الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            كتاب مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم

            تسليما كثيرا ، وذكر شيء من البشارات بذلك

            قال محمد بن إسحاق رحمه الله : وكانت الأحبار من اليهود والرهبان من النصارى والكهان من العرب قد تحدثوا بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه لما تقارب زمانه أما الأحبار من اليهود والرهبان من النصارى فعما وجدوا في كتبهم من صفته وصفة زمانه وما كان من عهد أنبيائهم إليهم فيه قال الله تعالى الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل الآية [ الأعراف : 157 ] وقال الله تعالى وإذ قال عيسى ابن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد [ الصف : 6 ] وقال الله تعالى محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل الآية [ الفتح : 29 ] وقال الله تعالى وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين [ آل عمران : 81 ] وفي صحيح البخاري عن ابن عباس قال ما بعث الله نبيا إلا أخذ عليه الميثاق لئن بعث محمد وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه ، وأمره أن يأخذ على أمته الميثاق لئن بعث محمد ، وهم أحياء ليؤمنن به ولينصرنه وليتبعنه يعلم من هذا أن جميع الأنبياء بشروا وأمروا باتباعه .

            وقد قال إبراهيم عليه السلام فيما دعا به لأهل مكة ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك الآية [ البقرة : 129 ] وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو النضر حدثنا الفرج بن فضالة حدثنا لقمان بن عامر سمعت أبا أمامة قال قلت : يا رسول الله ما كان بدء أمرك قال : دعوة أبي إبراهيم ، وبشرى عيسى ، ورأت أمي أنه يخرج منها نور أضاءت له قصور الشام وقد روى محمد بن إسحاق عن ثور بن يزيد عن خالد بن معدان عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه مثله . ومعنى هذا أنه أراد بدء أمره بين الناس ، واشتهار ذكره وانتشاره فذكر دعوة إبراهيم الذي تنسب إليه العرب ، ثم بشرى عيسى الذي هو خاتم أنبياء بني إسرائيل ، كما تقدم يدل هذا على أن من بينهما من الأنبياء بشروا به أيضا .

            أما في الملأ الأعلى فقد كان أمره مشهورا مذكورا معلوما من قبل خلق آدم عليه الصلاة والسلام كما قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرحمن بن مهدي حدثنا معاوية بن صالح عن سعيد بن سويد الكلبي عن عبد الأعلى بن هلال السلمي عن العرباض بن سارية قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إني عبد الله خاتم النبيين ، وإن آدم لمنجدل في طينته ، وسأنبئكم بأول ذلك ، دعوة أبي إبراهيم ، وبشارة عيسى بي ، ورؤيا أمي التي رأت ، وكذلك أمهات النبيين ترين وقد رواه الليث عن معاوية بن صالح ، وقال : إن أمه رأت - حين وضعته - نورا أضاءت منه قصور الشام .

            وقال الإمام أحمد أيضا : حدثنا عبد الرحمن حدثنا منصور بن سعد عن بديل بن ميسرة عن عبد الله بن شقيق عن ميسرة الفجر قال قلت : يا رسول الله متى كنت نبيا ؟ قال : وآدم بين الروح والجسد تفرد بهن أحمد .

            وقد رواه عمر بن أحمد بن شاهين في كتاب دلائل النبوة من حديث أبي هريرة فقال : حدثنا عبد الله بن محمد بن عبد العزيز - يعني أبا القاسم البغوي - حدثنا أبو همام الوليد بن مسلم عن الأوزاعي حدثني يحيى عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم متى وجبت لك النبوة ؟ قال : بين خلق آدم ونفخ الروح فيه ورواه من وجه آخر عن الأوزاعي به . وقال وآدم منجدل في طينته .

            وروي عن البغوي أيضا عن أحمد بن المقدام عن بقية بن سعيد بن بشير عن قتادة عن أبي هريرة مرفوعا في قول الله تعالى وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح [ الأحزاب : 7 ] قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : كنت أول النبيين في الخلق ، وآخرهم في البعث ومن حديث ابن مزاحم عن قيس بن الربيع عن جابر عن الشعبي عن ابن عباس قيل يا رسول الله متى كنت نبيا ؟ قال : وآدم بين الروح والجسد .

            وأما الكهان من العرب فأتتهم به الشياطين من الجن مما تسترق من السمع ، إذ كانت لا تحجب عن ذلك بالقذف بالنجوم وكان الكاهن والكاهنة لا يزال يقع منهما بعض ذكر أموره ولا يلقي العرب لذلك فيه بالا حتى بعثه الله تعالى ، ووقعت تلك الأمور التي كانوا يذكرون فعرفوها فلما تقارب أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وحضر زمان مبعثه حجبت الشياطين عن السمع ، وحيل بينها وبين المقاعد التي كانت تقعد لاستراق السمع فيها فرموا بالنجوم فعرفت الجن أن ذلك لأمر حدث من أمر الله عز وجل . قال وفي ذلك أنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا [ الجن : 1 ، 2 ] إلى آخر السورة وقد ذكرنا تفسير ذلك كله في كتابنا التفسير ، وكذا قوله تعالى وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا فلما قضي ولوا إلى قومهم منذرين قالوا يا قومنا إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى مصدقا لما بين يديه يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم الآيات [ الأحقاف : 29 ، 30 ] ذكرنا تفسير ذلك كله هناك .

            قال محمد بن إسحاق : حدثني يعقوب بن عتبة بن المغيرة بن الأخنس أنه حدث أن أول العرب فزع للرمي بالنجوم حين رمي بها هذا الحي من ثقيف ، وأنهم جاءوا إلى رجل منهم يقال له : عمرو بن أمية أحد بني علاج وكان أدهى العرب وأنكرها رأيا فقالوا له : يا عمرو ألم تر ما حدث في السماء من القذف بهذه النجوم ؟ قال : بلى فانظروا فإن كانت معالم النجوم التي يهتدى بها في البر والبحر ، ويعرف بها الأنواء من الصيف والشتاء لما يصلح الناس في معايشهم هي التي يرمى بها فهو والله طي الدنيا ، وهلاك هذا الخلق ، وإن كانت نجوما غيرها ، وهي ثابتة على حالها فهذا لأمر أراد الله به هذا الخلق فانظروا ما هو ؟

            قال ابن إسحاق : وحدثني بعض أهل العلم أن امرأة من بني سهم يقال لها : الغيطلة كانت كاهنة في الجاهلية جاءها صاحبها ليلة من الليالي فانقض تحتها ، ثم قال : أدر ما أدر يوم عقر ونحر . قالت قريش حين بلغها ذلك : ما يريد ؟ ثم جاءها ليلة أخرى فانقض تحتها ، ثم قال : شعوب ما شعوب ؟ يصرع فيه كعب لجنوب . فلما بلغ ذلك قريشا قالوا : ماذا يريد ؟ إن هذا لأمر هو كائن فانظروا ما هو فما عرفوه حتى كانت وقعة بدر وأحد بالشعب فعرفوا أنه كان الذي جاء به إلى صاحبته .

            قال ابن إسحاق : وحدثني علي بن نافع الجرشي أن جنبا - بطنا من اليمن - كان لهم كاهن في الجاهلية فلما ذكر أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وانتشر في العرب قالت له جنب : انظر لنا في أمر هذا الرجل ، واجتمعوا له في أسفل جبله فنزل إليهم حين طلعت الشمس فوقف لهم قائما متكئا على قوس له فرفع رأسه إلى السماء طويلا ثم جعل ينزو ، ثم قال : أيها الناس إن الله أكرم محمدا واصطفاه وطهر قلبه وحشاه ومكثه فيكم أيها الناس قليل ، ثم اشتد في جبله راجعا من حيث جاء ، ثم ذكر ابن إسحاق قصة سواد بن قارب وقد أخرناها إلى هواتف الجان . باب: ذكر أمارات النبوة

            قال مؤلف الكتاب: ما زالت الأنبياء قبل ظهور نبينا صلى الله عليه وسلم وعلماء الكتب تعد به ، حتى كانوا يقولون: قد قرب زمانه ، وفي هذا الزمان يظهر .

            أخبرنا ابن الحصين قال: أخبرنا ابن المذهب قال: أخبرنا أبو بكر بن مالك قال:

            حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: حدثني أبي قال: حدثني يعقوب قال: أخبرنا أبي ، عن ابن إسحاق قال: حدثني صالح بن عبد الرحمن بن عوف ، عن محمود بن لبيد ، عن سلمة بن سلامة بن وقش قال:

            كان لنا جار من اليهود في بني عبد الأشهل قال: فخرج علينا يوما من بيته قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم [بيسير] حتى وقف على [مجلس] بني عبد الأشهل - قال سلمة: وأنا يومئذ أحدث من فيه سنا علي بردة مضطجع فيها بفناء أهلي - فذكر البعث والقيامة والحساب والميزان والجنة والنار .

            فقال: ذلك لقوم أهل شرك وأصحاب أوثان لا يرون أن البعث [كائنا] بعد الموت .

            فقالوا له: ويحك يا فلان ، ترى هذا كائنا بأن الناس يبعثون بعد موتهم إلى دار فيها جنة ونار يجزون [فيها] بأعمالهم؟ قال: نعم ، والذي نحلف به لود أن له بحظه من تلك النار أعظم تنور في الدنيا تحمونه ثم تدخلونه إياه ، فتطبقونه عليه ، وأن تنجوا من بين [تلك] النار غدا . قالوا له: ويحك وما آية ذلك؟ قال: نبي يبعث من نحو هذه البلاد .

            وأشار بيده نحو مكة واليمن .
            قالوا: ومتى نراه؟ قال: فنظر إلي وأنا أحدثهم سنا فقال:

            إن يستنفذ هذا الغلام عمره يدركه . قال سلمة: فو الله ما ذهب الليل والنهار حتى بعث الله عز وجل رسوله صلى الله عليه وسلم ، وهو حي بين أظهرنا فآمنا به وكفر به بغيا وحسدا . فقلنا:

            ويلك يا فلان ، ألست الذي قلت لنا فيه ما قلت؟ قال: بلى وليس به .

            أنبأنا عبد الوهاب بن المبارك قال: أخبرنا عاصم بن الحسين قال: أخبرنا أبو الحسين بن بشران قال: أخبرنا عثمان بن أحمد الدقاق قال: أخبرنا أبو الحسن بن البراء قال ، أخبرنا الفضل بن غانم قال: حدثنا سلمة قال: حدثني محمد بن إسحاق ، عن عاصم بن عمر بن قتادة ، عن رجل من قومه قال:

            إن مما دعانا إلى الإسلام مع رحمة الله إيانا وهداه لما كنا نسمع من يهود ، كنا أهل شرك أصحاب أوثان ، وكانوا أهل كتاب عندهم علم ليس عندنا ، وكانت لا تزال بيننا وبينهم شرور ، فإذا نلنا منهم بعض ما يكرهون قالوا لنا: إنه قد تقارب زمان نبي يبعث الآن نتبعه ، فنقتلكم معه قتل عاد وإرم ، وكنا كثيرا ما نسمع ذلك منهم فلما بعث الله عز وجل رسوله أجبناه حين دعانا إلى الله ، وعرفنا ما كانوا يتواعدونا ، فبادرناهم إليه ، وآمنا به ، وكفروا ، ففينا وفيهم نزلت هذه الآيات ، ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم إلى قوله ، فلعنة الله على الكافرين .

            وعن عاصم عن شيخ من بني قريظة قال: قال لي: هل تدرون عما كان إسلام ثعلبة بن سعيد وأسيد بن سعيد ، وأسد بن عبيد ، نفر من بني ذهل أخوة بني قريظة ، كانوا معهم في جاهليتهم ثم كانوا ساداتهم في الإسلام . قال ، قلت: لا أدري . قال:

            فإن رجلا من يهود من أهل الشام يقال له: ابن الهيبان ، قدم علينا قبل الإسلام بسنين ، فحل بين أظهرنا ، لا والله ما رأينا رجلا قط كان يصلي الخمس أفضل منه ، فأقام عندنا ، فكنا إذا قحط عنا المطر قلنا له: اخرج يا بن الهيبان فاستسق لنا . فيقول: لا والله حتى تقدموا بين يدي مخرجكم صدقة [فنقول له: كم؟ فيقول:] صاعا من تمر أو مدين من شعير . قال: فيخرج ذلك ، ثم يخرج بنا إلى ظاهر حرتنا فيستسقي لنا ، فو الله ما يبرح مجلسه حتى يمر السحاب ويسقى ، قد فعل ذلك غير مرة ، ولا مرتين ، ولا ثلاثا . قال:

            ثم حضرته الوفاة عندنا ، فلما عرف أنه ميت قال ، يا معشر يهود ما ترونه أخرجني من أرض الخمر والخمير إلى أرض الجوع والبؤس؟ قال: قلنا: أنت أعلم . قال: فإني إنما قدمت هذه البلدة أتوكف خروج نبي قد أظلكم [زمانه ، هذه البلدة مهاجره ، فكنت أرجو أن يبعث فأتبعه وقد أظلكم] زمانه فلا يسبقنكم أحد إليه يا معشر اليهود ، فإنه يبعث يسفك الدماء ، ويسبي الذراري والنساء ، ممن خالفه فلا يمنعنكم ذلك منه . فلما بعث الله رسوله وحاصر بني قريظة قال هؤلاء الفتية وكانوا شبابا أحداثا: يا بني قريظة ، والله إنه النبي الذي عهد إليكم فيه ابن الهيبان . قالوا: ليس به . قالوا: بلى والله إنه لهو بصفته .

            فنزلوا فأسلموا فأحرزوا دماءهم وأموالهم وأهاليهم .

            ومن الأمارات رجفة عظيمة أصابت الشام

            قال مؤلف الكتاب : كان الرهبان يعدونها لعلامة ظهوره ، وكانوا يقولون إنه شاب قد دخل في الكهولة يجتنب المحارم والمظالم ، ويصل الرحم ، ويأمر بصلتها ، وهو متوسط في العشيرة [صلى الله عليه] .

            أخبرنا محمد بن ناصر [الحافظ] قال: أخبرنا عبد المحسن بن علي قال: أخبرنا عبد الكريم بن محمد بن أحمد المحاملي قال: أخبرنا الدارقطني قال: أخبرنا أحمد بن محمد بن سالم المخزومي قال: أخبرنا أبو سعيد عبد الله بن شبيب المدني قال: أخبرنا إسحاق العدوي قال: حدثني عثمان بن الضحاك الحزامي قال: حدثني أبي ، عن مخرمة بن سليمان ، عن إبراهيم بن محمد بن طلحة ، عن أبيه قال: قال طلحة بن عبد الله .

            حضرت سوق بصرى ، فإذا براهب في صومعته يقول: اسألوا أهل الموسم ، هل فيكم أحد من أهل الحرم؟ قال طلحة: فقلت نعم أنا . قال لي: هل ظهر بمكة بعد أحمد؟ قلت: وما أحمد ؟ قال: ابن عبد الله بن عبد المطلب هذا شهره الذي يخرج فيه ، وهو آخر الأنبياء ، ومخرجه من الحرم ، ومهاجره إلى نخل وحرة وسباخ . قال طلحة: فوقع في قلبي ما قال الراهب ، فخرجت حتى قدمت مكة ، فقلت:

            هل كان من حدث؟ قالوا: نعم ، محمد بن عبد الله الأمين تنبأ ، وتابعه ابن أبي قحافة .

            فخرجت حتى أتيت أبا بكر فأخبرته وقلت له: هل تابعت الرجل [قال: نعم] فانطلق فبايعه ، فإنه يدعو إلى الحق ، فذهب أبو بكر رضي الله عنه معه قال طلحة: فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته خبر الراهب وما قال لي .

            أخبرنا أبو بكر بن أبي طاهر البزاز قال: أخبرنا أبو محمد الحسين بن علي الجوهري قال: أخبرنا أبو عمر بن حيويه قال: أخبرنا أحمد بن معروف قال: أخبرنا الحارث بن أبي أسامة قال ، حدثنا محمد بن سعد قال حدثنا محمد بن عمر قال:

            حدثني سلمان بن داود بن الحصين ، عن أبيه ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، عن أبي بن كعب قال:

            لما قدم تبع المدينة ونزل بقناة بعث إلى أحبار يهود وقال: إني مخرب هذا البلد حتى لا يقوم به يهودية ويرجع الأمر إلى [دين] العرب . قال: فقال له سامول اليهودي وهو يومئذ أعلمهم: أيها الملك ، إن هذا بلد يكون إليه مهاجرة نبي من بني إسماعيل ، مولده بمكة ، اسمه أحمد ، وهذه دار هجرته ، وإن منزلك هذا الذي أنت به [يكون] من القتلى والجراح أمر كثير في أصحابه وفي عدوهم قال تبع: ومن يقاتله يومئذ وهو نبي كما تزعمون؟ قال: يسير إليه قومه فيقتتلون هاهنا . قال: فأين قبره؟ قال: بهذا البلد ، قال: فإذا قوبل فلمن تكون الدبرة ؟ قال: تكون له مرة وعليه مرة ، وبهذا المكان الذي أنت به يكون عليه ، ويقتل به أصحابه مقتلة لم يقتلوا في موطن ، ثم يكون له العاقبة ، ويظهر ولا ينازعه هذا الأمر من أحد . قال: وما صفته؟

            قال: رجل ليس بالطويل ولا بالقصير ، في عينيه حمرة ، يركب البعير ، ويلبس الشملة ، سيفه على عاتقه ، لا يبالي من لاقى من أخ ، أو ابن عم ، أو عم ، حتى يظهر أمره . قال تبع: ما إلى هذه البلدة من سبيل ، وما كان ليكون خرابها إلا على يدي .

            فخرج تبع منصرفا إلى اليمن .

            قال محمد بن عمر : وحدثني عبد الحميد بن جعفر ، عن أبيه قال:

            كان الزبير بن باطا أعلم اليهود ، يقول: إني وجدت سفرا كان يختمه علي فيه ذكر أحمد ، نبي يخرج بأرض القرظ ، صفته كذا وكذا ، فتحدث به الزبير بن باطا بعد أبيه ، والنبي صلى الله عليه وسلم [يومئذ] لم يبعث فما هو إلا أن سمع بالنبي صلى الله عليه وسلم قد خرج بمكة [حتى] عمد إلى ذلك السفر فمحاه ، وكتم شأن النبي صلى الله عليه وسلم وصفته ، وقال: ليس به .

            قال محمد بن عمر: وحدثني الضحاك بن عثمان ، عن مخرمة بن سليمان ، عن كريب ، عن ابن عباس قال:

            كانت يهود قريظة ، والنضير ، وفدك ، وخيبر ، يجدون صفة النبي صلى الله عليه وسلم ، قبيل أن يبعث وأن دار هجرته المدينة . فلما ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت أحبار اليهود: ولد أحمد الليلة ، هذا الكوكب قد طلع ، فلما تنبأ قالوا: تنبأ أحمد ، قد طلع الكوكب ، كانوا يعرفون ذلك ويقرون به ويصفونه ، وما منعهم من اتباعه إلا الحسد والبغي .

            قال محمد بن عمر: وحدثني ابن أبي ذئب ، عن مسلم بن حبيب عن النضر بن سفيان الهذلي ، عن أبيه قال:

            خرجنا في عير لنا إلى الشام ، فلما كنا بين الزرقاء ومعان ، وقد عرسنا من الليل إذا بفارس يقول: أيها النيام هبوا فليس هذا بحين رقاد ، قد خرج أحمد ، وطردت الجن كل مطرد ، ففزعنا ونحن رفقة [جرارة] كلهم قد سمع هذا ، فرجعنا إلى أهلنا فإذا هم يذكرون اختلافا بمكة بين قريش بنبي خرج فيهم من بني عبد المطلب اسمه أحمد .

            قال محمد بن سعد : وأخبرنا علي بن محمد بن عمار بن ياسر وغيره ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة رضي الله عنها قالت:

            سكن يهودي بمكة يبيع بها تجارات ، فلما كانت ليلة ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في مجلس من مجالس قريش: هل فيكم من مولود ولد هذه الليلة؟

            قالوا ، لا نعلمه ، قال: انظروا يا معشر قريش وأحصوا ما أقول لكم:

            ولد الليلة نبي هذه الأمة: أحمد ، به شامة بين كتفيه فيها شعرات . فتصدع القوم من مجالسهم وهم يتعجبون من حديثه ، فلما صاروا في منازلهم وذكروا لأهاليهم ، فقيل لبعضهم: ولد لعبد الله بن عبد المطلب الليلة غلام سماه محمدا فأتوا اليهودي في منزله ، فقالوا: أعلمت أنه ولد فينا مولود؟ فقال: أبعد خبري أم قبله؟ قالوا: قبله ، واسمه أحمد . قال: فاذهبوا بنا إليه فخرجوا معه حتى دخلوا على أمه فأخرجته إليهم ، فرأى شامة في ظهره ، فغشي على اليهودي ، ثم أفاق فقالوا: ما لك؟ قال: ذهبت النبوة من بني إسرائيل ، وخرج الكتاب منهم ، وهذا مكتوب يقتلهم ويبز أخبارهم ، فازت العرب بالنبوة ، أفرحتم يا معشر قريش؟ أما والله ليسطون بكم سطوة يخرج نبؤها من المشرق إلى المغرب .

            قال: وأخبرنا علي بن محمد بن سلمة بن عثمان ، عن علي بن زيد ، عن سعيد بن المسيب قال: كانت العرب تسمع من أهل الكتاب ومن الكهان أن نبيا يبعث من العرب اسمه محمد ، [فسمى من بلغه ذلك من العرب ولده محمدا] طمعا في النبوة .

            أخبرنا أبو غالب محمد بن الحسن الماوردي قال: أخبرنا القاضي أبو محمد همام بن محمد بن الحسن الأيلي قال: حدثنا أبو عبد الله الحسن بن علي بن مهدي قال: أخبرنا أبو علي أحمد بن الحسين بن شعبة قال: أخبرنا أبو جعفر محمد بن محمد بن حسان الأنصاري قال: حدثنا بشر بن حجر الشامي قال: أخبرنا علي بن منصور الأنباري ، عن غياث بن عبد الرحمن الرقاشي عن محمد بن كعب القرظي قال: بينما عمر بن الخطاب قاعد في المسجد إذ مر به رجل في مؤخر المسجد فقال له رجل: يا أمير المؤمنين ، أتعرف المار ؟ قال: فمن هو؟ قال: سواد بن قارب ، [وهو رجل من أهل اليمن له فيهم شرف وموضع ، وهو الذي أتاه ريبة بظهور النبي صلى الله عليه وسلم . فقال عمر: علي به . فدعي به ، فقال ، أنت سواد بن قارب؟] قال: نعم . قال: فأنت على ما كنت عليه من كهانتك . فغضب غضبا شديدا وقال: يا أمير المؤمنين ، ما استقبلني بهذا أحد منذ أسلمت . فقال عمر: يا سبحان الله ، والله ما كنا عليه من الشرك أعظم مما كنت عليه من كهانتك ، أخبرني بإشارات أتتك بظهور النبي [صلى الله عليه وسلم] .

            قال: نعم ، يا أمير المؤمنين بينا أنا [ذات ليلة] بين النائم واليقظان إذ أتاني آت ، فضربني برجله وقال: قم يا سواد بن قارب [فافهم] واعقل إن كنت تعقل ، إنه قد بعث رسول من لؤي بن غالب يدعو إلى الله عز وجل وإلى عبادته ، ثم أنشأ [الجني] يقول:


            عجبت للجن وتجساسها وشدها العيس بأحلاسها     تهوي إلى مكة تبغي الهدى
            ما خير الجن كأرجاسها     فارحل إلى الصفوة من هاشم
            واسم بعينيك إلى رأسها

            قال: فلم أرفع لقوله رأسا ، وقلت: دعني أنام ، فإني أمسيت ناعسا ، فلما كان في الليلة الثانية أتاني فضربني برجله وقال: ألم أقل لك يا سواد بن قارب قم فافهم ، واعقل إن كنت تعقل ، قد بعث نبي من لؤي بن غالب يدعو إلى الله عز وجل وإلى عبادته ، ثم أنشأ [الجني] يقول:


            [عجبت للجن وتطلابها     وشدها العيس بأقتابها]
            تهوي إلى مكة تبغي الهدى     ما صادق الجن ككذابها
            فارحل إلى الصفوة من هاشم     ليس قداماها كأذنابها

            قال: فلم أرفع بقوله رأسا . فقلت: دعني أنام فإني أمسيت ناعسا ، فلما كان الليلة الثالثة أتاني فضربني برجله وقال: ألم أقل لك يا سواد بن قارب ، قم فافهم واعقل إن كنت تعقل ، إنه قد بعث رسول من لؤي بن غالب يدعو إلى الله وإلى عبادته ، ثم أنشأ يقول:


            عجبت للجن وأخبارها     وشدها العيس بأكوارها
            تهوي إلى مكة تبغي الهدى     ما مؤمنو الجن ككفارها
            فارحل إلى الصفوة من هاشم     بين روابيها وأحجارها

            قال: فوقع في قلبي حب الإسلام ، ورغبت فيه ، فلما أصبحت شددت علي راحلتي وانطلقت متوجها إلى مكة ، فلما كنت ببعض الطريق أخبرت أن النبي صلى الله عليه وسلم قد هاجر إلى المدينة ، فقدمت المدينة ، فسألت عن النبي صلى الله عليه وسلم . فقيل لي: في المسجد ، فأتيت إلى المسجد فعقلت ناقتي ، وإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس حوله ، فقلت:

            تسمع مقالتي يا رسول الله . فقال لأبي بكر: ادنه ادنه ، فلم يزل بي حتى صرت بين يديه ، فقلت: اسمع مقالتي يا رسول الله قال: هات ، فأخبرني بإتيانك رئيك . فقلت:


            أتاني نجي بعد هدء ورقدة     ولم أك فيما قد بلوت بكاذب
            ثلاث ليال قوله كل ليلة     أتاك رسول من لؤي بن غالب
            فشمرت عن ذيلي الإزار ووسطت     بي الذعلب الوجناء بين السباسب
            فأشهد أن الله لا رب غيره     وأنك مأمون على كل غائب
            وأنك أدنى المرسلين وسيلة     إلى الله يا بن الأكرمين الأطايب
            فمرنا بما يأتيك يا خير مرسل     وإن كان فيما جاء شيب الذوائب
            وكن لي شفيعا يوم لا ذو شفاعة     سواك لمغن عن سواد بن قارب

            قال: ففرح رسول الله صلى الله عليه وسلم بإسلامي فرحا شديدا وأصحابه حتى رئي الفرح في وجوههم . قال: فوثب إليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه فالتزمه وقال: قد كنت أحب أن أسمع هذا منك
            . أخبرنا ابن الحصين قال: أخبرنا ابن المذهب قال: أخبرنا أحمد بن جعفر قال:

            أخبرنا عبد الله بن أحمد قال: حدثني أبي قال: حدثنا عبد الرزاق قال: أخبرنا إسرائيل ، عن سماك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : أن قريشا أتوا كاهنة ، فقالوا: أخبرينا بأقربنا شبها بصاحب هذا المقام . فقالت:

            إن أنتم جررتم كساء على هذه السهلة ، ثم مشيتم عليها نبأتكم . فجروا ، ثم مشى الناس عليها ، فأبصرت أثر محمد صلى الله عليه وسلم فقالت: هذا أقربكم شبها به ، فمكثوا بعد ذلك عشرين سنة أو قريبا من عشرين سنة أو ما شاء الله ، ثم بعث صلى الله عليه وسلم . الباب التاسع فيما أخبر به الأحبار والرهبان والكهان بأنه النبي المبعوث في آخر الزمان

            عن سلمان رضي الله تعالى عنه قال:

            كنت رجلا من أهل فارس، وفي رواية من أهل جي، وكان أبي دهقان رامهرمز، أي رئيسها، وكان يحبني حبا شديدا، حتى حبسني في البيت كما تحبس الجارية، واجتهدت في المجوسية حتى كنت قطن النار، أي خازنها وخادمها. وفي لفظ: وكان أهل قريتي يعبدون الخيل البلق، فكنت كذلك لا أعلم من أمر الناس شيئا إلا ما أنا فيه، وأعرف أنهم ليسوا على شيء، وكان لي أخ أكبر مني. وفي لفظ: ابن صاحب رامهرمز، فكان إذا قام من مجلسه خرج فتقنع بثوبه ثم صعد الجبل، وكان يفعل ذلك غير مرة متنكرا، فقلت: أما إنك تفعل كذا وكذا، فلم لا تذهب بي معك؟ قال: إنك غلام وأخاف أن يظهر منك شيء. قلت: لا تخف. قال:

            فإن في هذا الجبل قوما في برطيل لهم عبادة وصلاح، يذكرون الله تعالى ويذكرون الآخرة، ويزعمون أنا عبدة الأوثان والأصنام وعبدة النيران وأنا على غير دين. قلت: فاذهب بي معك.

