الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
789 [ ص: 341 ] حديث سابع وثلاثون ليحيى بن سعيد

47047 مالك عن يحيى بن سعيد أنه قال : أخبرني محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي ، عن عيسى بن طلحة بن عبيد الله ، عن عمير بن سلمة الضمري ، عن البهزي : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج يريد مكة وهو محرم ، حتى إذا كان بالروحاء ، إذا حمار وحشي عقير ، فذكر ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : دعوه ، فإنه يوشك أن يأتي صاحبه . فجاء البهزي ، وهو صاحبه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا رسول الله شأنكم بهذا الحمار ، فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبا بكر ، فقسمه بين الرفاق ، ثم مضى حتى إذا كان بالأثاية بين الرويثة والعرج ، إذا ظبي حاقف في ظل شجرة ، وفيه سهم ، فزعم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر رجلا أن يقف عنده لا يريبه أحد من الناس حتى يجاوزه .

التالي السابق


لم يختلف على مالك في إسناد هذا الحديث ، واختلف أصحاب يحيى بن سعيد فيه على يحيى بن سعيد ، فرواه جماعة كما رواه مالك ، ورواه حماد بن زيد ، وهشيم ، ويزيد بن هارون ، وعلي بن مسهر ، عن يحيى بن سعيد ، عن محمد بن إبراهيم ، عن عيسى بن طلحة ، عن عمير بن سلمة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - [ ص: 342 ] قرأت على سعيد بن نصر أن قاسم بن أصبغ حدثهم قال : حدثنا عبد الله بن روح المدائني قال : حدثنا يزيد بن هارون قال أخبرنا يحيى بن سعيد أن محمد بن إبراهيم أخبره عن عيسى بن طلحة ، عن عمير بن سلمة الضمري .

وأخبرنا قاسم بن محمد ، واللفظ لحديثه قال : حدثنا خالد بن سعد قال : حدثنا أحمد بن عمرو قال : حدثنا محمد بن سنجر قال : حدثنا عارم قال : حدثنا حماد بن زيد قال : حدثني يحيى ، عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي ، عن عيسى بن طلحة ، عن عمير بن سلمة الضمري - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أقبل أو خرج ، وهم محرمون حتى إذا كانوا بالروحاء ، فإذا في بعض أفنائها حمار وحش عقير ، فقيل : يا رسول الله هذا حمار عقير ، فقال : دعوه حتى يأتي طالبه قال : فجاء رجل من بهز ، فقال : يا رسول الله أصبت هذا بالأمس ، فشأنكم به ، فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبا بكر أن يقسم لحمه بين الرفاق ، قال : ثم سار حتى إذا كان بالأثاية بين العرج والرويثة ، إذا ظبي حاقف في ظل فيه سهم ، فقيل : يا رسول الله هذا ظبي حاقف في ظل فيه سهم ، قال : لا يعرض له حتى يمر آخر الناس ، فأمر رجلا أن يقيم عنده حتى آخر الناس ) .

هكذا قال حماد بن زيد في هذا الحديث ، عن عمير بن سلمة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - .

وعمير بن سلمة من كبار الصحابة ، وقد ذكرناه في كتاب الصحابة بما يغني عن [ ص: 343 ] ذكره هاهنا .

فالحديث لعمير بن سلمة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما قال حماد بن زيد ، وتابعه على ذلك جماعة منهم : هشيم ، وعلي بن مسهر ، ويزيد بن هارون وجعله مالك ، عن عمير ، عن البهزي ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ومما يدلك على صحة رواية حماد بن زيد ومن تابعه ، عن يحيى بن سعيد على ما ذكرنا : أن يزيد بن الهادي ، وعبد ربه بن سعيد رويا هذا الحديث عن محمد بن إبراهيم ، عن عيسى بن طلحة ، عن عمير بن سلمة الضمري قال : خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفي حديث يزيد بن الهادي : بينما نحن مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

رواه الليث بن سعد هكذا عن يزيد بن الهادي ، وقال موسى بن هارون : والصحيح عندنا أن هذا الحديث رواه عمير بن سلمة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ليس بينه وبين النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه أحد .

قال : وذلك بين في رواية يزيد بن الهادي ، وعبد ربه بن سعيد قال موسى بن هارون : ولم يأت ذلك من مالك ; لأن جماعة رووه عن يحيى بن سعيد - كما رواه مالك ، ولكن إنما جاء ذلك من يحيى بن سعيد كان يرويه أحيانا فيقول فيه : عن البهزي ، وأحيانا لا يقول فيه : عن البهزي ، وأظن المشيخة الأولى كان ذلك جائزا عندهم ، وليس هو رواية عن فلان ، وإنما هو عن قصة فلان ; - هذا كله كلام موسى بن هارون .

قال أبو عمر : البهزي اسمه زيد بن كعب ، وقد ذكرناه في الصحابة .

[ ص: 344 ] قال أبو عمر : الروحاء والأثاية والعرج مواضع ومناهل بين مكة والمدينة ، وإلى العرج نسب العرجي الشاعر ، وقيل : بل نسب العرجي الشاعر إلى موضع آخر يدعى - أيضا - بالعرج قرب الطائف كان نزله ; لأنه كان له به مال .

واسم العرجي الشاعر : عبد الله بن عمر بن عمرو بن عثمان بن عفان ، وهو أشعر بني أمية .

وفي هذا الحديث من الفقه : أن كل ما صاد الحلال جائز للمحرم أكله ، وهذا موضع اختلف العلماء فيه قديما وحديثا ، واختلفت الآثار فيه - أيضا - وقد بينا ذلك وأوضحناه في باب ابن شهاب ، عن عبيد الله بن عبد الله ، وفي باب أبي النضر - أيضا - من هذا الكتاب ، والحمد لله .

وفيه - أيضا - دليل على أن المحرم لا يجوز له أن ينفر الصيد ، ولا يعين عليه ، ألا ترى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر رجلا أن يقف عند الظبي الحاقف حتى يجاوزه الناس لا يريبه أحد أي لا يمسه أحد ، ولا يحركه ، ولا يهيجه أحد ، والحاقف : الواقف المنثني والمنحني ، وكل منحن فهو محقوقف ، وإذا صار رأس الظبي بين يديه إلى رجليه ، وميل رأسه فهو حاقف ، ومحقوقف ; هذا قول الأخفش ، وقال غيره من أهل اللغة : الحاقف الذي قد لجأ إلى حقف ، وهو ما انعطف من الرمل .

[ ص: 345 ] وقال العجاج :


سماوة الهلال حتى احقوقفا

يعني انعطف ، وسماوته شخصه .

وقال أبو عبيد : حاقف يعني : قد انحنى وتثنى في نومه ، ويقال للرجل إذا انحنى : حقف فهو حاقف قال : وأما الأحقاف ، فجمع حقف ، ومن ذلك قول الله - عز وجل - ( إذ أنذر قومه بالأحقاف )

قال أبو عبيد إنما سميت منازلهم بالأحقاف ; لأنها كانت بالرمال .

وفي هذا الحديث - أيضا - من الفقه أن الصائد إذا أثبت الصيد برمحه أو نبله ، فقد ملكه بذلك إذا كان الصيد لا يمتنع من أجل ذلك الفعل ; لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوشك أن يأتي صاحبه .

وقد استدل قوم بهذا الحديث - أيضا - على جواز هبة المشاع لقول البهزي للجماعة : شأنكم بهذا الحمار ، ثم قسمه أبو بكر بينهم بأمر من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

وفيه من الفقه جواز أكل الصيد إذا غاب عنه صاحبه أو بات تحته ، وإذا عرف أنها رميته ، وليس في حديث مالك ما يدل على أن ذلك الظبي كان قد غاب عن صاحبه ليلة ، وذلك في حديث حماد بن زيد لقوله فيه : أصبت هذا بالأمس .

وقد اختلف الفقهاء في هذا المعنى ، فقال مالك : إذا أدركه الصائد من يومه أكله في الكلب والسهم جميعا ، وإن كان ميتا إذا كان فيه أثر جرحه ، وإن كان قد بات عنه لم يأكله .

[ ص: 346 ] وقال الثوري : إذا غاب عنه يوما وليلة كرهت أكله .

وقال أبو حنيفة ، وأصحابه : إذا توارى عنه الصيد ، وهو في طلبه فوجده وقد قتله جاز أكله ، فإن ترك الطلب ، واشتغل بعمل غيره ، ثم ذهب في طلبه ، فوجده مقتولا ، والكلب عنده كرهنا أكله .

وقال الأوزاعي : إذا وجده من الغد ميتا ، ووجد فيه سهما أو أثرا ، فليأكله .

وقال الشافعي : القياس ألا يأكله إذا غاب عنه .

وروي عن ابن عباس : كل ما أصبت ، ودع ما أنميت - يريد كل ما عاينت صيده وموته من سلاحك أو كلبك ، ودع ما غاب عنك .

وفي حديث أبي رزين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كره أكل ما غاب عنك مصرعه من الصيد ، وهو حديث مرسل ; لأنه ليسبأبي رزين العقيلي ، وإنما هو أبو رزين مولى أبي وائل .

رواه عنه موسى بن أبي عائشة من حديث الثوري وغيره .

وروى أبو ثعلبة الخشني ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الذي يدرك صيده بعد ثلاث يأكله ما لم ينتن .

وفي حديث عدي بن حاتم أنه سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الصيد يغيب عن صاحبه الليلة والليلتين ، فقال : إذا وجدت فيه سهمك ، ولم تجد أثر سبع ، وعلمت أن سهمك قتله ، فكله .

[ ص: 347 ] وفي حديث هذا الباب رد لقول أبي حنيفة وأصحابه في اشتراطهم التراخي في الطلب ; لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يقل للبهزي : هل تراخيت في طلبه ؟ وأباح أكله لأصحابه المحرمين ، ولم يسأله عن ذلك ، وبالله التوفيق ) .




الخدمات العلمية