الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ذكر الفجار الأول والثاني

أما الفجار الأول فلم يكن فيه كثير أمر ليذكر ، وإنما ذكرناه لئلا يرى ذكر الفجار الثاني وما كان فيه من الأمور العظيمة فيظن أن الأول مثله وقد أهملناه ، فلهذا ذكرناه .

قال ابن إسحاق : كان الفجار الأول بين قريش ومن معها من كنانة كلها وبين قيس عيلان . وسببه أن رجلا من كنانة كان عليه دين لرجل من بني نصر بن معاوية بن بكر بن هوازن ، فأعدم الكناني ، فوافى النصري سوق عكاظ بقرد وقال : من يبيعني مثل هذا بما لي على فلان الكناني ؟ فعل ذلك تعييرا للكناني وقومه ، فمر به رجل من كنانة فضرب القرد بالسيف فقتله أنفة مما قال النصري ، فصرخ النصري في قيس ، وصرخ الكناني في كنانة ، فاجتمع الناس وتحاوروا حتى كاد يكون بينهم القتال ثم اصطلحوا .

وقيل : كان سببه أن فتية من قريش قعدوا إلى امرأة من بني عامر وهي وضيئة عليها برقع ، فقالوا لها : اسفري لننظر إلى وجهك ، فلم تفعل . فقام غلام منهم فشك ذيل درعها إلى ظهرها ولم تشعر ، فلما قامت انكشفت دبرها ، فضحكوا وقالوا : منعتنا النظر إلى وجهك فقد نظرنا إلى دبرك . فصاحت المرأة : يا بني عامر فضحت ! فأتاها الناس واشتجروا حتى كاد يكون قتال ، ثم رأوا أن الأمر يسير فاصطلحوا . وقيل : بل قعد رجل منبني غفار يقال له أبو معشر بن مكرز ، وكان عازما منيعا [ ص: 528 ] في نفسه ، وكان بسوق عكاظ ، فمد رجله ثم قال : نحن بنو مدركة بن خندف من يطعنوا في عينه لا يطرف

ومن يكونوا قومه يغطرف كأنه لجة بحر مسدف

أنا والله أعز العرب ، فمن زعم أنه أعز مني فليضربها بالسيف . فقام رجل من قيس يقال له أحمر بن مازن فضربها بالسيف فخرشها خرشا غير كثير ، فاختصم الناس ثم اصطلحوا . - بنو نصر بالنون - .

وأما الفجار الثاني ، وكان بعد الفيل بعشرين سنة ، وبعد موت عبد المطلب باثنتي عشرة سنة ، ولم يكن في أيام العرب أشهر منه ولا أعظم ، فإنما سمي الفجار لما استحل الحيان كنانة وقيس فيه من المحارم ، وكان قبله يوم جبلة ، وهو مذكور في أيام العرب ، والفجار أعظم منه .

وكان سببه أن البراض بن قيس بن رافع الكناني ثم الضمري كان رجلا فاتكا خليعا قد خلعه قومه لكثرة شره ، وكان يضرب المثل بفتكه فيقال : أفتك من البراض . قال بعضهم : والفتى من تعرفته الليالي فهو فيها كالحية النضناض

كل يوم له بصرف الليالي فتكة مثل فتكة البراض

فخرج حتى قدم على النعمان بن المنذر ، وكان النعمان يبعث كل عام بلطيمة للتجارة إلى عكاظ تباع له هناك ، وكان عكاظ وذو المجاز ومجنة أسواقا تجتمع بها العرب كل عام إذا حضر الموسم ، فيأمن بعضهم بعضا حتى تنقضي أيامها ، وكانت مجنة بالظهران ، وكانت عكاظ بين نخلة والطائف ، وكان ذو المجاز بالجانب الأيسر إذا وقفت على الموقف ، فقال النعمان ، وعنده البراض وعروة بن عتبة بن جعفر بن كلاب [ ص: 529 ] المعروف بالرحال ، وإنما قيل له ذلك لكثرة رحلته إلى الملوك - : من يجيز لي لطيمتي هذه حتى يبلغها عكاظ ؟ فقال البراض : أنا أجيزها ، أبيت اللعن ، على كنانة . فقال النعمان : إنما أريد من يجيزها على كنانة وقيس ! فقال عروة : أكلب خليع يجيزها لك ، أبيت اللعن ! أنا أجيزها على أهل الشيح والقيصوم من أهل تهامة وأهل نجد . فقال البراض ، وغضب : وعلى كنانة تجيزها يا عروة ؟ قال عروة : وعلى الناس كلهم .

فدفع النعمان اللطيمة إلى عروة الرحال وأمره بالمسير بها ، وخرج البراض يتبع أثره ، وعروة يرى مكانه ولا يخشى منه ، حتى إذا كان عروة بين ظهري قومه بواد يقال له تيمن بنواحي فدك أدركه البراض بن قيس فأخرج قداحه يستقسم بها في قتل عروة ، فمر به عروة فقال : ما تصنع يا براض ؟ فقال : أستقسم في قتلك أيؤذن لي أم لا . فقال عروة : استك أضيق من ذلك ! فوثب إليه البراض بالسيف فقتله . فلما رآه الذين يقومون على العير والأحمال قتيلا انهزموا ، فاستاق البراض العير وسار على وجهه إلى خيبر ، وتبعه رجلان من قيس ليأخذاه ، أحدهما غنوي والآخر غطفاني ، واسم الغنوي أسد بن جوين ، واسم الغطفاني مساور بن مالك ، فلقيهما البراض بخيبر أول الناس فقال لهما : من الرجلان ؟ قالا : من قيس قدمنا لنقتل البراض . فأنزلهما وعقل راحلتيهما ، ثم قال أيكما أجرأ عليه وأجود سيفا ؟ قال الغطفاني : أنا . فأخذه ومشى معه ليدله بزعمه على البراض ، فقال للغنوي : احفظ راحلتيكما ، ففعل ، وانطلق البراض بالغطفاني حتى أخرجه إلى خربة في جانب خيبر خارجا من البيوت ، فقال للغطفاني : هو في هذه الخربة إليها يأوي فأمهلني حتى أنظر أهو فيها . فوقف ودخل البراض ثم خرج فقال : هو فيها وهو نائم ، فأرني سيفك حتى أنظر إليه أضارب هو أم لا ، فأعطاه سيفه ، فضربه به حتى قتله ثم أخفى السيف ، وعاد إلى الغنوي فقال له : لم أر رجلا أجبن من صاحبك ، تركته في البيت الذي فيه البراض وهو نائم فلم يقدم عليه . فقال : انظر لي من يحفظ الراحلتين حتى أمضي إليه فأقتله ، فقال : دعهما وهما علي ، ثم انطلقا إلى الخربة ، فقتله وسار بالعير إلى مكة ، فلقي رجلا من بني أسد بن خزيمة ، فقال له البراض : هل لك إلى أن أجعل لك جعلا على أن تنطلق إلى حرب بن أمية وقومي فإنهم قومي وقومك ، لأن أسد بن خزيمة من خندف أيضا ، فتخبرهم أن البراض بن قيس قتل عروة الرحال ، فليحذروا قيسا ! وجعل له عشرا من الإبل . فخرج [ ص: 530 ] الأسدي حتى أتى عكاظ وبها جماعة من الناس ، فأتى حرب بن أمية فأخبره الخبر ، فبعث إلى عبد الله بن جدعان التيمي وإلى هشام بن المغيرة المخزومي ، وهو والد أبي جهل ، وهما من أشراف قريش وذوي السن منهم ، وإلى كل قبيلة من قريش أحضر منها رجلا ، وإلى الحليس بن يزيد الحارثي ، وهو سيد الأحابيش ، فأخبرهم أيضا . فتشاوروا وقالوا : نخشى من قيس أن يطلبوا ثأر صاحبهم منا فإنهم لا يرضون أن يقتلوا به خليعا من بني ضمرة . فاتفق رأيهم على أن يأتوا أبا براء عامر بن مالك بن جعفر بن كلاب ملاعب الأسنة ، وهو يومئذ سيد قيس وشريفها ، فيقولوا له : إنه قد كان حدث بين نجد وتهامة وإنه لم يأتنا علمه فأجز بين الناس حتى تعلم وتعلم .

فأتوه وقالوا له ذلك ، فأجاز بين الناس وأعلم قومه ما قيل له ، ثم قام نفر من قريش فقالوا : يا أهل عكاظ إنه قد حدث في قومنا بمكة حدث أتانا خبره ، ونخشى إن تخلفنا عنهم أن يتفاقم الشر ، فلا يروعنكم تحملنا . ثم ركبوا على الصعب والذلول إلى مكة . فلما كان آخر اليوم أتى عامر بن مالك ملاعب الأسنة الخبر فقال : غدرت قريش وخدعني حرب بن أمية ، والله لا تنزل كنانة عكاظ أبدا . ثم ركبوا في طلبهم حتى أدركوهم بنخلة فاقتتل القوم ، فاشتعلت قريش فكادت قريش تنهزم إلا أنها على حاميتها تبادر دخول الحرم ليأمنوا به . فلم يزالوا كذلك حتى دخلوا الحرم مع الليل ، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معهم ، وعمره عشرون سنة .

وقال الزهري : لم يكن معهم ، ولو كان معهم لم ينهزموا ، وهذه العلة ليست بشيء ، لأنه قد كان بعد الوحي والرسالة ينهزم أصحابه ويقتلون ، وإذا كان في جمع قبل الرسالة وانهزموا فغير بعيد .

ولما دخلت قريش الحرم عادت عنهم قيس وقالوا لهم : يا معشر قريش إنا لا نترك دم عروة وميعادنا عكاظ في العام المقبل ، وانصرفت إلى بلادها يحرض بعضها بعضا ويبكون عروة الرحال .

ثم إن قيسا جمعت جموعها ، ومعها ثقيف وغيرها ، وجمعت قريش جموعها ، منهم كنانة جميعها والأحابيش وأسد بن خزيمة ، وفرقت قريش السلاح في الناس ، فأعطى [ ص: 531 ] عبد الله بن جدعان مائة رجل سلاحا تاما ، وفعل الباقون مثله .

وخرجت قريش للموعد ، على كل بطن منها رئيس ، فكان على بني هاشم : الزبير بن عبد المطلب ومعه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإخوته أبو طالب وحمزة والعباس بنو عبد المطلب . وعلى بني أمية وأحلافها : حرب بن أمية . وعلى بني عبد الدار : عكرمة بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار . وعلى بني أسد بن عبد العزى : خويلد بن أسد . وعلى بني مخزوم : هشام بن المغيرة أبو أبي جهل . وعلى بني تيم : عبد الله بن جدعان . وعلى بني جمح : معمر بن حبيب بن وهب . وعلى بني سهم : العاص بن وائل . وعلى بني عدي : زيد بن عمرو بن نفيل والد سعيد بن زيد . وعلى بني عامر بن لؤي : عمرو بن عبد شمس والد سهيل بن عمرو . وعلى بني فهر : عبد الله بن الجراح والد أبي عبيدة . وعلى الأحابيش : الحليس بن يزيد وسفيان بن عويف هما قائداهم ، والأحابيش بنو الحارث بن عبد مناة : كنانة وعضل والقارة والديش من بني الهون بن خزيمة والمصطلق بن خزاعة ، وسموا بذلك لحلفهم بني الحارث ، والتحبش التجمع . وعلى بني بكر : بلعاء بن قيس . وعلى بني فراس بن غنم من كنانة : عمير بن قيس جذل الطعان . وعلى بني أسد بن خزيمة : بشر بن أبي حازم . وكان على جماعة الناس حرب بن أمية لمكانه من عبد مناف سنا ومنزلة .

وكانت قيس قد تقدمت إلى عكاظ قبل قريش ، فعلى بني عامر ملاعب الأسنة : أبو [ ص: 532 ] براء . وعلى بني نصر سعد وثقيف : سبيع بن ربيع بن معاوية . وعلى بني جشم : الصمة والد دريد . وعلى غطفان : عوف بن أبي حارثة المري . وعلى بني سليم : عباس بن زعل بن هني بن أنس . وعلى فهم وعدوان : كدام بن عمرو .

وسارت قريش حتى نزلت عكاظ وبها قيس . وكان مع حرب بن أمية إخوته : سفيان وأبو سفيان والعاص وأبو العاص بنو أمية ، فعقل حرب نفسه وقيد سفيان وأبو العاص نفسيهما وقالوا : لن يبرح رجل منا مكانه حتى نموت أو نظفر ، فيومئذ سموا العنابس ، والعنبس الأسد .

واقتتل الناس قتالا شديدا ، فكان الظفر أول النهار لقيس ، وانهزم كثير من بني كنانة وقريش . فانهزم بنو زهرة وبنو عدي ، وقتل معمر بن حبيب الجمحي ، وانهزمت طائفة من بني فراس ، وثبت حرب بن أمية وبنو عبد مناف وسائر قبائل قريش ، ولم يزل الظفر لقيس على قريش وكنانة إلى أن انتصف النهار . ثم عاد الظفر لقريش وكنانة فقتلوا من قيس فأكثروا ، وحمي القتال واشتد الأمر ، فقتل يومئذ تحت راية بني الحارث بن عبد مناة بن كنانة مائة رجل وهم صابرون ، فانهزمت قيس ، وقتل من أشرافهم عباس بن زعل السلمي وغيره . فلما رأى أبو السيد عم مالك بن عوف النصري ما تصنع كنانة من القتل نادى : يا معشر بني كنانة أسرفتم في القتل . فقال ابن جدعان : إنا معشر يسرف .

ولما رأى سبيع بن ربيع بن معاوية هزيمة قبائل قيس عقل نفسه واضطجع وقال : يا معشر بني نصر قاتلوا عني أو ذروا . فعطفت عليه بنو نصر ، وجشم ، وسعد بن بكر ، وفهم ، وعدوان ، وانهزم باقي قبائل قيس ، فقاتل هؤلاء أشد قتال رآه الناس . ثم إنهم تداعوا إلى الصلح فاصطلحوا على أن يعدوا القتلى فأي الفريقين فضل له قتلى أخذ ديته من الفريق الآخر ، فتعادوا القتلى فوجدوا قريشا وبني كنانة قد أفضلوا على قيس عشرين رجلا ، فرهن حرب بن أمية يومئذ ابنه أبا سفيان في ديات القوم حتى يؤديها ، [ ص: 533 ] ورهن غيره من الرؤساء ، وانصرف الناس بعضهم عن بعض ، ووضعوا الحرب وهدموا ما بينهم من العداوة والشر ، وتعاهدوا على أن لا يؤذي بعضهم بعضا فيما كان من أمر البراض وعروة .

التالي السابق


الخدمات العلمية