            قال: حتى أستأمرهم وأنا أخاف أن يظهر منك شيء فيعلم أبي فيقتلهم فيجري هلاكهم على يدي. قال: قلت لا يظهر مني ذلك. فاستأمرهم. فقالوا جئ به فذهبت معه فانتبهت إليهم فإذا هم ستة أو سبعة، وكأن الروح خرجت منهم من العبادة، يصومون النهار ويقومون الليل يأكلون الشجر وما وجدوا، فقعدنا إليهم فحمدوا الله وأثنوا عليه وذكروا من مضى من الرسل والأنبياء حتى خلصوا إلى عيسى ابن مريم فقالوا: بعثه الله وولد بغير ذكر، بعثه رسولا وسخر له ما كان يفعل من إحياء الموتى وخلق الطير وإبراء الأكمه والأبرص، فكفر به قوم وتبعه قوم، وإنما كان عبد الله ورسوله ابتلى به خلقه. ثم قالوا: يا غلام إن لك ربا وإن لك معادا، وإن بين يديك جنة ونارا إليها تصير، وإن هؤلاء القوم الذين يعبدون النيران أهل كفر وضلالة لا يرضى الله بما يصنعون، وليسوا على دين.

            ثم انصرفنا ثم عدنا إليهم فقالوا مثل ذلك وأحسن، فلزمتهم فقالوا لي: يا سلمان إنك غلام، وإنك لا تستطيع أن تصنع ما نصنع، فصل ونم وكل واشرب.

            قال: فاطلع الملك على صنيع ابنه فركب في الخيل حتى أتاهم في برطيلهم فقال:

            يا هؤلاء قد جاورتموني فأحسنت جواركم ولم تروا مني سوءا فعمدتم إلى ابني فأفسدتموه علي قد أجلتكم ثلاثا، فإن قدرت عليكم بعد ثلاث أحرقت عليكم برطيلكم هذا، فالحقوا ببلادكم فإني أكره أن يكون مني إليكم سوء. قالوا: نعم ما تعمدنا مساءتك، وما أردنا إلا الخير.

            فكف ابنه عن إتيانهم فقلت له: اتق الله، إنك تعرف أن هذا الدين دين الله، وإن أباك ونحن على غير دين، إنما هم عبدة النيران لا يعرفون الله، ولا تبع آخرتك بدنيا غيرك. قال:

            يا سلمان هو كما تقول، وإنما أتخلف عن القوم بقيا عليهم، إن تبعت القوم طلبني أبي في الخيل، وقد جزع من إتياني إياهم حتى طردهم، وقد أعرف أن الحق في أيديهم. قلت: أنت أعلم.

            ثم لقيت أخي فعرضت عليه فقال: أنا مشتغل بنفسي في طلب المعيشة. فأتيتهم في اليوم الذي يريدون أن يرتحلوا فيه فقالوا: يا سلمان قد كنا نحذر فكان ما رأيت، فاتق الله واعلم أن الدين ما أوصيناك به، وأن هؤلاء عبدة الأوثان لا يعرفون الله ولا يذكرونه ولا يخدعنك أحد عن ذلك.

            وفي رواية: وكان لأبي ضيعة عظيمة فشغل في بنيان له يوما فقال لي: يا بني إني قد شغلت في بنياني هذا اليوم عن ضيعتي، ولا بد لي من اطلاعها، فانطلق إليها فمرهم بكذا وكذا ولا تحتبس عني تشغلني عن كل شيء.

            فخرجت أريد ضيعته فمررت بكنيسة النصارى فسمعت أصواتهم فيها، فقلت ما هذا؟

            فقالوا: هؤلاء النصارى يصلون. فدخلت أنظر فأعجبني ما رأيت من حالهم، فو الله ما زلت جالسا عندهم حتى غربت الشمس وبعث أبي في طلبي في كل وجه حتى جئته حين أمسيت، ولم أذهب إلى ضيعته، فقال: أين كنت؟ فقلت: يا أبتاه مررت بناس يقال لهم النصارى فأعجبني صلاتهم ودعاؤهم فجلست أنظر كيف يفعلون: فقال: أي بني دينك ودين آبائك خير من دينهم. فقلت: لا والله ما هو بخير من دينهم، وهؤلاء قوم يعبدون الله ويدعونه ونحن إنما نعبد نارا نوقدها بأيدينا إذا تركناها ماتت.

            فخافني فجعل في رجلي حديدا وحبسني عنده، فبعثت إلى النصارى فقلت لهم: أين أصل هذا الدين الذي أراكم عليه؟ قالوا بالشام. فقلت: إذا قدم عليكم من هناك ناس وقضوا حوائجهم فآذنوني أي أعلموني: فلما قدم عليهم ناس وقضوا حوائجهم بعثوا إلي بذلك فطرحت الحديد الذي كان في رجلي ولحقت بهم.

            ثم إن الملك اطلع على القوم الذين في الجبل فأمرهم بالخروج من بلاده فقلت: ما أنا بمفارقكم. فقالوا إنك لا تقدر أن تكون معنا نحن نصوم النهار ونقوم الليل ونأكل الشجر وما أصبنا، وأنت لا تستطيع ذلك. قلت: لا أفارقكم. قالوا: أنت أعلم، قد أعلمناك حالنا فإذا جئت.

            فاطلب أحدا يكون معك واحمل معك شيئا تأكله، فإنك لن تستطيع ما نستطيع نحن. ففعلت ولقيت أخي فعرضت عليه فأبى، فأتيتهم فتحملوا، فكانوا يمشون وأمشي معهم، فرزق الله السلامة حتى قدمنا الموصل، فأتينا بيعة بالموصل، فلما دخلوا حفوا بهم وقالوا: أين كنتم؟

            قالوا: كنا في بلاد لا يذكرون الله تعالى عبدة النيران، فطردونا فقدمنا عليكم.

            فلما كان بعد قالوا: يا سلمان إن ها هنا قوما في هذه الجبال هم أهل دين وإنا نريد لقاءهم فكن أنت ها هنا مع هؤلاء فإنهم أهل دين وسترى منهم ما تحب. قلت: ما أنا بمفارقكم قال: وأوصوا بي أهل البيعة فقال أهل البيعة: أقم معنا يا غلام فإنه لا يعجزك شيء ببيعتنا. قال:

            قلت ما أنا بمفارقكم. فخرجوا وأنا معهم فأصبحنا بين جبال، فإذا صخرة وماء كثير في جرار وخبز كثير، فقعدنا عند الصخرة، فلما طلعت الشمس خرجوا من بين تلك الجبال: يخرج رجل رجلا من مكانه، كأن الأرواح انتزعت منهم حتى كثروا فرحبوا بهم وحفوا وقالوا: أين كنتم؟ قالوا: كنا ببلاد لا يذكرون الله تعالى، فيها عبدة النار وما يعبدون الله فيها، فطردونا.

            فقالوا: ما هذا الغلام؟ فطفقوا يثنون علي وقالوا صحبنا من تلك البلاد فلم نر منه إلا خيرا. قال:

            فو الله إنهم لكذلك إذ طلع عليهم رجل من كهف طوال، فجاء حتى سلم عليهم وجلس فحفوا به وعظمه أصحابي الذين كنت معهم وأحدقوا به، فقال لهم: أين كنتم؟ فأخبروه. فقال: ما هذا الغلام معكم؟ فأثنوا علي خيرا وأخبروه باتباعي إياهم، ولم أر مثل إعظامهم إياه، فحمد الله وأثنى عليه، ثم ذكر من أرسله الله تعالى من رسله وأنبيائه وما لقوا وما صنع بهم حتى ذكر عيسى ابن مريم وأنه ولد بغير ذكر، فبعثه الله رسولا وأجرى على يديه إحياء الموتى وإبراء الأعمى والأبرص، وأنه يخلق من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله، وأنزل عليه الإنجيل وعلمه التوراة، وبعثه رسولا إلى بني إسرائيل فكفر به قوم وآمن به قوم. وذكر بعض ما لقي عيسى ابن مريم، وأنه إنما كان عبدا أنعم الله عليه فشكره ذلك له ورضي عنه. ثم وعظهم وقال: اتقوا الله والزموا ما جاء به عيسى ولا تخالفوا فيخالف بكم.

            ثم أراد أن يقوم فقلت: ما أنا بمفارقك فقال: يا غلام إنك لا تستطيع أن تكون معي، إني لا أخرج من كهفي هذا إلا كل يوم أحد. قلت: ما أنا بمفارقك.

            قال: فتبعته حتى دخل الكهف فما رأيته نائما ولا طاعما، إلا راكعا وساجدا إلى الأحد الآخر، فلما أصبحنا خرجنا واجتمعوا إليه، فتكلم نحو المرة الأولى ثم رجع إلى كهفه ورجعت معه.

            فلبثت ما شاء الله، يخرج كل يوم أحد ويخرجون إليه ويعظهم، ويوصيهم. فخرج في أحد فقال مثل ما كان يقول ثم قال: يا هؤلاء إني كبرت سني ورق عظمي واقترب أجلي وإنه لا عهد لي بهذا البيت من منذ كذا كذا، ولا بد لي من إتيانه. فقلت: ما أنا بمفارقك.

            وخرجت معه حتى انتهيت إلى بيت المقدس فدخل فجعل يصلي، وكان فيما يقول لي: يا سلمان إن الله سوف يبعث رسولا اسمه أحمد يخرج بتهامة، وإنه يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة، بين كتفيه خاتم النبوة وهذا زمانه الذي يخرج فيه قد تقارب، فأما أنا فإني شيخ كبير ولا أحسبني أدركه، فإذا أدركته أنت فصدقه واتبعه. قلت وإن أمرني بترك دينك وما أنت عليه؟

            قال: نعم.

            ثم خرج من بيت المقدس، وعلى بابه مقعد، فقال: ناولني يدك. فناوله، فقال: قم باسم الله. فقام كأنما نشط من عقال فخلى عن يده، فانطلق ذاهبا وكان لا يلوي على أحد. فقال المقعد: يا غلام احمل علي ثيابي حتى أنطلق. فحملت عليه ثيابه وانطلق الراهب. فكلما سألت عنه قالوا: أمامك فسرت حتى قدمت الشام، فقلت: من أفضل هذا الدين؟ فقيل الأسقف صاحب الكنيسة، فجئته فقلت له: إني أحببت أن أكون معك في كنيستك وأعبد الله فيها معك وأتعلم منك الخير. قال: فكن معي، فكنت معه، وكان رجل سوء، كان يأمرهم بالصدقة ويرغبهم فيها حتى إذا جمعوها إليه لم يعطها للمساكين، فأبغضته بغضا شديدا لما رأيت من حاله، فلم ينشب أن مات، فلما جاءوا ليدفنوه قلت لهم: إن هذا كان رجل سوء، كان يأمركم بالصدقة ويرغبكم فيها حتى إذا جمعتموها إليه اكتنزها ولم يعطها للمساكين، فقالوا: وما علامة ذلك؟ قلت: أنا أخرج لكم كنزه. فقالوا: هاته. فأخرجت لهم سبع قلال مملوءة ذهبا وورقا، فلما رأوا ذلك رجموه بالحجارة وقالوا: لا ندفنه أبدا فصلبوه على خشبة ورموه بالحجارة. وجاءوا برجل آخر فجعلوه مكانه، فلا والله ما رأيت رجلا قط يصلي الخمس أرى أنه أفضل منه وأشد اجتهادا ولا زهادة في الدنيا، ولا أدأب ليلا أو نهارا منه وما أعلمني أحببت شيئا قط حبه، فلم أزل معه حتى حضرته الوفاة فقلت له يا فلان قد حضرك ما ترى، وإني والله ما أحببت شيئا قط حبك فماذا تأمرني وإلى من توصيني؟ فقال لي: أي بني والله ما أعلمه إلا رجلا بالموصل فائته فإنك ستجده على مثل حالي.

            فلما مات لحقت بالموصل فأتيت صاحبه فوجدته على مثل حاله من الاجتهاد والزهادة في الدنيا، فقلت له: إن فلانا أوصى بي إليك أن آتيك وأكون معك. فقال: فأقم عندي. فأقمت عنده على مثل أمر صاحبه، حتى حضرته الوفاة فقلت: إن فلانا أوصى بي إليك وقد حضرك من أمر الله ما ترى فإلى من توصيني؟ قال: والله ما أعلمه أي بني إلا رجلا بنصيبين، وهو على مثل ما نحن عليه فالحق به. فلما دفناه لحقت بالآخر فقلت له: يا فلان إن فلانا أوصى بي إلى فلان وفلانا أوصى بي إليك. قال: فأقم عندي فأقمت عنده على مثل حالهم حتى حضرته الوفاة فقلت له: يا فلان إنه قد حضرك من أمر الله ما ترى، وقد كان فلان أوصى بي إلى فلان وأوصى بي فلان إلى فلان، وأوصى بي فلان إليك، فإلى من توصيني.

            فقال: أي بني، والله ما أعلم أحدا على مثل ما كنا عليه إلا رجلا بعمورية من أرض الروم ائته فإنك ستجده على مثل ما كنا عليه. فلما مات وواريته خرجت حتى قدمت على صاحب عمورية، فوجدته على مثل حالهم فأقمت عنده واكتسبت حتى كانت لي غنيمة وبقرات، ثم حضرته الوفاة، فقلت: يا فلان إن فلانا أوصى بي إلى فلان، وفلان أوصى بي إلى فلان، وفلان إلى فلان، وفلان إليك وقد حضرك ما ترى من أمر الله تعالى، فإلى من توصيني؟ فقال: أي بني والله ما أعلم بقي أحد على مثل ما كنا عليه آمرك أن تأتيه، ولكنه قد أظلك زمان نبي يبعث من الحرم، مهاجره بين حرتين إلى أرض سبخة ذات نخل، وإن فيه علامات لا تخفى: بين كتفيه خاتم النبوة، يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة، فإن استطعت أن تخلص إلى تلك البلاد فافعل، فإنه قد أظلك زمانه.

            فلما واريناه أقمت حتى مرت رجال من تجار العرب من كلب، فقلت لهم: احملوني معكم حتى تقدموا بي أرض العرب فأعطيكم غنيمتي هذه وبقراتي؟ قالوا: نعم. فأعطيتهم إياها فحملوني حتى إذا جاءوا بي وادي القرى ظلموني فباعوني عبدا من يهودي بوادي القرى.

            فو الله لقد رأيت النخل وطمعت أن تكون البلد الذي نعت لي صاحبي، وما خفيت عني، حتى قدم رجل من بني قريظة من يهود بوادي القرى فابتاعني من صاحبي الذي كنت عنده، فخرج بي حتى قدم بي المدينة.

            وفي لفظ: فاشترتني امرأة من الأنصار فجعلتني في حائط لها. وفي رواية: اسمها خليسة بنت فلان حليف بني النجار.

            فو الله ما هو إلا أن رأيتها عرفتها، فعرفت نعته فأقمت في رقي مع صاحبي في نخله.

            وفي رواية أنه مكث كذلك ستة عشر شهرا.

            قال: فو الله إني لفيها إذ جاء ابن عم له فقال: يا فلان، قاتل الله بني قيلة، فو الله إنهم الآن لفي قباء يجتمعون على رجل جاءهم من مكة يزعمون أنه نبي.

            فو الله ما هو إلا أن سمعتها فأخذتني العرواء يعني الرعدة حتى ظننت لأسقطن على صاحبي ونزلت أقول: ما هذا الخبر؟ ما هو؟ فرفع مولاي يده فلكمني لكمة شديدة وقال:

            مالك ولهذا؟ أقبل على عملك. فقلت: لا شيء إلا أنني سمعت خبرا فأحببت أن أعلمه.

            فخرجت وسألت فلقيت امرأة من أهل بلادي فسألتها، فإذا أهل بيتها قد أسلموا، فدلتني على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمسيت وكان عندي شيء من طعام فحملته وذهبت به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بقباء فقلت: بلغني أنك رجل صالح، وأن معك أصحابا غرباء، وقد كان عندي شيء من الصدقة، فرأيتكم أحق من هذه البلاد فها هو ذا فكل. فأمسك رسول الله صلى الله عليه وسلم يده

            وقال: لأصحابه كلوا ولم يأكل.

            فقلت في نفسي: هذه خلة مما وصف لي صاحبي.

            وفي حديث بريدة عند أحمد أن سلمان جاء بمائدة بط وفي رواية: بلحم جزور مثرود وفي رواية: بخلال. فوضعها بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما هذا يا سلمان؟» قال: صدقة عليك وعلى أصحابك. قال: «ارفعها فإنا لا نأكل الصدقة». وجاءه من الغد بمثله فوضعه بين يديه فقال: «ما هذا يا سلمان قال: هدية لك» فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: «انشطوا» .

            وذكر ابن إسحاق أنه جاءه بتمر وأخبره بأنه صدقة يأكله.

            قال: ثم رجعت وتحول رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة فجمعت شيئا كان عندي ثم جئت به فقلت: إني قد رأيتك لا تأكل الصدقة، وهذه هدية وليست بصدقة.

            وفي رواية عند ابن إسحاق قال سلمان: كنت عبدا لامرأة فسألت سيدتي أن تهب لي يوما، فعملت في ذلك اليوم على صاع أو صاعين من تمر، فجئت به النبي صلى الله عليه وسلم، فلما رأيت أنه لا يأكل الصدقة سألت سيدتي أن تهب لي يوما آخر، فعملت فيه على ذلك ثم جئت به هدية للنبي صلى الله عليه وسلم فقبله وأكل منه.

            وفي الشمائل للترمذي أنه أتى بمائدة عليها رطب.

            فأكل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: هذه خلتان.

            ثم جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتبع جنازة رجل من أصحابه وعليه شملتان وهو في أصحابه فاستدرت لأنظر الخاتم الذي في ظهره، فلما رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم استدبرته عرف أني استثبت شيئا قد وصف لي، فرفع رداءه عن ظهره فنظرت إلى الخاتم بين كتفيه كما وصف لي صاحبي، فأكببت عليه أقبله وأبكي، فقال: تحول يا سلمان هكذا فتحولت فجلست بين يديه فأحب أن يسمع أصحابه حديثي. فحدثته بمنزل كلثوم بن الهدم رضي الله تعالى عنه فقال: حدثني. فحدثته.

            ثم شغل سلمان الرق حتى فاته مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بدر وأحد.

            التالي السابق


            الخدمات العلمية