الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            إسلام أبي بكر الصديق رضي الله عنه وشأنه

            [ نسبه ]

            قال ابن إسحاق : ثم أسلم أبو بكر بن أبي قحافة ، واسمه عتيق ، واسم أبي قحافة عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر .

            قال ابن هشام : واسم أبي بكر : عبد الله ، وعتيق : لقب لحسن وجهه وعتقه

            [ إسلامه ]

            قال ابن إسحاق : فلما أسلم أبو بكر رضي الله عنه : أظهر إسلامه ، ودعا إلى الله وإلى رسوله .

            [ منزلته في قريش ودعوته للإسلام ]

            وكان أبو بكر رجلا مألفا لقومه ، محببا سهلا ، وكان أنسب قريش لقريش ، وأعلم قريش بها ، وبما كان فيها من خير وشر ؛ وكان رجلا تاجرا ، ذا خلق ومعروف ، وكان رجال قومه يأتونه ويألفونه لغير واحد من الأمر ، لعلمه وتجارته وحسن مجالسته ، فجعل يدعو إلى الله وإلى الإسلام من وثق به من قومه ، ممن يغشاه ويجلس إليه . عن ابن إسحاق ثم إن أبا بكر الصديق لقي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : أحق ما تقول قريش يا محمد من تركك آلهتنا ، وتسفيهك عقولنا ، وتكفيرك آباءنا ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " بلى ، إني رسول الله ونبيه بعثني ; لأبلغ رسالته ، وأدعوك إلى الله بالحق ، فوالله إنه للحق ، أدعوك يا أبا بكر إلى الله وحده لا شريك له ، ولا تعبد غيره ، والموالاة على طاعته . وقرأ عليه القرآن . فلم يقر ، ولم ينكر ، فأسلم وكفر بالأصنام ، وخلع الأنداد ، وأقر بحق الإسلام ، ورجع أبو بكر وهو مؤمن مصدق .

            قال ابن إسحاق حدثني محمد بن عبد الرحمن بن عبد الله بن الحصين التميمي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " ما دعوت أحدا إلى الإسلام إلا كانت عنده كبوة وتردد ونظر ، إلا أبا بكر ما عكم عنه حين ذكرته ، ولا تردد فيه " . عكم ، أي تلبث . وهذا الذي ذكره ابن إسحاق في قوله : فلم يقر ولم ينكر ، منكر ; فإن ابن إسحاق وغيره ذكروا أنه كان صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل البعثة ، وكان يعلم من صدقه ، وأمانته ، وحسن سجيته ، وكرم أخلاقه ، ما يمنعه من الكذب على الخلق ، فكيف يكذب على الله ؟ ! ولهذا بمجرد ما ذكر له أن الله أرسله بادر إلى تصديقه ، ولم يتلعثم ، ولا عكم عن الحارث سمعت عليا يقول : أول من أسلم من الرجال أبو بكر الصديق وأول من صلى مع النبي - صلى الله عليه وسلم - من الرجال علي بن أبي طالب . وقال شعبة : عن عمرو بن مرة عن أبي حمزة عن زيد بن أرقم قال : أول من صلى مع النبي - صلى الله عليه وسلم - أبو بكر الصديق شعر حسان في مدح أبي بكر رضي الله عنهما عن مالك بن مغول عن رجل ، قال سئل ابن عباس من أول من آمن ، فقال : أبو بكر الصديق أما سمعت قول حسان


            إذا تذكرت شجوا من أخي ثقة فاذكر أخاك أبا بكر بما فعلا     خير البرية أوفاها وأعدلها
            بعد النبي وأولاها بما حملا     والتالي الثاني المحمود مشهده
            وأول الناس منهم صدق الرسلا     عاش حميدا لأمر الله متبعا
            بأمر صاحبه الماضي وما انتقلا

            وعن يوسف بن الماجشون قال : أدركت مشيختنا منهم ; محمد بن المنكدر وربيعة بن أبي عبد الرحمن وصالح بن كيسان وعثمان بن محمد لا يشكون أن أول القوم إسلاما أبو بكر الصديق رضي الله عنه .

            قلت : وهكذا قال إبراهيم النخعي ومحمد بن كعب ومحمد بن سيرين وسعد بن إبراهيم وهو المشهور عن جمهور أهل السنة . وعن عائشة ، قالت : لما اجتمع أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وكانوا ثمانية وثلاثين رجلا ، ألح أبو بكر على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الظهور ، فقال : " يا أبا بكر إنا قليل " . فلم يزل أبو بكر يلح حتى ظهر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتفرق المسلمون في نواحي المسجد ، كل رجل في عشيرته ، وقام أبو بكر في الناس خطيبا ، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالس ، فكان أول خطيب دعا إلى الله وإلى رسوله - صلى الله عليه وسلم - وثار المشركون على أبي بكر وعلى المسلمين ، فضربوا في نواحي المسجد ضربا شديدا ، ووطئ أبو بكر وضرب ضربا شديدا ، ودنا منه الفاسق عتبة بن ربيعة فجعل يضربه بنعلين مخصوفين ويحرفهما لوجهه ، ونزا على بطن أبي بكر حتى ما يعرف وجهه من أنفه ، وجاء بنو تيم يتعادون ، فأجلت المشركين عن أبي بكر وحملت بنو تيم أبا بكر في ثوب حتى أدخلوه منزله ، ولا يشكون في موته ، ثم رجعت بنو تيم فدخلوا المسجد ، وقالوا : والله لئن مات أبو بكر لنقتلن عتبة بن ربيعة . فرجعوا إلى أبي بكر فجعل أبو قحافة وبنو تيم يكلمون أبا بكر حتى أجاب ، فتكلم آخر النهار ، فقال : ما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ فمسوا منه بألسنتهم وعذلوه ، ثم قاموا ، وقالوا لأمه أم الخير : انظري أن تطعميه شيئا ، أو تسقيه إياه . فلما خلت به ألحت عليه وجعل يقول : ما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . فقالت : والله ما لي علم بصاحبك . فقال : اذهبي إلى أم جميل بنت الخطاب فاسأليها عنه . فخرجت حتى جاءت أم جميل ، فقالت : إن أبا بكر يسألك عن محمد بن عبد الله . فقالت : ما أعرف أبا بكر ولا محمد بن عبد الله ، وإن كنت تحبين أن أذهب معك إلى ابنك ؟ قالت : نعم ، فمضت معها حتى وجدت أبا بكر صريعا دنفا ، فدنت أم جميل وأعلنت بالصياح ، وقالت : والله إن قوما نالوا هذا منك لأهل فسق وكفر ، وإني لأرجو أن ينتقم الله لك . قال : فما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ قالت : هذه أمك تسمع . قال : فلا شيء عليك منها . قالت : سالم صالح . قال : أين هو ؟ قالت : في دار ابن الأرقم . قال : فإن لله علي أن لا أذوق طعاما ولا أشرب شرابا أو آتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . فأمهلتا حتى إذا هدأت الرجل وسكن الناس ، خرجتا به يتكئ عليهما حتى أدخلتاه على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : فأكب عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقبله ، وأكب عليه المسلمون ، ورق له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رقة شديدة . فقال أبو بكر : بأبي وأمي يا رسول الله ، ليس بي بأس إلا ما نال الفاسق من وجهي ، وهذه أمي برة بولدها ، وأنت مبارك ، فادعها إلى الله ، وادع الله لها عسى الله أن يستنقذها بك من النار . قال : فدعا لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ودعاها إلى الله ، فأسلمت ، وأقاموا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الدار شهرا ، وهم تسعة وثلاثون رجلا .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية