين لفي شقاق بعيد وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم وإن الله لهاد الذين آمنوا إلى صراط مستقيم ولا يزال الذين كفروا في مرية منه حتى تأتيهم الساعة بغتة أو يأتيهم عذاب يوم عقيم . [ ص: 441 ]

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى : " وما أرسلنا من قبلك من رسول " الآية ، قال المفسرون : سبب نزولها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزلت عليه سورة ( النجم ) قرأها حتى بلغ قوله : أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى [ النجم : 19 ، 20 ] ، فألقى الشيطان على لسانه : تلك الغرانيق العلا ، وإن شفاعتهن لترتجى ، فلما سمعت قريش بذلك فرحوا ، فأتاه جبريل فقال : ماذا صنعت ؟ تلوت على الناس ما لم آتك به عن الله ، فحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم حزنا شديدا ، فنزلت هذه الآية تطييبا لقلبه ، وإعلاما له أن الأنبياء قد جرى لهم مثل هذا . قال العلماء المحققون : وهذا لا يصح ; لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم معصوم عن مثل هذا ، ولو صح كان المعنى : أن بعض شياطين الإنس قال تلك الكلمات ، فإنهم كانوا إذا تلا لغطوا ، كما قال الله عز وجل : وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه [ فصلت : 26 ] . قال : وفي معنى " تمنى " قولان :

                                                                                                                                                                                                                                      أحدهما : تلا ، قاله الأكثرون ، وأنشدوا : [ ص: 442 ]


                                                                                                                                                                                                                                      تمنى كتاب الله أول ليله وآخره لاقى حمام المقادر



                                                                                                                                                                                                                                      وقال آخر :


                                                                                                                                                                                                                                      تمنى كتاب الله آخر ليله     تمني داود الزبور على رسل

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 443 ]

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني : أنه من الأمنية ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تمنى يوما أن لا يأتيه من الله شيء ينفر عنه به قومه ، فألقى الشيطان على لسانه لما كان قد تمناه ، قاله محمد بن كعب القرظي .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى : " فينسخ الله ما يلقي الشيطان " ; أي : يبطله ويذهبه . " ثم يحكم الله آياته " قال مقاتل : يحكمها من الباطل .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى : " ليجعل " اللام متعلقة بقوله : " ألقى الشيطان " ، والفتنة هاهنا بمعنى : البلية والمحنة . والمرض : الشك والنفاق . " والقاسية قلوبهم " يعني : الجافية عن الإيمان . ثم أعلمه أنهم ظالمون وأنهم في شقاق دائم ، والشقاق : غاية العداوة .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى : " وليعلم الذين أوتوا العلم " وهو التوحيد والقرآن ، وهم المؤمنون . وقال السدي : التصديق بنسخ الله .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى : " أنه الحق " إشارة إلى نسخ ما يلقي الشيطان ، فالمعنى : ليعلموا أن نسخ ذلك وإبطاله حق من الله ، " فيؤمنوا " بالنسخ ، " فتخبت له قلوبهم " ; أي : تخضع وتذل . ثم بين بباقي الآية أن هذا الإيمان والإخبات إنما هو بلطف الله وهدايته . [ ص: 444 ]

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى : " في مرية منه " ; أي : في شك .

                                                                                                                                                                                                                                      وفي هاء " منه " أربعة أقوال :

                                                                                                                                                                                                                                      أحدها : أنها ترجع إلى قوله : تلك الغرانيق العلا . والثاني : أنها ترجع إلى سجوده في سورة ( النجم ) . والقولان عن سعيد بن جبير ، فيكون المعنى : إنهم يقولون : ما باله ذكر آلهتنا ثم رجع عن ذكرها . والثالث : أنها ترجع إلى القرآن ، قاله ابن جريج . والرابع : أنها ترجع إلى الدين ، حكاه الثعلبي .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى : " حتى تأتيهم الساعة " وفيها قولان :

                                                                                                                                                                                                                                      أحدهما : القيامة تأتي من تقوم عليه من المشركين ، قاله الحسن .

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني : ساعة موتهم ، ذكره الواحدي .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى : " أو يأتيهم عذاب يوم عقيم " فيه قولان :

                                                                                                                                                                                                                                      أحدهما أنه يوم بدر ، روي عن ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة ، والسدي .

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني : أنه يوم القيامة ، قاله عكرمة والضحاك . وأصل العقم في الولادة ، يقال : امرأة عقيم : لا تلد ، ورجل عقيم : لا يولد له ، وأنشدوا :


                                                                                                                                                                                                                                      عقم النساء فلا يلدن شبيهه     إن النساء بمثله عقم

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 445 ]

                                                                                                                                                                                                                                      وسميت الريح العقيم بهذا الاسم ; لأنها لا تأتي بالسحاب الممطر ، فقيل لهذا اليوم : عقيم ; لأنه لم يأت بخير .

                                                                                                                                                                                                                                      فعلى قول من قال : هو يوم بدر ، في تسميته بالعقيم ثلاثة أقوال :

                                                                                                                                                                                                                                      أحدها : أنه لم يكن فيه للكفار بركة ولا خير ، قاله الضحاك .

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني : لأنهم لم ينظروا فيه إلى الليل ، بل قتلوا قبل المساء ، قاله ابن جريج .

                                                                                                                                                                                                                                      والثالث : لأنه لا مثل له في عظم أمره لقتال الملائكة فيه ، قاله يحيى بن سلام .

                                                                                                                                                                                                                                      وعلى قول من قال : هو يوم القيامة ، في تسميته بذلك قولان :

                                                                                                                                                                                                                                      أحدهما : لأنه لا ليلة له ، قاله عكرمة .

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني : لأنه لا يأتي المشركين بخير ولا فرج ، ذكره بعض المفسرين .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية