الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      ولما أفاض عليهم سبحانه وتعالى ما أفاض من بحار الحجاج المفرقة بالأمواج وقرر ما أراد من شرائع الإسلام على وجه الإتقان [ ص: 280 ] والإحكام وأرشد هذا السياق المذكور فيه ثواب المطيع وعقاب العاصي إلى أن التقدير : فإلهكم إله واحد لا شريك له يدافعه عما يريد لا إله إلا هو المنتقم من أعدائه العظيم في كبريائه ، عطف عليه مكررا الزاجر لكل منافق وكافر ومذكرا بالعاطف لكل موافق مؤالف قوله تعالى : وإلهكم ولما كان المراد أن الوحدة معتبرة في نفس الأمر في الإله الحق ، فلا يصح أصلا أن يكون الإله الحق منقسما بالنوع ولا بالشخص ولا بالوصف ولا بالفعل ولا بغير ذلك بوجه من الوجوه أعاد لفظ الإله فقال : إله واحد أي : لا ينقسم بوجه من الوجوه لا بمجانسة ولا بغيرها وهو مع ذلك لا إله إلا هو فهذا تقرير للوحدانية بنفي غيره وإثباته فلا يصح [ ص: 281 ] بوجه ولا يمكن في عقل أن يصلح للإلهية غيره أصلا فلا يستحق العبادة إلا هو لأنه الرحمن أي : العام الرحمة بالنعم الزائلة لأوليائه وأعدائه الرحيم أي : المخصص بالنعم الباقية لأوليائه ، فثبت بالتفرد بالألوهية أنه حائز بجميع العظمة وبيده مجامع الكبرياء والقهر ، وبوصفي الرحمة أنه مفيض لجلائل النعم ودقائقها فكل ما سواه إما نعمة أو منعم عليه ، فهو المخشي سطوته المرجو رحمته يغفر لمن يشاء ويلعن من كفر ويخلده في العذاب من غير أن يقدر [ ص: 282 ] غيره أن يعترض عليه في شيء من ذلك ; ولا يبعد عندي وإن بعد المدى أن تكون الواو في قوله " وإلهكم " عاطفة على قوله في أوائل السورة وهو بكل شيء عليم قبل قوله وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة فإن التوحيد هو المقصود بالذات وعنه تنشأ جميع العبادات ، فلما قال أولا يا أيها الناس اعبدوا ربكم أتبعه في قوله الذي خلقكم إلى آخره بوصف هو دليل استحقاقه للعبادة ، فلما قام الدليل قال : فلا تجعلوا لله أندادا إعلاما بأنه لا شريك له في العبادة كما أنه قد تبين أنه لا شريك له في الخلق ، ثم أتبعه بما يليق لذلك المقام مما تقدم التنبيه عليه ، ثم رجع إليه قائلا ثانيا كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم إلى آخرها فأعاد الدليل على وجه أبين من الأول وأبسط ، فلما تقرر على وجه لا مطعن فيه أمر الوحدانية والإعادة كان الأنسب ما أولاه من الآيات السابقة لما ذكر فيها من غير ذلك من المهمات إلى أن صار إلى ذكر الكاتمين والتائبين والمصرين وذكر ما أعد لكل من الجزاء فأتبع ذلك هذه الآية عاطفا لها على ما ذكرته على وجه أصرح مما تقدم في إثبات التوحيد بيانا لما هو الحق وإشارة إلى أنه تعالى ليس كملوك الدنيا الذين قد يحول بينهم وبين إثابة بعض الطائعين وعقوبة بعض العاصين [ ص: 283 ] بعض أتباعهم ، فإنه واحد لا كفؤ له بل ولا مدانى فلا مانع لنفوذ أمره ; ولا يستنكر تجويز هذا العطف لأنه جرت عادة البلغاء أن أحدهم إذا أراد إقامة الحج على شيء لأمر يرتبه عليه أن يبدأ بدليل كاف ثم يتبعه تقريب الثمرات المجتناة منه ثم يعود إلى تأكيده على وجه آخر لتأنس به النفوس وتسر به القلوب ، وربما كان الدليل طويل الذيول كثير الشعب ، فيشرح كل ما يحتاج إليه من ذيوله وما يستتبعه من شعبه ، فإذا استوفى ذلك ورأى أن الخصم لم يصل إلى غاية الإذعان أعاد له الدليل على وجه آخر عاطفا له على الوجوه الأول تذكيرا بما ليس بمستنكر ذلك في مجاري عاداتهم ومباني خطاباتهم ; ومن تأمل مناظرات الباقلاني وأضرابه من أولي الحفظ الواسع والتبحر في العلم علم ذلك وقال الحرالي : ولما كان مضمون الكتاب دعوة الخلق إلى الحق ، والتعريف بحق الحق على الخلق ، وإظهار مزايا من اصطفاه الله تعالى ممن شملهم أصل الإيمان من ملائكته وأنبيائه ورسله ومن يلحق بهم من أهل ولايتهم ، وإظهار شواهد ذلك منهم وإقامة الحجة بذلك على من دونهم في إلزامهم أتباعهم ، وكان الضار للخلق إنما هو الشتات كان النافع لهم إنما هو الوحدة ، فلما أظهر لهم تعالى مرجعهم إلى وحدة أبوة آدم عليه الصلاة والسلام في جمع الذرية [ ص: 284 ] ووحدة أبوة إبراهيم عليه الصلاة والسلام في جمع الإسلام ووحدة أحمدية محمد صلى الله عليه وسلم في جمع الدين فاتضح لهم عيب الشتات والتفرق وتحقق لهم شاهد النفع في الجمع إلى وحدات كان ذلك آية على أعظم الانتفاع بالرجوع إلى وحدة الإلهية في أمر الحق وفي إفهام ذلك وحدات ما يظن في ظاهر الوحدات الظاهرة من وحدة الروح ووحدة النفس والعقل فقال تعالى عطفا على ما ظهر بناؤه من الوحدات الظاهرة وما أفاده إفهامها من الوحدات الباطنة : وإلهكم إله واحد فإذا قبح الشتات مع وحدة الأب الوالد فكيف به مع وحدة الأب المدين ! فكيف به مع وحدة النبي المكمل ! فكيف به مع وحدة الإله الذي هو الرحمن الذي شمل خلقه رحمانية ! الرحيم الذي اختص أولياءه وأصفياءه عناية فجمعهم بوحدته التي هي قائم كل وحدة دونه ! فجميع أسمائه لها وحدة تنتهي وحدتها إلى وحدة الإله الذي انتهى إليه الإله وهو تعبد الظاهر لإلجاء المتعبد إليه في كل حاجاته وإقاماته الظاهرة والباطنة ، ولا أتم من وحدة ما لا يتصوره [ ص: 285 ] العقل ولا يدركه الحس في علو وحدة الغيب الذي لا يبدو فيه ذات فيكون لها أو فيها كميات ولا كيفيات ; ثم قال : وقد صح بالتجربة أن الراحة في حصبة الواحد وأن التعب في اتباع العدد لاختصاص كل واحد بقصد في التابع يتشاكس عليه لذلك حال أتباعهم ، فكان أعظم دعوة إلى جمع الخلق دعوتهم إلى جمع توحيد الإلهية انتظاما بما دعوا إليه من الاجتماع في اسم الربوبية في قوله تعالى متقدما يا أيها الناس اعبدوا ربكم فإعلاء الخطاب من رتبة الربوبية إلى رتبة هذه الدعوة بالإلهية لتعلو من هذا الحد إلى الدعوة إلى الله الأحد الذي أحديته مركوزة في كافة فطر الخلق وجبلاتهم حين لم يقع الشرك فيه بوجه وإنما وقع في رتبة الإلهية ، فكان هذا أوسط الدعوة بالاجتماع في وحدة الإلهية وفي إضافة اسم الإله إليهم أتم تنزل بمقدار معقولهم من تعبدهم الذي هو تألههم ; ولما كان في الإلهية دعوى كثرة توهم الضلال المبين أتبع ذلك بكلمة التوحيد بناء على اسمه المضمر في باطن ظاهر الإلهية فقال تعالى : لا إله إلا هو ردا على إضمار ما في الأول ولم يذكر اسمه المظهر ليكون للدعوة إليه رتبة عالية تكون هذه متوقلا إليها ، ولما كان هذا التوحيد الإلهي أمر غيب من الإله أظهره سبحانه [ ص: 286 ] وتعالى بمظهر الرحمانية المحيطة الشاملة والرحيمية الاختصاصية لما عند الخلق من شاهد ذلك فيما يجدونه من أثر الرحمانية في دنياهم وآثارهم وما يجدون من آثار الرحيمية [في اختصاصهم المزية في تضاعف رحمته ، فكان في مجموع هذه الآية أعظمية من غيب الإلهية إلى تمام اختصاص الرحيمية ] ، فلذلك كانت هذه الآية مع آية الإحاطة في [أول ] آل عمران الجامعة لمقابلة ما في هذه الآية من خصوص الرحيمية مع خصوص مقابلها من وصف الانتقام الظاهر عن وصف العزة الذي أبداه قوله سبحانه وتعالى :

                                                                                                                                                                                                                                      والله عزيز ذو انتقام فكانت هذه الآية لذلك مع الم الله لا إله إلا هو الحي القيوم اسم الله الأعظم المحيط بالغيب والشهادة جمعا للرحمة والنقمة في الظاهر وإحاطة عظمة في الباطن ، فكان هذا الحد من علو الخطاب ابتداء رفع الخلق [ ص: 287 ] إلى التعلق باسم الله الأعظم الذي يرفعهم عن سفل تقيدهم بأنفسهم المحقرة إظهارا لمبدأ العناية بهذه الأمة الخاتمة . انتهى .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية