الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      إلا من رحم ربك متصل على الأول وهو الذي اختاره أبو حيان وجماعة، وعلى الثاني منقطع حيث لم يخرج من رحمة الله تعالى من المختلفين كأئمة أهل الحق، فإنهم أيضا مختلفون فيما سوى أصول الدين من الفروع، وإلى هذا ذهب الحوفي ومن تبعه.

                                                                                                                                                                                                                                      ولذلك خلقهم أي الناس، والإشارة -كما روي عن الحسن، وعطاء- إلى المصدر المفهوم من (مختلفين) ونظيره: إذا نهي السفيه جرى إليه. كأنه قيل: وللاختلاف خلق الناس على معنى لثمرة الاختلاف من كون فريق في الجنة وفريق في السعير خلقهم، واللام لام العاقبة والصيرورة لأن حكمة خلقهم ليس هذا لقوله سبحانه: وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ولأنه لو خلقهم له لم يعذبهم على ارتكاب الباطل كذا قال غير واحد، وروي عن الإمام مالك ما يقتضيه، وعندي أنه لا ضير في الحمل على الظاهر ولا منافاة بين هذه الآية والآية التي ذكروها لما ستعلمه إن شاء الله تعالى من تفسيرها في الذاريات، وما يروى فيها من الآثار وأن الخلق من توابع الإرادة التابعة للعلم التابع للمعلوم في نفسه، والتعذيب أو الإثابة ليس إلا لأمر أفيض على المعذب والمثاب بحسب الاستعداد الأصلي، وربما يرجع هذا بالآخرة إلى أن التعذيب والإثابة من توابع ذلك الاستعداد الذي عليه المعذب أو المثاب في نفسه، ومن هنا قالوا: إن المعصية والطاعة أمارتان على الشقاوة والسعادة لا مقتضيتان لهما، وبذلك يندفع قولهم: ولأنه لو خلقهم له لم يعذبهم، ولما قررناه شواهد كثيرة من الكتاب والسنة لا تخفى على المستعدين لإدراك الحقائق، وقيل: ضمير ( خلقهم ) لمن باعتبار معناه، والإشارة للرحمة المفهومة من ( رحم)، والتذكير لتأويلها بأن والفعل أو لكونها بمعنى الخير، وروي ذلك عن مجاهد وقتادة، وروي عن ابن عباس أن الضمير للناس والإشارة للرحمة والاختلاف أي لاختلاف الجميع ورحمة بعضهم ( خلقهم ) وجاءت الإشارة لاثنين كما في قوله تعالى: عوان بين ذلك واللام على هذا قيل: بمعنى [ ص: 165 ] مجازي عام للمعنى الظاهر والصيرورة وعلى ما قبله على معناها، وأظهر الأقوال في الإشارة والضمير ما قدمناه، والقولان الآخران دونه، وأما القول بأن الإشارة لما بعد، وفي الكلام تقديم وتأخير أي -وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم إلخ، ولذلك أي لملء جهنم خلقهم- فبعيد جدا من تراكيب كلام العرب، ومن هذا الطرز ما قيل: إن ذلك إشارة إلى شهود ذلك اليوم المشهود وكذا ما قيل: إنه إشارة إلى قوله تعالى: فمنهم شقي وسعيد أو إلى الشقاوة والسعادة المفهومتين من ذلك، أو إلى أن يكون فريق في الجنة وفريق في السعير، أو إلى النهي المفهوم من قوله سبحانه: ينهون عن الفساد في الأرض ، أو إلى الجنة والنار، أو إلى العبادة إلى غير ذلك من الأقوال التي يتعجب منها.

                                                                                                                                                                                                                                      وذهب بعض المحققين في معنى الآية إلى أن المراد من الوحدة الوحدة في الدين الحق، ومن الاختلاف الاختلاف فيه على معنى المخالفة له كما في قوله تعالى: وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم والمراد -بمن رحم- الذين هداهم الله تعالى ولم يخالفوا الحق، والإشارة للاختلاف بمعنى المخالفة، وضمير ( خلقهم ) للذين بقوا بعد الثنيا وهم المختلفون المخالفون، واللام للعاقبة كأنه قيل: ولو شاء ربك لجعل الناس على الحق ودين الإسلام لكنه لم يشأ فلم يجعل، ولا يزالون مخالفين للحق إلا قوما هداهم سبحانه بفضله فلم يخالفوا الحق، ولما ذكر من الاختلاف خلق المختلفين المخالفين ولا يخفى ما فيه من ارتكاب خلاف الظاهر، وإن أخرج ابن جرير ، وأبو الشيخ عن مجاهد ما يقتضي بعضه.

                                                                                                                                                                                                                                      ومن الغريب ما روي عن الحسن أن المراد من الاختلاف الاختلاف في الأرزاق والأحوال وتسخير بعضهم بعضا، وقال ابن بحر: المراد أن بعضهم يخلف بعضا فيكون الآتي خلفا للماضي، ومنه ما اختلف الجديدان أي ما خلف أحدهما صاحبه، وإلى هذا ذهب أبو مسلم إلا أنه قال: يخلف بعضهم بعضا في الكفر تقليدا، وفي ذلك ما فيه، وأيا ما كان فالظاهر من الناس العموم وليتأمل هذه الآية مع قوله تعالى: وما كان الناس إلا أمة واحدة وليراجع تفسير ذلك.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الفاضل الجلبي: ليس في هذه الآية ما يدل على عموم الناس حتى تخالف وما كان الناس إلخ.. وفيه نظر، والجار والمجرور أعني لذلك متعلق -بخلق- بعده، والظاهر أن الحصر المستفاد من التقديم إذا قلنا: إن التقديم له إضافي والمضاف هو إليه مختلف حسب اختلاف الأقوال في تعيين المشار إليه، وهو على الأول الاتفاق، وعلى ما عداه يظهر أيضا بأدنى التفات، هذا واستدل بالآية على أن الأمر غير الإرادة وأنه تعالى لم يرد الإيمان من كل وإن ما أراده سبحانه يجب وقوعه.

                                                                                                                                                                                                                                      وذكر بعض العارفين أن منشأ تشييب سورة هود له صلى الله تعالى عليه وسلم اشتمالها على أمره عليه الصلاة والسلام بالاستقامة على الدعوة مع إخباره أنه سبحانه إنما خلق الناس للاختلاف وأنه لا يشاء اجتماعهم على الدين الحق وهو كما ترى وتمت كلمة ربك أي نفذ قضاؤه وحق أمره، وقد تفسر الكلمة بالوعيد مجازا، وقد يراد منها الكلام الملقى على الملائكة عليهم السلام؛ والأول أولى، والجملة متضمنة معنى القسم، ولذا جيء باللام في قوله سبحانه: ( لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين ) والجنة والجن بمعنى واحد؛ وفي تفسير ابن عطية أن الهاء في الجنة للمبالغة وإن كان الجن يقع على الواحد، فالجنة جمعه، انتهى، فيكون من الجموع التي [ ص: 166 ] يفرق بينها وبين مفردها بالهاء ككمء وكمأة على ما ذكرناه في تعليقاتنا على الألفية، وفي الآية سؤال مشهور وهو أنها تقتضي بظاهرها دخول جميع الفريقين في جهنم والمعلوم من الآيات والأخبار خلافه، وأجاب عن ذلك القاضي بما حاصله أن المراد -بالجنة والناس- إما عصاتهما على أن التعريف للعهد والقرينة عقلية لما علم من الشرع أن العذاب مخصوص بهم وأن الوعيد ليس إلا لهم، وفي معنى ذلك ما قيل: المراد -بالجنة والناس- أتباع إبليس لقوله سبحانه في الأعراف وص: لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين فاللازم دخول جميع تابعيه في جهنم ولا محذور فيه، والقرآن يفسر بعضه بعضا، ولا حاجة إلى تقدير عصاة مضافا إلى الفريقين كما قيل فأجمعين- لاستغراق الأفراد المرادة حسبما علمت، وأما ما يتبادر منهما ويراد من التأكيد بيان أن ملء جهنم من الصنفين لا من أحدهما فقط، وهذا لا يقتضي شمول أفراد كلا الفريقين ويكون داخلوها منهما مسكوتا عنه موكولا إلى شيء آخر، واعترض الأخير بأنه مبني على وقوع (أجمعين) تأكيدا للمثنى وهو خلاف ما صرحوا به، وفيه أن ذلك إذا كان لمثنى حقيقي لا إذا كان كل فرد منه جمعا فإنه حينئذ تأكيد للجمع في الحقيقة فلا ورود لما ذكر.

                                                                                                                                                                                                                                      نعم يرد على الشق الأول أن التأكيد يقتضي دخول جميع العصاة في النار والمعلوم من النصوص خلافه اللهم إلا أن يقال: المراد العصاة الذين قدر الله تعالى أن يدخلوها، وأجاب بعضهم بأن ذلك لا يقتضي دخول الكل بل قدر ما يملأ جهنم كما إذا قيل: ملأت الكيس من الدراهم لا يقتضي دخول جميع الدراهم في الكيس، ورده الجلال الدواني بأنه نظير أن يقال: ملأت الكيس من جميع الدراهم وهو بظاهره يقتضي دخول جميع الدراهم فيه، والسؤال عليه كما في الآية باق بحاله، ثم قال: والحق في الجواب أن يقال: المراد بلفظ ( أجمعين ) تعميم الأصناف، وذلك لا يقتضي دخول جميع الأفراد كما إذا قلت: ملأت الجراب من جميع أصناف الطعام لا يقتضي ذلك إلا أن يكون فيه شيء من كل صنف من الأصناف لا أن يكون فيه جميع أفراد الطعام، وكقولك: امتلأ المجلس من جميع أصناف الناس فإنه لا يقتضي أن يكون في المجلس جميع أفراد الناس، بل أن يكون فيه من كل صنف فرد وهو ظاهر، وعلى هذا يظهر فائدة لفظ ( أجمعين ) إذ فيه رد على اليهود وغيرهم ممن زعم أنهم لا يدخلون النار، انتهى، وتعقبه ابن الصدر بقوله: فيه بحث لأنهم صرحوا بأن فائدة التأكيد -بكل وأجمعين- دفع توهم عدم الشمول والإحاطة بجميع الأفراد، وما ذكره من المثالين فإنما نشأ شمول الأصناف فيه من إضافة لفظ الجميع إلى الأصناف كيف ولو قيل: ملأت الجراب من جميع الطعام بإسقاط لفظ الأصناف كان الكلام فيه كالكلام فيما نحن فيه، وأيضا ما ذكره من أن في ذلك ردا على اليهود إلخ غير صحيح لأن اليهود قالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة فكيف يزعمون أنهم لا يدخلونها أصلا فتدبر ذاك والله سبحانه يتولى هداك.

                                                                                                                                                                                                                                      وأجاب بعضهم بمنزع صوفي وهو أن المراد من ( الجنة والناس ) الذين بقوا في مرتبة الجنية والإنسية حيث انغمسوا في ظلمات الطبيعة وانتكبوا في مقر الإجرام العنصرية ولم يرفعوا إلى العالم الأعلى واطمأنوا بالحياة الدنيا ورضوا بها وانسلخوا عن عالم المجردات وهم المشركون الذين قيل في حقهم: إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام إلخ فإنهم لا يستأهلون دار الله تعالى وقربه، ثم قال: ولهذا ترى الله تعالى شأنه يذم الإنسان ويدعو عليه في غير ما موضع

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية