الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            [ أرسلت قريش النضر وابن أبي معيط إلى أحبار يهود يسألانهم عن محمد صلى الله عليه وسلم ]

            فلما قال لهم ذلك النضر بن الحارث بعثوه ، وبعثوا معه عقبة بن أبي معيط إلى أحبار يهود بالمدينة ، وقالوا لهما : سلاهم عن محمد ، وصفا لهم صفته ، وأخبراهم بقوله ، فإنهم أهل الكتاب الأول ، وعندهم علم ليس عندنا من علم الأنبياء ، فخرجا حتى قدما المدينة ، فسألا أحبار يهود عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ووصفا لهم أمره ، وأخبراهم ببعض قوله ، وقالا لهم : إنكم أهل التوراة ، وقد جئناكم لتخبرونا عن صاحبنا هذا .

            فقالت لهما أحبار يهود : سلوه عن ثلاث نأمركم بهن ، فإن أخبركم بهن فهو نبي مرسل ، وإن لم يفعل فالرجل متقول ، فروا فيه رأيكم . سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول ما كان أمرهم ؛ فإنه قد كان لهم حديث عجب ، وسلوه عن رجل طواف قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها ما كان نبؤه ، وسلوه عن الروح ما هي ؟ فإذا أخبركم بذلك فاتبعوه ، فإنه نبي ، وإن لم يفعل ، فهو رجل متقول ، فاصنعوا في أمره ما بدا لكم .

            فأقبل النضر بن الحارث ، وعقبة بن أبي معيط بن أبي عمرو بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي حتى قدما مكة على قريش ، فقالا : يا معشر قريش ، قد جئناكم بفصل ما بينكم وبين محمد ، قد أخبرنا أحبار يهود أن نسأله عن أشياء أمرونا بها ، فإن أخبركم عنها فهو نبي ، وإن لم يفعل فالرجل متقول ، فروا فيه رأيكم . [ سؤال قريش له صلى الله عليه وسلم عن أسئلة وإجابته لهم ]

            فجاءوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا : يا محمد ، أخبرنا عن فتية ذهبوا في الدهر الأول قد كانت لهم قصة عجب ؛ وعن رجل كان طوافا قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها ؛ وأخبرنا عن الروح ما هي ؟ قال : فقال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أخبركم بما سألتم عنه غدا ولم يستثن ، فانصرفوا عنه .

            فمكث رسول الله - صلى الله عليه وسلم فيما يذكرون - خمس عشرة ليلة لا يحدث الله إليه في ذلك وحيا ، ولا يأتيه جبريل ، حتى أرجف أهل مكة ، وقالوا : وعدنا محمد غدا ، واليوم خمس عشرة ليلة ، قد أصبحنا منها لا يخبرنا بشيء مما سألناه عنه ، وحتى أحزن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكث الوحي عنه ، وشق عليه ما يتكلم به أهل مكة : ثم جاءه جبريل من الله - عز وجل - بسورة أصحاب الكهف ، فيها معاتبته إياه على حزنه عليهم ، وخبر ما سألوه عنه من أمر الله الفتية ، والرجل الطواف ، والروح . [ ما أنزل الله في قريش حين سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فغاب عنه الوحي مدة ]

            قال ابن إسحاق : فذكر لي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لجبريل حين جاءه : لقد احتبست عني يا جبريل حتى سؤت ظنا فقال له جبريل : وما نتنزل إلا بأمر ربك له ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك وما كان ربك نسيا

            فافتتح السورة - تبارك وتعالى - بحمده وذكر نبوة رسوله ، لما أنكروه عليه من ذلك ، فقال : الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب يعني محمدا - صلى الله عليه وسلم - إنك رسول مني : أي تحقيق لما سألوه عنه من نبوتك . ولم يجعل له عوجا قيما أي معتدلا ، لا اختلاف فيه . لينذر بأسا شديدا من لدنه أي عاجل عقوبته في الدنيا . وعذابا أليما في الآخرة : أي من عند ربك الذي بعث رسولا .

            ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا حسنا ماكثين فيه أبدا أي دار الخلد . لا يموتون فيها الذين صدقوك بما جئت به مما كذبك به غيرهم ، وعملوا بما أمرتهم به من الأعمال .

            وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا يعني قريشا في قولهم : إنا نعبد الملائكة ، وهي بنات الله . ما لهم به من علم ولا لآبائهم الذين أعظموا فراقهم وعيب دينهم . كبرت كلمة تخرج من أفواههم أي لقولهم : إن الملائكة بنات الله . إن يقولون إلا كذبا فلعلك باخع نفسك يا محمد على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا : أي لحزنه عليهم حين فاته ما كان يرجو منهم : أي لا تفعل .

            قال ابن هشام : باخع نفسك ، أي مهلك نفسك ، فيما حدثني أبو عبيدة . قال ذو الرمة :

            :


            ألا أيهذا الباخع الوجد نفسه لشيء نحته عن يديه المقادر

            وجمعه : باخعون وبخعة . وهذا البيت في قصيدة له . وتقول العرب : قد بخعت له نصحي ونفسي ، أي جهدت له . إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا

            قال ابن إسحاق : أي أيهم أتبع لأمري ، وأعمل بطاعتي . وإنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا أي الأرض ، وإن ما عليها لفان وزائل ، وإن المرجع إلي ، فأجزي كلا بعمله ، فلا تأس ولا يحزنك ما تسمع وترى فيها .

            قال ابن هشام : الصعيد : الأرض ، وجمعه : صعد . قال ذو الرمة يصف ظبيا صغيرا :


            كأنه بالضحى ترمي الصعيد به     دبابة في عظام الرأس خرطوم

            وهذا البيت في قصيدة له .

            والصعيد ( أيضا ) : الطريق . وقد جاء في الحديث : إياكم والقعود على الصعدات يريد الطرق . والجرز : الأرض التي لا تنبت شيئا ، وجمعها : أجراز . ويقال : سنة جرز ، وسنون أجراز ، وهي التي لا يكون فيها مطر ، وتكون فيها جدوبة ويبس وشدة . قال ذو الرمة يصف إبلا :

            طوى النحر والأجراز ما في بطونها     فما بقيت إلا الضلوع الجراشع

            وهذا البيت في قصيدة له .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية