الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدى من يضل وما لهم من ناصرين استئناف بياني ; لأن تقسيم كل أمة ضالة إلى مهتد منها وباق على الضلال يثير سؤالا في نفس النبيء - صلى الله عليه وسلم - عن حال هذه الأمة : أهو جار على حال الأمم التي قبلها ، أو أن الله يهديهم جميعا ، وذلك من حرصه على خيرهم ورأفته بهم ، فأعلمه الله أنه مع حرصه على هداهم فإنهم سيبقى منهم فريق على ضلالة .

وفي الآية لطيفتان :

الأولى : التعريض بالثناء على النبيء - صلى الله عليه وسلم - في حرصه على خيرهم مع ما لقيه منهم من الأذى الذي شأنه أن يثير الحنق في نفس من يلحقه الأذى ، ولكن نفس محمد - صلى الله عليه وسلم - مطهرة من كل نقص ينشأ عن الأخلاق الحيوانية .

واللطيفة الثانية : الإيماء إلى أن غالب أمة الدعوة المحمدية سيكونون مهتدين ، وأن الضلال منهم فئة قليلة ، وهم الذين لم يقدر الله هديهم في سابق علمه بما نشأ عن خلقه وقدرته من الأسباب التي هيأت لهم البقاء في الضلال .

والحرص : فرط الإرادة الملحة في تحصيل المراد بالسعي في أسبابه .

والشرط هنا ليس لتعليق حصول مضمون الجواب على حصول مضمون الشرط ; لأن مضمون الشرط معلوم الحصول ; لأن علاماته ظاهرة بحيث يعلمه [ ص: 152 ] الناس ، كما قال تعالى حريص عليكم ، وإنما هو لتعليق العلم بمضمون الجواب على دوام حصول مضمون الشرط ، فالمعنى : إن كنت حريصا على هداهم حرصا مستمرا فاعلم أن من أضله الله لا تستطيع هديه ، ولا تجد لهديه وسيلة ، ولا يهديه أحد ، فالمضارع مستعمل في معنى التجدد لا غير ، كقول عنترة :


إن تغد في دوني القناع فإنني طب بأخذ الفارس المستلئم



وأظهر منه في هذا المعنى قوله أيضا :

إن كنت أزمعت الفراق فإنما     زمت ركابكم بليل مظـلـم



فإن فعل الشرط في البيتين في معنى : إن كان ذلك تصميما ، وجواب الشرط فيهما في معنى إفادة العلم .

وجعل المسند إليه في جملة الإخبار عن استمرار ضلالهم اسم الجلالة للتهويل المشوق إلى استطلاع الخبر ، والخبر هو أن هداهم لا يحصل إلا إذا أراده الله ، ولا يستطيع أحد تحصيله لا أنت ولا غيرك ، فمن قدر الله دوام ضلاله فلا هادي له ، ولولا هذه النكتة لكان مقتضى الظاهر أن يكون المسند إليه ضمير المتحدث عنهم بأن يقال : فإنهم لا يهديهم غير الله .

وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وأبو جعفر ويعقوب ( لا يهدى ) بضم الياء وفتح الدال مبنيا للنائب . وحذف الفاعل للتعميم ، أي لا يهديه هاد .

و ( من ) نائب فاعل ، وضمير ( يضل ) عائد إلى الله ، أي فإن الله لا يهدي المضلل بفتح اللام منه ، فالمسند سببي وحذف الضمير السببي المنصوب لظهوره ، وهو في معنى قوله ومن يضلل الله فما له من هاد ، وقوله تعالى من يضلل الله فلا هادي له .

وقرأه عاصم وحمزة والكسائي وخلف ( لا يهدي ) بفتح الياء بالبناء للفاعل ، وضمير اسم الجلالة هو الفاعل ، و ( من ) مفعول ( يهدي ) ، والضمير [ ص: 153 ] في ( يضل ) لله ، والضمير السببي أيضا محذوف ، والمعنى : أن الله لا يهدي من قدر دوام ضلاله ، كقوله تعالى وأضله الله على علم إلى قوله فمن يهديه من بعد الله .

ومعنى وما لهم من ناصرين ما لهم ناصر ينجيهم من العذاب ، أي كما أنهم ما لهم منقذ من الضلال الواقعين فيه ما لهم ناصر يدفع عنهم عواقب الضلال .

التالي السابق


الخدمات العلمية